بوزنان... مهد بولندا المدينة العصية التي قاومت الدمار وحفظت تراثها بحب الفنون

استقبلتني بوزنان بالمطر، منذ خرجت من بوابة المطار ذي المبنى البسيط والصغير حجماً، مقارنة بمطارات العواصم، فمنحتني إحساساً مشابهاً للإحساس بالاستقبال الودود الذي تستقبلك به مدن أوربا. في الطريق من المطار إلى الفندق الذي يقع في وسط المدينة, بدت مدينة بوزنان عاصمة مقاطعة بولندا الكبرى (Wielkopolska) والتي لا يزيد عدد سكانها على 600 ألف نسمة, كأي مدينة أوربية نمطية من حيث شيوع الغابات بأخضرها الجميل أو شكل وتصميم مساكنها وعمارتها. وحين وصلنا إلى وسط المدينة بدأ ظهور جانب من التفاوت بين المباني التاريخية العريقة وبين مبان حكومية حديثة التصميم. تبادلت الحديث مع سائق سيارة الأجرة الذي كان متقدماً في العمر, عن أحوال المدينة اليوم، مقارنة بأحوالها أيام الشيوعية, فتنهد كأنه يستعيد الذكريات، ثم قال بنوع من الإحباط إن لكل نظام مساوئه ومحاسنه، «الحكومة أيام الشيوعية كانت مسؤولة عن تعليمنا وتطبيبنا وتسكيننا, ولكن السلع كانت شحيحة وطوابير البطاطا والطماطم كانت طويلة، وكانت حريات الناس بشكل عام مكبلة، أما اليوم ونحن ننعم بالحرية واقتصاد السوق الحر فأصبحنا نتحمل أعباء توفير المصادر المالية لشراء مساكننا وتطبيب أبنائنا وتعليمهم, ونترقب بقلق معدلات التضخم ونسبة البطالة وأحوال الاقتصاد المحلي والعالمي».
وبعد أن أوصلني إلى الفندق وتسلم أجرته, نظر إلي بتمعن, وقال: تبقى الحقيقة الجلية الواقعة, أن الشيوعية ماتت والرأسمالية مستمرة.
أخذت قسطاً مـــن الراحة وخرجت من الفندق الذي كان على مدخل البلدة القديمة من جهة الغرب، لتناول وجبة عشاء خفيفة، فتغيرت الحال تماماً, إذ خيل إليَّ بأنني في مشهد سينمائي داخل سوق قديم في طريق ينحدر كلما مشيت فيه, فقد أضافت المباني الكلاسيكية التي لا يزيد عدد طوابقها على أربعة، والمزركشة بالنقشات الرومانية على جانبي الطريق رونقاً كبيرا, وبدا وكأنه سوق مصغر من أسواق روما التراثية، يحتوي على محال تبيع شتى أنواع السلع من ملابس وعطور وأجهزة إلكترونية, تتخللها محال تبيع المنتجات الحرفية, فالبلدة القديمة هي اللؤلؤة الثمينة التي تتدلى من محارة بوزنان.
بــــدت الحركــــة في الــــسوق خفــــيـــفة, ربما بسبب هطل الأمــــطار, وانتـــهاء العمل في كــــثيـــر من المحـــال فيـــه، لتجـــــاوز الوقـــت الساعة التاسعة مساء. الإنــــارة الخافـــتة في السوق خلقت لديَّ شعوراً متبايناً بين النشـــوة والحذر, تجولت في أحد المحال الحرفـــية الخاصة بالصناعات النحاسية من تماثيل وسيوف وخناجر على أشكال مختلفة ترجع إلى عهود قديمة.
أضافت المجمعات التجـــارية الحديثة التي بنيت في هذا السوق بعض الحداثة إلى عراقة المكان.
اشــــتدت ظلمة المساء وأخذ الشارع يخلو من المارة, الأمــــر الذي أرغمني على العودة للفنــــدق, معارضا خلــــجات نفسي بالمضي قدماً في هذا الشارع الجميل حتى أصل إلى نهايته.
