العِلْم في مجتمع ديمقراطي

العِلْم في مجتمع ديمقراطي

لطالما‭ ‬انشغلت‭ ‬فلسفة‭ ‬العلم‭ ‬طوال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بقضايا‭ ‬ومشكلات‭ ‬تقليدية‭ ‬تتعلق‭ ‬بالمنطق‭ ‬ونظرية‭ ‬المعرفة‭ ‬ومناهج‭ ‬البحث‭ ‬العلمي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ظهر‭ ‬أخيراً‭ ‬تيار‭  ‬يركز‭ ‬اهتمامه‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬جديدة‭ ‬ذات‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالمجتمع‭ ‬وشؤونه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مطروحة‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬مثل‭ ‬علاقة‭ ‬العلم‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬والقيم‭ ‬والأخلاق‭.‬

هذا‭ ‬التيار‭  ‬آخذ‭ ‬في‭ ‬التوسُّع‭ ‬والنمو‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬ولعل‭ ‬أبرز‭ ‬رموزه‭ ‬وممثليه‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزي‭ ‬فيليب‭ ‬كيتشر‭ ‬Philip Kitcher؛‭ ‬مؤلِّف‭ ‬كتاب‭ ‬االعلم‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ديمقراطيب،‭ ‬الصادر‭  ‬في‭ ‬2011‭. ‬يعمل‭ ‬فيليب‭ ‬كيتشر‭  ‬الآن‭  ‬أستاذاً‭ ‬للفلسفة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كولومبيا‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وقد‭ ‬عمل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬وسان‭ ‬دييجو‭  ‬ومينيسوتا‭. ‬وتتركّز‭ ‬اهتماماته‭ ‬وكتاباته‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬العلم‭ ‬وفلسفة‭ ‬الرياضيات‭ ‬وفلسفة‭ ‬البيولوجيا،‭ ‬وأخيراً‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬الأخلاق‭ ‬وعلاقة‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬بالمجتمع‭ ‬والقيم‭ ‬الديمقراطية‭.‬

‭ ‬

يقع كتاب «العلم في مجتمع ديمقراطي» في 270 صفحة من القطع الكبير، وينقسم إلى تسعة فصول؛ الفصل الأول بمنزلة رؤية عامة لملامح القضية الأساسية التي يتناولها، وهي قضية تراجع مسألة الصدقية في البحث العلمي، وفكرة أنه ينبغي ألا يخضع للرقابة أو لأحكام القيمة، ثم يأتي الفصل الثاني ليتناول بالتفصيل موضوع القيم والأحكام القيمية وعلاقتها بالعلم والأخلاق.  أما الفصل الثالث، فيتناول مسألة الديمقراطية وكيف يمكن للعلم الإسهام في ترسيخ القيم الديمقراطية ومواجهة القمع وتقييد الحريات. ويُقدم الفصل الرابع مقاربة لكيفية تطوير نظام متماسك للمعرفة العامة، كما يتتبع تاريخ هذه المعرفة وتطورها. أما الفصول من الخامس إلى الثامن، فهي جوهر الكتاب ومحوره الأساس، حيث يعرض فيها كيتشر نظريته الخاصة حول العلم في مجتمع ديمقراطي، ويُطلق عليها «العلم جيد التنظيم». ثم يأتي الفصل التاسع والأخير كتطبيق عملي لهذه النظرية على قضايا واقعية راهنة يواجهها العالم المعاصر.

