القيمة المعرفية لرحلة ابن بطوطة

القيمة المعرفية لرحلة ابن بطوطة

تمثّل الرحلة في مدوّنة تراثنا الأدبي والتاريخي والثقافي والجغرافي أنصع وأمتع الصفحات التي تجتذب القارئ والمثقف والباحث؛ فهي تُعدّ من ألذّ الفنون السردية وأعذبها. وتكمن أهميّة هذا الفن في جوانب متعدّدة.. منها التعارف بين الشعوب والثقافات والحضارات، ومنها كذلك صقل الشخصية وكسب تجارب ومهارات وثقافات ومسالك إنسانية غنيّة بالدلالات، وهذا ليس وقفاً على مَن قام بالرحلة فحسب، وإنما أيضًا بالنسبة لدارس وقارئ هذا اللون من الفن السردي البديع.

وتُعدّ رحلة الرحالة المغربي ابن بطوطة الطنجي الموسومة بـ «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» أشهر وأطول رحلة عربية، نظراً لعوامل عدة، أهمّها موسوعيتها والأسلوب الذي حرص ابن بطوطة على أن يحظى به سِفْره النفيس، وكذلك شهرة هذه الرحلة في مختلف آفاق المعمورة بسبب ترجمتها إلى خمسين لغة من لغات العالم، كما يذكر المؤرخ والدبلوماسي المغربي د. عبدالهادي التازي الذي حقّق ونشر هذه الرحلة في خمسة أجزاء.

لقد بدأت رحلة ابن بطوطة في الثاني من رجب سنة 725 هـ، الموافق يوم 13 يونيو سنة 1325م. وقد بلغ من العمر حينئذ واحداً وعشرين عاماً، أي إن فكرة الرحلة سيطرت  على وجدانه وهو في مقتبل العمر، ويذكر ابن بطوطة أن الأصل في هاجس هذه الرحلة كان يتمثل في الشوق لبلوغ بيت الله الحرام والتمتّع بأداء مناسك الحج  والزيارة. 

ومما لا شكّ فيه أن عديداً من الدوافع كانت تسكن ضمير ابن بطوطة، قبل الشروع في رحلته، منها استكمال دراسته الشرعية التي لم يستكملها في مدينته طنجة، لا سيما أنه من عائلة معروفة بالانتساب إلى الفقه المالكي والاشتغال بالقضاء، ومنها أيضًا الرغبة في التعرّف على بلاد الله الواسعة وآفاق المعمورة الشاسعة، والتمعّن في عادات الشعوب وتقاليدها وأزيائها وعاداتها المتنوّعة... إلخ، وهذه الدوافع ـ كما يبدو ـ تأتي في المنزلة الثانية بعد الدافع الأول، أي الحج والأنس بمنزل الوحي، ودليل ذلك أن ابن بطوطة حجّ ستّ مرات على الأقل، ففي كلّ مرة يعود بعد سنوات من تطوافه الطويل إلى مكة لحضور موسم الحج وأداء المناسك وزيارة المدينة المنوّرة والسلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم. وكان حجّه في المرة الأخيرة  ــ أثناء الرحلة ــ سنة 749 هـ.

  ولعلّ مما يؤكد هذه الاستنتاجات أن ابن بطوطة اشتغل بالقضاء في بعض البلاد التي حلّ بها وأقام بين أهلها ردحاً من الزمن، كما هي الحال في دلهي وجزر المالديف، فلو لم يتمكّن من استكمال دراسته لما تأهّل لتلك المنزلة الجليلة. ولقد لقّبه بعضُ أهل تلك الحواضر والأقطار بلقب «شمس الدين»؛ وفي ذلك دلالة ومغزى على المرتبة الدينية والعلمية التي كان يحظى بها في تلك الديار.

وبعد تطواف طويل تجاوز ربع  قرن، قرّر العودة إلى بلده؛ إلا أنّ التجوال كما يظهر أضحى نحيزةً متأصّلة في كيانه، لأنه قام برحلات أخرى بعد عودته، أهمّها رحلته إلى الأندلس، حيث زار جبل طارق ومالقة ورندة وغرناطة، ثمّ مالي  وتمبكتو وبعض الحواضر التي كانت تُسمى إقليم السودان الغربي، مروراً بالصحراء الكبرى وضفاف نهر النيجر.

و بعد عودته من تلك الرحلة، وقد بلغ من العمر ثلاثة وخمسين عاماً تقريباً، أمر السلطان أبوعنان المريني ــ أحد ملوك الدولة المرينية بفاس ــ بتدوين رحلة ابن بطوطة، وبعض الدارسين والباحثين يعدّون هذه الرحلة وثيقة تاريخية بالغة القيمة، حيث إنها تصوّر بدقة وأمانة كثيراً من الأوضاع والأحداث في العالم الإسلامي وكثير من الأقطار الأخرى خلال القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وقد كان يُعرف من العالم يومئذ ثلاث قارات كما يشير ابن بطوطة .