مدينة عصية على نفسها
حين بدأت جولتي في المدينة في اليوم التالي كنت أتابع ما أراه وأنا متشوق لمعرفة الكثير عن تاريخ هذه المدينة، وخصوصا الجانب القديم منها. وقد اكتشفت أن البلدة القديمة في بوزنان نشأت واكتسبت طابعها الأول نتيجة تفاعل وتصادم الحضارات منذ لحظة ولادة بولندا في القرن العاشر الميلادي، بجانب هذه البلدة, ومن أهم معالمها: ميدان البلدة القديمة والقلعة الملكية, بالإضافة إلى المتاحف والنصب التذكارية والكنائس التي تنتشر فيها.
انقسمت بولندا بين عامي 1138 و1320 إلى دوقتين، وأصبحت بوزنان والمناطق المحيطة بها جزءاً من دوقة بولندا الكبرى (Wielkopolska). ولدت البلدة القديمة في بوزنان في القرن الثالث عشر، بالتحديد في عام 1253, عندما أصدر الدوق بزيميسل الأول «Pzemysl I» أمراً ببناء بلدة بين القلعة الملكية ونهر فارتا, وقد تم استجلاب مستوطنين من شرق ألمانيا للمساعدة في بناء البلدة.
بعد توحد بولندا عام 1320, ازدادت أهمية بوزنان, وأصبحت مركزاً تجارياً واشتهرت بتجارة الفراء، ساعدها على ذلك وقوعها على الطريق التجاري، الذي يربط بين روسيا وغرب أوربا, فبوزنان على منتصف المسافة تقريباً بين موسكو وبرلين. منذ منتصف القرن السابع عشر ومعظم القرن الثامن عشر حدثت حروب متلاحقة وفيضانات، ووقع بركان واننتشر مرض الطاعون, الأمر الذي أدى إلى حدوث الانقسام الثاني لبولندا وتحديداً في عام 1778, ووقعت بوزنان ومقاطعة بولندا الكبرى تحت سيطرة مملكة بروسيا. قامت السلطات البروسية بتوسيع حدود البلدة القديمة من خلال ضم الضواحي المحيطة بها تحت إدارتها بعد هدم أسوارها.
نابليون في بوزنان
قام القائد الفرنسي الأسطوري نابليون بونابرت بمساعدة انتفاضة بولندا الكبرى عام 1806 في طرد المحتلين البروسيين, وإعادة مقاطعة بولندا الكبرى إلى دوقة وارسو. استقبله أهل بوزنان استقبال الفاتحين، واحتفلوا معه في نوفمبر 1806 بذكرى تنصيبه امبراطوراً على فرنسا في كلية اليسوع. مر نابليون على بوزنان مرة أخرى عام 1812 أثناء قيامه بحملته الفاشلة ضد روسيا.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عادت بوزنان إلى أحضان بلدها الأم بولندا, بعد حدوث انتفاضة كبرى بها وفي ومقاطعة بولندا الكبرى، التي أدت إلى توقيع القيصر البروسي ويهلم الثاني «Wihelm II» تنازلاً عن المقاطعة في 9 نوفمبر 1918, وتم التصديق على ذلك في مؤتمر فيرساي بضغوط فرنسية ودعم صريح من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ويدرو ولسون، الذي دعم استقلال بولندا وسيادتها التامة على كامل أراضيها برفضه الطلب الألماني بضم مقاطعة بولندا الكبرى (Wielkopolska) التي تضم بوزنان, والذي أبقى أثراً طيباً في قلوب أهل بوزنان, فقاموا بتخليد ذكراه من خلال تسمية إحدى حدائقها على اسمه Park Wilsona، حيث أقيم له نصب تذكاري, فبوزنان لا تنسى أصدقاءها.
