علم الفوضى

علم الفوضى

سلسلة‭ ‬اماذا‭ ‬أعرف؟ب‭ ‬QUE SAIS-JE؟‭ ‬الفرنسية‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬سلاسل‭ ‬الكتب‭ ‬العالمية‭ ‬وأشهرها،‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬حضورها‭ ‬الفاعل‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬العلم‭ ‬والفلسفة‭ ‬والفكر‭ ‬والتاريخ‭ ‬والفن‭ ‬ومنابع‭ ‬المعرفة‭ ‬عموماً،‭ ‬التزمت‭ ‬بمعايير‭ ‬رفيعة‭ ‬وصارمة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تنشر‭ ‬من‭ ‬مختارات‭ ‬جعلت‭ ‬منها‭ ‬منارة‭ ‬ساطعة‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬الثقافة‭.‬

ومنذ‭ ‬عقود‭ ‬بعيدة،‭ ‬أقدمت‭ ‬جهات‭ ‬عربية‭ ‬عديدة‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬عناوين‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬السلسلة،‭ ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬أحد‭ ‬هذه‭ ‬العناوين‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬االعقلب‭ ‬الذي‭ ‬أصدرته‭ ‬في‭ ‬طبعة‭ ‬ثانية‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬لبنانية‭ ‬هي‭ ‬االمنشورات‭ ‬العربيةب‭ ‬عام‭ ‬1989،‭ ‬وهو‭ ‬رقم‭ ‬39‭ ‬في‭ ‬السلسلة‭ ‬المترجمة‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬والتي‭ ‬بلغت‭ ‬حتى‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬72‭ ‬كتاباً،‭ ‬أولها‭ ‬انشأة‭ ‬البشريةب‭ ‬وآخرها‭ ( ‬رقم‭ ‬72‭) ‬االخزينة‭ ‬والمحاسبة‭ ‬في‭ ‬الشركاتب،‭ ‬ويبدو‭ ‬لافتاً‭ ‬البَون‭ ‬الشاسع‭ ‬بين‭ ‬العنوانين،‭ ‬ومروراً‭ ‬بطيف‭ ‬مواضيع‭ ‬معرفية‭ ‬لا‭ ‬تهمل‭ ‬ركناً‭ ‬أو‭ ‬زاوية‭ ‬إلا‭ ‬وتلقي‭ ‬عليه‭ ‬الضوء‭.‬

وكي يُلم القارئ بانفتاح حدود ذلك الطيف، نذكر بعض عناوين وأرقام تلك السلسلة اللبنانية التي يبدو أن «المنشورات العربية» قد حصلت على حقوق ترجمتها إلى اللغة العربية: الفلسفة الفرنسية (8)، الكون (9)، مصر القديمة (15)، اللغة والفكر (12)، الإسلام (18)، النفط (20)، الموسيقى العربية (26)، سوسيولوجية الثورات (38)، اللاوعي (44)، الماسونية (55)، الماركسيات بعد ماركس (59)، الوجودية (62)، لغة الحاسبات الإلكترونية (69).

أخيراً، أقدمت «مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية» بالتعاون مع مجلة «المجلة العربية» في المملكة العربية السعودية على خطوة مماثلة لإصدار السلسلة السعودية من «ماذا أعرف؟»، إذ حصلت «المدينة» على حقوق ترجمة مختارات من هذه السلسلة العريقة، ومنها كتاب «علم الفوضى» للكاتب فرنسوا لورسا، ترجمة زينا مغربل، ومراجعة د.شمس الدين خياري.

 

لمحة‭ ‬عن‭ ‬سلاسل‭ ‬الكتب‭ ‬العربية

 يعرف القاصي والداني سلسلة «اقرأ» التي أصدرتها دار المعارف في مصر، واستقى جيلنا حتى ارتوى الكثير من عذب مائها المعرفي والثقافي، وهي على غرار «ماذا أعرف؟» صغيرة الحجم، ومتنوعة، وفلسفتها تقوم على تبسيط الفكر الأكاديمي العربي والعالمي وتقديمه للقارئ بلغة معاصرة. 

وعلى هذا المنوال صدرت سلاسل كثيرة في العالم العربي، منها: «روايات الهلال» و«نوابغ الفكر العربي» و«نوابغ الفكر الغربي» و«كتابي» و«كتابك» و«الألف كتاب» و«الكتاب الماسي» و«أعلام الموسيقى».