يقدم كيتشر في هذا الكتاب أطروحات جديدة يتناول فيها مشكلات تتعلق بفلسفة العلم وأخلاقيات البحث العلمي وقيم الديمقراطية والمشاركة المجتمعية وقضايا مثل الهندسة الوراثية وتغير المناخ. ظهرت بوادر هذه الأطروحات الجديدة وخطوطها العامة في بعض أعمال كيتشر من قبل، مثل «العلم والصدق والديمقراطية» 2001، و«المشروع الأخلاقي» 2011، ولكن كيتشر يتابع هنا صوغ نظرية متكاملة جديدة أطلق عليها «العلم جيد التنظيم»، تمثل جوهر الكتاب وأساسه. ويرى كيتشر أن القضايا الجديدة التي يناقشها الكتاب تمثل أعراضاً لمشكلة أساسية معقدة، وهي كيف يمكن التكامل والجمع بين العلم والقيم الديمقراطية في المجتمعات الحديثة.

 

القيم‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والمعرفة‭ ‬العامة

هناك شكوك متزايدة اليوم تجاه العلم وصدقيته، حيث لا يبالي معظم الناس بالعلم في حد ذاته، إنما بآثاره على حياتهم، وذلك نتيجة للنزعة العلموية التي تبالغ في تقدير المزايا الاجتماعية للعلم، وتؤكد أن العلم (والجماعة العلمية) ينبغي ألا يخضع لأي رقابة أو أحكام قيمية. وهنا يقدم كيتشر أطروحة بديلة تقول إن القيم والأحكام القيمية مُترسِّخة في الممارسات العلمية ولا تنفصل عنها، سواء كانت قيماً عامة ومطلقة تخص الفرد والمجتمع، مثل الحرية والعدالة والديمقراطية، أو قيماً معرفية تعبر عن الالتزام باكتساب وتحصيل أنواع محددة من المعرفة ذات أهمية خاصة لشخص ما أو لمجتمع ما يواجه قضايا ومشكلات مُلحَّة خاصة به، أو قيماً تتعلق بتحديد أي نوع من المشكلات والقضايا تكون له الأولوية في التناول والبحث عن حلول. كما يمكن الارتقاء بدور المبادئ الأخلاقية في البحث العلمي من خلال النظر إلى الأخلاق باعتبارها «تقنية اجتماعية» تسمح لنا بالتحرر من صعوبات المأزق الإنساني الذي نجد أنفسنا فيه، وتساعدنا في التغلب على المشكلات الناجمة عن الميول الأنانية والذاتية في طبيعتنا الإنسانية. ومن ثمَّ، يمكن للقيم والأخلاق أن تكون فاعلة في دائرة العلم من خلال مشاركة المجتمع بالحوار والنقاش في القضايا العلمية التي تمسُّ حياتهم، مع التأكيد على أنه كما تغيرت طبيعة المجتمع المعاصر فكذلك ينبغي أن تتغير القضايا التي يتناولها الحوار الذي تلعب فيه القيم والأخلاق دوراً أساسيّاً.

ويُقدم فيليب كيتشر تصوُّراً للديمقراطية، يؤكد دور العلم والمعرفة العامة في مواجهة القمع الذي لا يمكن تحديد مصدره، الذي ينشأ في المجتمعات الحديثة حينما لا يدرك المواطنون الذين يذهبون إلى صناديق الاقتراع ما الذي يحدث بالضبط، وأن هناك قوى أكبر منهم تسيطر تماماً على الأجندة أو البرامج السياسية وعمليات صنع القرار. ينتقد كيتشر هذا الشكل من الديمقراطية السلبية التي تقتصر على التصويت، ويركز على الديمقراطية الإيجابية التي تدافع عن مبادئ الحرية والمساواة، حتى على مستوى المعرفة. ويمكن تدعيم هذا النمط من الديمقراطية والقضاء على القمع والحد منه عن طريق تحسين جوانب القصور والنقص في المعرفة العامة. يقصد كيتشر بالمعرفة العامة مجموعةَ المعارف المشتركة التي يعتمد عليها الناس في إنجاز مشروعاتهم، التي يدخل ضمنها مختلف أنماط البحث والعلوم الطبيعية والإنسانية والأدب والفن والموسيقى... إلخ. فإذا توافر للمواطنين نظام مزدهر وكافٍ من المعرفة العامة، فإنه يصبح بمقدورهم المشاركة بفعالية في القرارات والعمليات السياسية التي تؤثر على حياتهم وتمس شؤونهم.