بوزنان تحت نيران النازي
ومثل أغلب دول أوربا تمثل الحرب العالمية منعطفاً تاريخياً مهماً لكل منها، والحال في هذه المدينة وفي بولندا إجمالًا لم يكن استثناء. فقد بدأت الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر عام 1939, عندما اجتاحت ألمانيا بولندا, تعرضت خلالها بوزنان لاحتلال نازي بغيض. قام النازيون بضم مدينة بوزنان إلى الرايخ الثالث لتصبح عاصمة محافظة وارتغوا Wartegau Province, وقاموا بطرد مائة ألف من مواطنيها خارجها، واستبدلوهم بمستوطنين من جمهوريات البلطيق. انتهى الاحتلال النازي بدخول الجيش الأحمر الروسي المدينة في فبراير 1945 وتحريرها, بعد أن تعرض إرث البلدة القديمة إلى دمار شبه شامل.
وقعت بولندا تحت النفوذ السوفييتي, وحكمها الحزب الشيوعي البولندي, ووقعت اتفاق حلف وارسو عام 1955. وفي العام اللاحق شهد العالم في يوم 28 يونيو 1956 أول عصيان مدني في بولندا ضد الحكم الشيوعي في مدينة بوزنان, بعد أن قام عمال الصلب والحديد في المدينة بإضراب، احتجاجاً على حقوقهم المالية.
هذا الإضراب تحول إلى تظاهرة سلمية وسط مدينة بوزنان بالقرب من القلعة الإمبراطورية، شارك فيها جموع من أهالي المدينة, وسميت هذه التظاهرة بتظاهرة الخبز والحرية وواجهتها السلطات الأمنية الشيوعية المحلية بالدبابات والرصاص،الأمر الذي أدى إلى مقتل 76 مواطنا من أهل المدينة. على أثر ذلك العصيان, انتقل العصيان في مدينة وارسو في أكتوبر من العام نفسه وانتفاضة ضد الشيوعية في المجر في نوفمبر, الأمر الذي حدا بموسكو إلى إرسال وحدات عسكرية إلى البلدين لإخماد الجماهير الثائرة على الحكم الشيوعي. تم بناء نصب تذكاري في وسط مدينة بوزنان بالقرب من البلدة القديمة، محفوراً عليه عام 1956 لتخليد ذكرى ضحايا العصيان البوزناني ضد الحكم الشيوعي. لقد سبق ربيع بوزنان ربيع براغ باثنتي عشرة سنة.
انتهى الحكم الشيوعي عام 1989 بسقوط حائط برلين وانهيار المنظومة الشيوعية. في ديسمبر 1990, تم انتخاب ليش واليسا «Lech Walesa» المناضل الوطني ورئيس نقابة العمال في الثمانينيات من القرن الماضي أثناء الحكم الشيوعي والحائز على جائزة نوبل للسلام أول رئيس بولندي منتخب في حقبة ما بعد الحكم الشيوعي. في الأول من مايو 2004 دخلت بولندا في الاتحاد الأوربي, ولكنها لم تدخل إلى الآن نطاق عملة اليورو, فمازالت عملتها الوطنية المتداولة الزلوطي.
بوزنان مدينة عصية على نفسها, أعادت بناء نفسها مرات عديدة وحافظت على تراثها بالتوثيق والأرشفة, بالرغم من التاريخ المضطرب والحروب والدمار المتكرر الذي حدث لها.
وما يلفت الانتباه بشدة في هذه المدينة طابعها الفني البارز وانتشار المتاحف بشكل ملحوظ، ومن بينها ستة متاحف تقع في البلدة القديمة فقط, أشهرها متحف بوزنان الوطني الذي يضم مقتنيات أثرية سلافية وبولندية لمقاطعة بولندا الكبرى, وكذلك المتحف العسكري لبولندا الكبرى، الذي يضم مقتنيات عسكرية من الحرب العالمية الأولى ووثائق خاصة بكفاح الشعب البولندي لتحقيق الاستقلال في عام 1918. ومن المتاحف الموجودة في البلدة القديمة متحف تاريخ مدينة بوزنان في قاعة المدينة ومتحف الأدوات الموسيقية ومتحف الفنون الجميلة ومتحف الإثنوغرافيا. من المتاحف المشهورة في مدينة بوزنان المتحف الأثري الذي يضم أكثر من 42 ألف قطعة أثرية تعود للقدماء المصريين، ولبولندا في العصور السابقة لنشأتها.