 وتشير الدراسات إلى أن مصر العربية كانت سبّاقة في هذا الميدان، إذ أصدرت وحدها ثمانين سلسلة، تحضر وتغيب. ولكن واسطة العقد في عالم سلاسل الكتب، كانت ولا تزال، سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية التي أسّست لمفاهيم وقواعد راسخة في حقل الجهد المعرفي، وأضافت إلى المكتبة العربية ما لا يُنْسى من عناوين باقية.

 

‮«‬ماذا‭ ‬أعرف؟‮»‬‭ ‬السعودية‭ ‬

حصلت على خمسة أعداد من هذه السلسلة السعودية الجديدة هي على التوالي وفقاً لأرقام الإيداع، وذلك لأن الناشر لم يشأ إعطاء الكتب أرقاماً متتابعة كما جرت العادة في سلاسل الكتب: طب الشيخوخة، علم الفوضى، الأحجار النيزكية، الاندماج النووي، طب المعالجة بتقويم العظام. ونحاول في هذا المقال عرض الأفكار الرئيسة للكتاب الثاني في هذه القائمة.

مؤلف الكتاب أستاذ فخري في جامعة باريس 11، وخبير مختص في الفيزياء، وله كتب عدة في هذا الميدان، منها واحد عن نيلز بور وفيزياء الكم، وثان عن سلطة العلم Lautorite de la science، وآخر حول انتحار العلم Le Suicide de la science . 

وعلم الفوضـــى في جــــوهره أحد حقول الرياضيات، وغير بعيد أيضاً عن المبادئ الفلسفية للفــــيزياء منذ غاليليو إلى نيوتن. 

وإذا جرّدنا لغة العلـــم من حياديتــــها في توصــيف الظواهر، فــــإن المعطى العام لهــــذا العلم يتحدد بأنه النقيض والضــــد لمبدأ الحتـــمية، وانطلاقاً من هذا التقابل جاء عنوان كتاب «الفوضى والحتمية» Chaos et determinisme الذي يعتبره المؤلف فرنسوا لورسا كتاباً جامعاً ومرجعاً شاملاً في هذا الموضوع.

الفصول الخمسة من الكتاب تَبْسط أمام القارئ الصورة العامة لعلم الفيزياء «الكلاسيكي» ونظرته إلى قوانين علم الحركة والكون، والأسئلة التي ما فتئ علم الفيزياء يقف أمامها حائراً، أو يجهل كيفية العثور على أجوبة شافية لها. ومن هذا القصور الوظيفي، بدأ الشك بحتمية ويقينية العلم وقضاياه ونتائجه الحاسمة المفترضة، يتسرَّب إلى فكر «بوانكاريه»، وكانت هذه الفاتحة خطوة أولى لوضع حجر الأساس لعلم الفوضى الذي يمكن تعريفه بأربع كلمات هي عنوان الفصل الثالث للكتاب: «الخواص العشوائية للأنظمة الحتمية».

 

فلسفة؟‭ ‬أم‭ ‬نظرية؟‭ ‬أم‭ ‬منهج؟‭ ‬

 مقولة «العلم عدو الاحتمال وعــدو المصادفة» لم تعد راسخة تماماً، إذ إن الحــسابات الرياضية لمعضلات الفــــيزياء تكــــتفي بست خانات من الكسر العُشْري، وتجاوز هذه الخانات بكثير ينسف الحتمية من أساسها. إن اليقين الظاهري للعلم يتحصَّن ببدهيتين اثنتين:

1- ثبات الظروف الابتدائية لأي نظام يؤدي إلى نتائج متطابقة.

2- إهمال الأثــــر الطفيف لعنصــــر ضئـــيل في منظومة عناصر فيزيائــية ضخـــمة ومعقدة. 

بالنسبة للبدهية الأولى توصل الفيزيائي البريطاني جيمس ماكسويل إلى «أن ثمة حالات يمكن فيها لتغير طفيف في الظروف الابتدائية أن يحدث تغييراً كبيراً جداً في الحالة النهائية للنظام» (ص25).

أما البدهية الثانــــية فتشرحها مسألة الأجسام الثـــــلاثة كما عالجـها «بوانكاريه»، وكما ناقشها إدوارد لورنز في كتابه «كنه الفوضى» The essence of Chaos: «لنفـــــترض في البداية أن لأحــــد هذه الأجسام الثلاثة كتــلة قابلة للإهمال إذا ماقـــــورنت بكــتل الجسمين الآخرين، قد تكون على سبيل المثال ذرة غبار كوني تتحرك بجوار الكرة الأرضيـــــة والقـــــمر» (ص 30). 