ولكن ما شكل نظام المعرفة العامة؟ وكيف اختلف نظام المعرفة العامة في المجتمع الحديث عن المجتمعات القديمة؟ يرى كيتشر أن الاحتفاظ بالمعرفة العامة ونقلها في المجتمعات القديمة كانا يعتمدان على ذاكرة الأفراد والاحتياجات العملية لمجموعة صغيرة من الناس، ومع توسع المجتمع الحديث وتعقده وتقسيم العمل وتراكم المعرفة، لم تعد الذاكرة الفردية تكفي لحفظ المعرفة العامة أو نقلها. وهنا جاء اختراع الكتابة ليتيح الفرصة لتدوين المعارف وتوثيقها وتوفير مخزون عام منها. وفي الوقت الراهن، يُـــمثِّل العلم ومؤسساته العمود الفقري للمعرفة العامة التي تقف حارساً ضد القمع الذي يقع على الناس ويُقيِّد الحريات، سواء كانوا على علم بوجود هذا القمع أو لا داخل دائرة صنع القرار السياسي.

 

العلم‭ ‬جيد‭ ‬التنظيم

يقول كيتشر إن الهدف الأساسي من كتابه هو إيجاد طريقة للتكامل والجمع بين آراء الخبراء المتخصصين والعلماء من ناحية، والقيم الديمقراطية من ناحية أخرى. ويُقدم كيتشر أطروحته الجديدة حول هذه الطريقة من خلال مفهوم «العلم جيد التنظيم»  well-ordered science. يستند كيتشر هنا إلى مفهوم «المجتمع جيد التنظيم» well-ordered society، الذي قدمه الفيلسوف الأمريكي جون رولز. يرى كيتشر أن العلم يكون جيد التنظيم عندما يكون تحديده للمشكلات التي سيتناولها بالبحث سيتم من خلال حوار نموذجي يمثل ويجسِّد كل وجهات النظر والآراء المختلفة. هذا الحوار يجري عبر مشاركة مجتمعية واسعة، تضم مشاركين على دراية بالتقاليد العلمية وبطبيعة القضايا والأبحاث المطروحة، وذلك لأن نتائج هذه الأبحاث تؤثر في حياتهــــــم وفي الأجيال القادمة. هذه المشاركة المجتمـــعية تُمثِّل نوعاً من الرقابة الديمقراطية على العلماء ومزاعمهم وأبحاثهم، وفي الوقت ذاته، لا تُعتبر تقييداً للعلماء أو تحديداً مسبقاً لخطوات وإجراءات البحث العلمي ونتائجه. ومن ثمَّ، فالمجتمع يشارك في الأهداف العامة الواسعة في جو من الشفافية والحوار المتبادل. ويعترف كيتشر بأن هذه المقاربة مثالية إلى حد كبير، ويصعب تحقيقها عملانياً، ولكنه يأمل أن يساعدنا استيعاب هذه المقاربة المثالية وفهمها على تحسين ممارساتنا في الواقع.

كذلك، ثمة قضية مهمة تترتب على المشاركة المجتمعية عبر نموذج العلم جيد التنظيم، وهي توثيق مزاعم الجماعة العلمية، والتحقق من مدى صدقيتها، ومن ماهيّة النتائج المنضوية داخل نظام المعرفة العامة. ويقول كيتشر إن العلماء أحياناً يضعون بعض المزاعم والنتائج الزائفة لسببين، أولهما تعمُّد التزييف والخداع، وعادة ما تحول الجماعة العلمية دون وقوع هذا الأمر عبر التنظيم الذاتي، وثانيهما وجود نوع من العنصرية والتحيزات العرقية والاجتماعية التي تساهم أحياناً في تشكيل المفاهيم والمناهج والممارسات العلمية الزائفة عند دراسة السلوك الإنساني داخل مجتمع ما، ويمكن كشف هذا الأمر عبر نقاش مجتمعي مُوسَّع، يضم وجهات نظر متعددة، ويساهم فيه الأشخاص ذاتهم الذين كانوا موضوعاً للدراسة والبحث. وهكذا، يكون النقاش والمشاركة المجتمعية جزءاً مما يُسميه كيتشر «الشفافية النموذجية»، التي تقتضي أن يقبل كلٌّ من العلماء والأفراد من خارج الجماعة العلمية بالمناهج والإجراءات والأحكام المستخدمة في عملية التوثيق والتحقق من صدقية المزاعم العلمية.