من هنا بدأت بولندا
في صباح اليوم التالي أدركت موظفة الاستقبال في الفندق شغفي واهتمامي بالتعرف على واكتشاف المدينة, فنصحتني بالبدء ببلدة أوسترو تومسكي التي لا تحوي الجذور التاريخية لمدينة بوزنان فقط، وإنما للأمة البولندية كلها, والتي يمكنني الوصول إليها قاطعاً البلدة القديمة, عابراً الجسر المار على نهر فارتا, ونصحتني بالمشي لأن الجو كان جميلاً، مؤكدة أن الكثير من السياح الأوربيين يقطعون هذه المسافة التي تتجاوز الأربعة كيلومترات في نصف ساعة تقريبا, قلت لنفسي عليَّ أن أقطع هذه المسافة بساعة زمن مكافئ حسابي عادل لنصف ساعة زمنية يقطعها سائح أوربي, فأنا مواطن خليجي قادم من بلد حار, تكاثفت الشحوم حول وسطه وتقدم به العمر قليلا. اضطررت إلى الاستعانة ببعض المارة من أهالي بوزنان لإرشادي إلى الطريق بسبب صعوبة قراءة أسماء الشوارع، فضلا عن تذكرها، وذلك لطول مقاطع كلماتها, فاللغة البولندية تختلف عن اللغات الأوربية اللاتينية أو اللغة الإنجليزية، فهي إحدى اللغات اللختية المنتمية إلى عائلة لغوية أكبر وهي اللغات السلافية المنتشرة في وسط أوربا.
خرجت من البلدة القديمة لمدينة بوزنان من جهة الشرق، وبعد أن عبرت الجسر المار عبر نهر فارتا «Warta River» ظهرت منطقة أوسترو تومسكي «Ostrow Tumski», نواة مدينة بوزنان والمكان الذي بدأت منه بولندا, والتي تقع بين نهر فارتا ونهر سيبينا «Cibina», المتفرع من نهر فارتا.
تذكر الأسطورة الخاصة بنشأة بوزنان, أن ثلاثة إخوة عبيد يدعون: شك، وولش، ورس كانوا قد فقدوا أثر بعضهم البعض لسنوات طويلة، ثم التقوا في هذه الجزيرة الصغيرة الواقعة بين نهري فارتا وسيبينا, واحتفالاً بهذا اللقاء, سمى الأشقاء الثلاثة المكان بوزنان، الذي يعني بالبولندية الملتقى.
قام المحتلون البروسيون بتبجيل هذا المكان في القرن التاسع عشر، من خلال بناء جسر فوق نهر سيبينا سمي بجسر جوردان, نسبة إلى الأسقف جوردان الذي كان على رأس الإرسالية الأولى إلى هذه الكاتدرائية في القرن العاشر الميلادي, في حين قامت الحكومة الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية بازدراء الحضور القوي للكنيسة الكاثوليكية في بوزنان، من خلال بناء طريق وسط الجزيرة يقطع حديقة رئيس الأساقفة.
تحولت كاتـــدرائية القس بيتر والقس باول إلى متحف يزوره السائحون برســــــوم رمزية, وأكثر ما يشد الانتباه داخل هذه الكاتدرائية القبو الذي يحوي آثاراً وصخوراً من المباني القديمة لهذه الكاتدرائية, فقد تعرضت الكاتدرائية للدمار في الفترة من عام 1034 إلى 1038, وأعيد بناؤها بعد ذلك, وتعرضت لحريق عام 1622, أعيد على أثره بناؤها, وفي 15 فبراير من عام 1945 في معركة تحرير بلدة أوسترو تومسكي من النازيين في نهاية الحرب العالمية الثانية تهدم 65 في المائة من الكاتدرائية. الدور الأرضي من الكاتدرائية يظهر على شكل كنيسة عريقة تحتوي على اثني عشر مصلى تمثل العصور والمراحل المختلفة التي من خلالها تمت إعادة بناء وترميم هذه الكاتدرائية.