إن تجاهل كتلة «ذرة الغبار الكوني» لا يلغي الحقيقة العلمية القائلة إن لهذه «الذرة» مسارها في مستوى حركة الجسمين العملاقين بالنسبة لها، أي الأرض والقمر.

نحن هنا أمام مثلث قوامه ثلاثة أضلاع تتمثل في المنهج والنظرية والفلسفة معاً، نستطيع بموجبها إجراء مقاربات تكفل للعلوم المادية والإنسانية سُبل التقدم والارتقاء، وهو فعلاً الذي يحدث منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ صار لزاماً أن يكون علم الفوضى سنداً خفياً لإعادة الاعتبار للحتمية، وهو الذي يستقي وجوده وحضوره من مناهضتها. ويعني ذلك أن مسارات العلوم قاطبة تنطوي على «اللا متوقَّع»، وهذا التعريف هو ترجمة أخرى لـ «علم الفوضى»، أو «الشواش»، أو «الكيوس»، أو «الاضطراب»، أو «العشوائية»، وأحد الأكاديميين تجاسر واستعان بالعامية فترجمه إلى «الهَرْجَلة»!

 

خاتمة‭ ‬وتعقيب

الفصول الخمسة الأولى من الكتاب تحتاج إلى ثقافة علــمية مــــقبـولة لإدراك دلالات الرسوم التوضيحــية لعلم التحـريك وفيزياء الكون ومعــادلات الطاقـــة وحــساباتها وإنجازات روادها (البعض يرد تاريــــخ العـلم إلى اليونان والبعض الآخر إلى عام 1970) التـــي تؤكـد رسوخ علم الفوضى حتى في مجـموعتنا الشمسية التي استقـر مظهرها العام في معارفنا منذ نيوتن وكوبرنيكوس وكبلر وغيرهم.

الفصلان الأخيران يتناولان بعض ظواهر علم الفوضى، والأمثلة التي يذكرها المؤلفون في كتبهم لتقريب صورة العلم إلى الأذهان: الصنبور وتتابع سقوط قطرات الماء، توقعات مراكز الأرصاد الجوية ومواقع السُّحُب. ويجيل الكاتب نظره في ماضي ومستقبل هذا العلم، متسائلاً: هل تمثل الفوضى ثورة علمية؟ (ص104). لكنه لا يغالي كثيراً في الانحياز حين يعترف قائلاً: فالفوضى كانت ولاتزال تسفر عن ضروب من الهذيان... ومبدأ الهذيان بشأن الفوضى بالغ البساطة: هو الجزم بأن كل شيءٍ فوضى (ص 106).

والكتاب في النهاية خفيف وطريف على قراء العلوم، وقد علَّمتنا فلسفة العلم أنه حين تتعدد تسميات علم من العلوم، فهذا دلالة على بعض الغموض الذي يكتنفه، وهو ما أراه شخصياً في هذا العلم. وستبقى مقولة «يوجين ويغنر»: «إن إعجاز دلالة لغة الرياضيات في صياغة قوانين الفيزياء هو هبة بديعة لا نفقهها ولا نستحقها» تعبيراً عن الوحدة العضوية بين علمي الفيزياء والرياضيات. 

لكن حماسي العلمي يقل حين أسمع ما يقال عن «أثر الفراشة» Butterfly effect الذي يردده المدافعون بشراسة عن علم الفوضى، ومفاده: إن رفة جناح فراشة في طوكيو قد تُحدث زلزالاً في نيويورك!

ملاحظة: ليس غريباً بعد ذلك أن يسطو الشاعر على مصطلح علمي مجازي النكهة، فيذهب محمود درويش إلى عنونة يومياته بـ «أثر الفراشة»، ويكتب في القصيدة التي تحمل العنوان نفسه:

أَثَرُ‭ ‬الفراشة‭ ‬لا‭ ‬يُرى

أَثَرُ‭ ‬الفراشة‭ ‬لا‭ ‬يزولُ

هو‭ ‬جاذبيّةُ‭ ‬غامِضٍ

يستدرجُ‭ ‬المعنى،‭ ‬ويرحلُ

حين‭ ‬يَتَّضح‭ ‬السبيلُ .