ولكن، هل لدى أفراد المجتمع دراية كافية وفهم للعلم والبحث العلمي حتى يشاركوا في هذه الرقابة الديمقراطية؟ يرى كيتشر أن المشكلة تكمن في القيود المفروضة على الوصول إلى المعرفة العامة بشكل عام، والمعرفة العلمية بشكل خاص. وعند رفع هذه القيود وتحسين الوصول إلى المعرفة العامة والمعرفة العلمية، فإن هذا يعمل على دعم المبادئ والمُثُل الديمقراطية عبر توفير فرص أكبر للناس لإنجاز مشروعاتهم، وتحسين فهمهم لما يمكن للبحث العلمي أن يقدمه ولأهمية المعرفة والعلم في حياتهم. ويقترح كيتشر طريقتين للارتقاء بمستوى المجتمع في فهم العلم واستيعابه؛ الأولى التوسع في نقل وتوصيل المعرفة العلمية إلى الناس، وهنا ينبغي تشجيع العلماء وحثهم على التواصل مع المجتمع لكي تصل أبحاثهم إلى الناس، ولإزالة الحاجز بينهم وبين المجتمع، وكذلك رفع القيود المفروضة على الوصول إلى الأبحاث العلمية والمعرفة العامة. والثانية يسميها كيتشر «المقاربة الديمقراطية»، التي تعارض وجود أي حاجز تُخفي وراءه الجماعة العلمية الفوارق والاختلافات التي تميزها عن بقية المجتمع، وتؤثر بدلا من ذلك وجود نقاش عام وحوار مجتمعي مفتوح ومُعلن تماماً، أو وجود مُمثِّلين عن المجتمع  لإطلاعهم على ما يجري في الكواليس داخل الجماعة العلمية. كلُّ ما سبق يقتضي وجود قيم ديمقراطية تقبل بالتعددية والاختلاف وجو من الشفافية ورفع القيود المفروضة على الوصول للمعرفة العامة والعلمية.

يختتم كيتشر الكتاب بفصل يتناول فيه قضايا راهنة، مثل تاريخ الحياة (نظرية التطور)، والتقانة الحيوية والطب الحيوي وتغير المناخ وتقنيات الهندسة الوراثية (مثل الاستنساخ وزراعة الأعضاء وإنتاج الأغذية المُهجَّنة)، وهي قضايا تتداخل فيها دوائر العلم والأخلاق والسياسة، حيث يمكن مثلاً توظيف تطبيقات الهندسة الوراثية لمصلحة أجندات اقتصادية معينة، أو حتى لمصلحة أجندات سياسية وعسكرية، مثل إنتاج الأسلحة البيولوجية. ويحاول في مناقشته تلك القضايا تطبيق نموذج العلم جيد التنظيم لإيجاد واقتراح حلول لتلك القضايا المُلحَّة من خلال التكامل بين العلم وقيم الديمقراطية. وأخيراً، يؤكد كيتشر في نهاية الكتاب ضرورة وجود حوار حقيقي مُثمر، وضرورة التكامل بين العلم والأخلاق وقيم الديمقراطية، وأن ما قدمه في الكتاب مجرد مُخطَّط عام قابل للنقاش وليس برنامجاً نهائيّاً ثابتاً .