يوجد بجانب الكاتدرائية متحف يسمى أرشديوسيسان Archdiocesan, الذي يجمع اللوحات والمنحوتات والطقوس الخاصة بالكنائس في مدينة بوزنان, وكذلك المخطوطات الخاصة بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية للمائة عام السابقة.
من على جسر جوردان يظهر المبنى المشيد حديثاً كمركز للتراث التفاعلي لجزيرة الكاتدرائية على نهر سيبينا, والذي يحتوي على متحف يعرض فيه تاريخ هذه الجزيرة لفترة ألف عام بطريقة تفاعلية.
الطريق الملكي للسياح
يقوم السياح عادة بعد زيارة أوسترو تومسكي بعبور جسر جوردان وزيارة منطقتي أسترووك Ostrowek وسرودكا Srodka. وبالنسبة لمنطقة أسترووك فهي مستوطنة أنشئت في القرن الخامس عشر، وكانت تعد أصغر مدينة بولندية لمدة ثلاثمائة وخمسين عاماً بعدد سكان لا يتجاوز المائتي نسمة, وحالياً يتم تحديث المباني في هذه المنطقة التاريخية، بعد أن كانت تعاني الفقر والإهمال. وبعد منطقة أسترووك تأتي منطقة سرودكا التي تنسب إلى سوق كان يقام فقط يوم الأربعاء في أواسط القرن الثالث عشر, (سرودكا باللغة البولندية تعني يوم الأربعاء).
شيدت بلدية مدينة بوزنان طريقاً أسمته الطريق الملكي للسياح, والذي يبدأ من منطقة أسترووك وسرودكا، مروراً بأستروتومسكي إلى قلب البلدة القديمة, والذي يستطيع السياح، من خلاله، المرور على أهم المواقع التراثية داخل بوزنان, وقد تم تخصيص حافلة كهربائية (ترام) لهذا الغرض.
بحيرة مالطا
تُعد بحيرة مالطا اليوم من الواجهات السياحية في بوزنان, ففي هذه البحيرة يستطيع السائح ممارسة الرياضات البحرية مثل التجذيف والتزلج وسباق القوارب, ويتوافر أيضا في هذه المنطقة ملعب للجولف ونافورة مائية وحديقة حيوان تحتوي على 140 نوعاً من المخلوقات الحيوانية. وقد قامت السلطات النازية المحتلة لبوزنان أثناء الحرب العالمية الثانية بمبادرة بناء بحيرة صناعية طولها 2.2 كيلومتر وبعمق 3.1 أمتار في منطقة مالطا التي تقع في شرق مدينة بوزنان, من خلال بناء قناة مائية طويلة من نهر سايبينا جهة الشرق تنتهي بسد, وذلك لربط هذه المنطقة المعزولة عن بقية مناطق بوزنان وجعلها أكثر جذباً واخضراراً.
بدأ العمل في هذا السد من خلال جلب عمال أجبروهم على العمل بالسخرة. وانتهى العمل في هذه البحيرة في العهد الشيوعي, فقد افتتحت البحيرة للعامة عام 1905. يـــحتــــوي هذا المكان أيضا على تــــل الحــــرية الذي تم بناؤه في عام 1923 رمزاً لثورة بولندا الكبرى التي أدت إلى الاستقلال عام 1918, والذي هدمه النازيون عام 1939, وأعيد بناؤه في عام 1982.
يرجع سبب تسمية هذا المكان الذي بنيت عليه البحيرة بمالطا, إلى استعانة الأمير ميسزكو Mieszko في عام 1178 بفرقة فرسان الكنيسة التي تعرف بفرقة القس بول (فرقة الفرسان الاسبتارية التي اشتركت في القتال ضمن الحملات الصليبية ضد المشرق العربي في الشام ومصر) لبناء كنيسة القس جون المقدسية في ذلك المكان. في عام 1530 استقرت فرقة الفرسان الاسبتارية في جزيرة مالطا، بعد أن قام السلطان العثماني بطردهم من جزيرة رودس التي كانت سكناً لهم.
قلعتان في بوزنان
هنالك مقولة قديمة في أوربا تذكر أن أي مدينة تستحق ملح ترابها إذا امتلكت قلعة, وبوزنان تمتلك قلعتين. عند الدخول إلى البلدة القديمة من جهة الشرق وأنت قادم من بلدة أوستروتومسكي, سيظهر شكل مبنى قلعة فخم وضخم مغطى بالحجر القرمزي ومرصع بحجر أبيض, يقع على أرض مرتفعة وتحيط به أسوار من الأشجار الضخمة, وكأن هذه القلعة قد ظهرت في مخيلة طفولتي وأنا أقرأ القصص والأساطير القديمة, هذه هي القلعة الملكية التي تحتوي على تراث بولندا الملكية، والتي بناها الدوق بزيميسل الأول PzemyslI سليل الأسرة البياستية الملكية الحاكمة عام 1249، والذي اختار بوزنان عاصمة لمملكته. وقد أتم إكمال بناء هذه القلعة ابنه كازيميرز العظيم Kazimeirz the great. تعرضت هذه القلعة للخراب بأيدي السويديين والروس في القرن الثامن عشر, وقام الجنرال راشزيرزكي الحاكم آنذاك General Raczyriski بإعادة بناء القلعة في عام 1783 وتأسيس أرشيف الدولة فيها. خلال الحرب العالمية الثانية تم ترميمها لتكون مقراً للحاكم النازي آرثر غريزر Arthur Greiser, لكنها تعرضت للدمار عند دخول الجيش الروسي الأحمر مع القوات البولندية في فبراير 1945 لطرد النازيين من بوزنان. ثم اتُّخذ قرار ترميم هذه القلعة في عام 1956 وتم بناء متحف داخلها للفنون الجميلة.
القلعة الثانية في بوزنان هي القلعة الإمبراطورية التي تقع خارج البلدة القديمة من جهة الغرب, وسط مركز المدينة, والتي تم البدء في بنائها عام 1905 لتكون منزلاً للقيصر ويهلم الثاني Wihelm II, آخر إمبراطور ألماني في مملكة بروسيا, بتصميم روماني، بحيث خصص الجناح الغربي للقلعة كمسكن للقيصر والجناح الشرقي كقاعة للتاج والجزء الشمالي حدائق مصممة على شكل فناء الأسود في قصر الحمراء بالأندلس. تسلَّم القيصر مفاتيح القلعة في عام 1910، لكنه لم يُقم بها طويلاً بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى والتي تلتها انتفاضة مقاطعة بولندا الكبرى الوطنية التي استعادت بولندا على إثرها استقلالها. بين الحربين العالميتين استخدمت القلعة كمبنى لجامعة بوزنان. خلال الحرب العالمية الثانية قام مصمم بيوت الحيوانات الأليفة لهتلر, ألبرت سبير Albert Speer بتحويل برج كنيسة القلعة إلى مكتب لهتلر والدور الثاني إلى منزل للحاكم النازي. تعرضت القلعة الإمبراطورية للدمار عند تحرير مدينة بوزنان في نهاية الحرب. منذ عام 1962 تحولت القلعة إلى مركز ثقافي ترفيهي في المدينة يحتوي على مسارح ودور عرض للسينما ومقاه ومطاعم.
قاعة المدينة
القادم إلى وسط البلدة القديمة وتحديداً إلى ميدان البلدة القديمة, سيشعر بالانبهار حين يرى هذه الساحة المحاطة بمبان معمارية ملونة بألوان زاهية تجذب الانتباه وتعود إلى النمط السائد في عصر النهضة الأوربية, وستجول عينه كثيراً في النصب التذكارية التاريخية الكثيرة في هذا المكان, ولعله سيختار، حتماً، واحداً من المقاهي أو المطاعم التي يكتظ بها هذا المكان لكي يبقى أطول فترة يستطيع فيها المكوث فيه لتأمُّل ومراقبة المكان. فمنظر هذا الميدان يعتبر من أكثر الأماكن الخلابة في وسط أوربا.
أسس مبنى قاعة المدينة في القرن الرابع عشر كمبنى رسمي حكومي, وأول سجل تاريخي ظهر عن هذا المبنى يرجع إلى عام 1310.
وتعرضت قاعة المدينة لحريق عام 1536 وكلف المصمم الإيطالي جان كوادرو عام 1550 بترميم المبنى الذي أضاف له لمسات معمارية من عصر النهضة الأوربية, فأصبح المبنى على شكل ثلاثة طوابق, تعلوه ثلاثة أبراج مضلعة على شكل مثمَّن تعلوها قباب. أوسط الأبراج الثلاثة يحتوي على ساعة, يجتمع السياح عادة عند الساعة الثانية عشرة ظهراً من كل يوم ليشاهدوا شكل الماعز الميكانيكية بيلي التي تظهر من غرفة تعلو هذه الساعة وتنطح اثنتي عشرة مرة ويصاحبها عزف تراثي على البوق. هذا التقليد يرجع إلى حادثة وقعت عام 1551, عندما استُدعي محافظ المدينة لحضور الافتتاح الرسمي لتشغيل ساعة المبنى, ففسدت الوليمة التي كان يعدها الطباخ لهذه المناسبة, فحاول سرقة ماعزين ليذبحهما ويطبخهما ليرفع الحرج عنه, لكن الماعزين هربتا إلى داخل المبنى وصعدتا إلى الغرفة في البرج الأوسط، والتي تعلو الساعة, ونطحتا كل من يحاول الاقتراب منهما, شاهد المحافظ هذه الحادثة، وأصدر مرسوماً رسمياً يتم من خلاله تخليد هذه الحادثة. تحت ساعة المبنى تظهر لوحة منحوتة بشكل يرمز إلى العدالة, وعلى جانبي الساعة وكذلك على طرفي جوانب الطوابق الثلاثة لواجهة المبنى تظهر رسومات لملوك الأسرة البياستية Piast Dynasty الذين تعاقبوا على حكم بولندا.
تعرَّض مبنى قاعة المدينة- شأنه شأن معظم المباني في البلدة القديمة - لدمار خلال الحرب العالمية الثانية, وفي عام 1954 اتخذ قرار بإنشاء متحف لتاريخ مدينة بوزنان داخل قاعة المدينة يحتوي على مجموعة من الآثار الخاصة بالمبنى القديم قبل ترميمه ولوحات خاصة بالشخصيات التاريخية الخاصة بالمدينة ومقتنيات علمية وتاريخية يرجع معظمها إلى القرن التاسع عشر.
حديقة الحصن
تقع حديقة الحصن التي تبلغ مساحتها 89 فداناً على مرتفعات وينياري Winiary Hills على بعد كيلومترين فقط من شمال ميدان البلدة القديمة. كانت هذه الحديقة عبارة عن حصن بناه البروسيون أثناء فترة انقسام بولندا. بدأ البناء في هذا الحصن عام 1828 وكان على شكل مضلع يعلوه برجا مراقبة ومحاط بخندق, وذلك ليكون خط الدفاع الأول ضد الأطماع الروسية المحتملة تجاه مملكة بروسيا, فبوزنان على بعد مسافة 300 كيلومتر تقريباً من برلين وكذلك موسكو. بعد أن ثبت عدم جدوى هذا الحصن عسكرياً, تحول إلى سجن عسكري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بعد استقلال بولندا في نهاية الحرب العالمية الأولى استخدم هذا الحصن كمعسكر للجيش البولندي. وخلال الاحتلال النازي لـ «بوزنان» في الحرب العالمية الثانية حولت السلطات الألمانية الحصن إلى سجن لأسرى الحرب الروس والبريطانيين والبولنديين من جيش الحلفاء. أثناء الحكم الشيوعي تم تحويل الحصن وبقايا آثاره التي تشمل مقبرة للجنود الروس الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية إلى حديقة, تعبيراً عن الصداقة والأخوة بين الشعبين الروسي والبولندي، وتوجد في هذه الحديقة عدة متاحف أهمها: متحف التسلح ومتحف جيش بوزنان.
بوزنان في جينات أهلها
تتقدم مدينة بوزنان المدن البولندية من حيث مستوى المعيشة لأفرادها وتطور بنيتها التحتية وكفاية مرافقها التجارية والترفيهية. بوزنان اليوم تتبوأ المراتب الأولى من بين مدن وسط وشرق أوربا من قبل مؤسسات التصنيف الاقتصادي من حيث توافر الفرص الاستثمارية الممكنة, فالاستثمارات الأجنبية المنجذبة إلى بوزنان منذ عام 1990 حتى عام 2004 تجاوزت الأربعة مليارات دولار.
توجد في عاصمة بولندا التجارية البنوك والشركات الأوربية والعالمية بكثافة, وتعتبر أكبر مصدر لحافلات الركاب في أوربا، وفيها مصانع مشهورة للأدوية والمواد الكيميائية, وتشتهر أيضاً بصناعة المواد الغذائية والحلويات.
يقوم معرض بوزنان الدولي في وســـط المدينة بدور فعال في دعم اقتصاد بوزنان من خلال تنظيم المعارض والمؤتمرات وورشات العمل. بوزنان تفــتخر بأنها من المدن الـــتي نظمت فيها نهائيات كأس أوربا لكرة القدم عام 2012 والتي نظمتها بولندا بالمشاركة مع أوكرانيا, وقد استعدت بوزنان لهذه المناسبة بالاستثمار في بنيتها التحتية وبناء استاد بوزنان لكرة القدم.
من أهم عوامل انجذاب الاستثمارات الأوربية والدولية إلى بوزنان ارتفاع المستوى المهاري والتقني للعمالة فيها بسبب تبوؤها مركزاً تعليمياً متميزاً في بولندا. بوزنان اليوم مدينة شبابية يعيش فيها أكثر من 140 ألف طالب يدرسون في مختلف جــامـعــاتــها الـ 19, أشهرها جامعة آدم ميكيوويسز Adam Mickiewicz University التي تقع في وسط المدينة بالقرب من القلعة الإمبراطورية، ويأخذ مبناها الرئيسي الشكل النمطي الكنــــسي الــــخاص بكنائس بوزنان.
التنمية الاقتصادية التي حققتها بوزنان بعد الحقبة الشيوعية أثرت بشكل مباشر وإيجابي في المستوى المعيشي لأهلها, فمعدل البطالة فيها يتراوح عند 2 في المائة, في حين أن معدل البطالة في بولندا يصل إلى مستوى10 في المائة، ونصيب الفرد البوزناني من الناتج القومي الإجمالي يعادل ضعف المعدل القومي, بالرغم من أنها خامس مدينة بولندية من حيث عدد السكان. ويرجع عمدة المدينة ريسزارد جروبلني Ryszard Grobelny ذلك التقدم الاقتصادي الذي حققته بوزنان في مقابلة أجراها أخيراً مع مـجـــلة سيـــوورلد Ceoworld Magazine إلى المهارات الحياتية التي يتسم بها أهل بوزنان من القدرة على التوفير المالي والحصافة في الإنفاق المعيشي, إلى جانب النزعة الفردية لديهم في بناء المشاريع الخاصة الصغيرة والمتوسطة الحجم, فهذه النزعة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم, ودأبوا عليها حتى في الأوقات الصعبة أثناء تعرُّض بوزنان للحروب والانفصال قبل استقلال بولندا, وفي فترة الحرب العالمية الثانية وأثناء الحقبة الشيوعية.
إن صمود مدينة بوزنــــان وبقــــاء تراثــــها، رغم التدمير المتـــــكرر، أورث في أبنائها مهــــارات وقدرات وتحدياً ورغبة متجددة في الحياة.
الشارع التجاري في وسط المدينة
ميدان البلدة القديمة في وسط المدينة
جسر بوردان عبر نهر سيبل الذي يربط بين أوسترو تومسكي ومنطقة أوستروك سرودكا
صورة لمقتنيات ووثائق في متحف مدينة بوزنان داخل قاعة المدينة
مبنى قاعة المدينة (سيتي هول) في ميدان البلدة القديمة