«سواكن» ... تاريخ محفور في عمق الأسطورة

«سواكن» ... تاريخ محفور في عمق الأسطورة

المدن كما الكائن الحي تماماً، وربما الآدمي تحديداً، فهي تُولَدْ وتنمو، تصبو وتشيب، تكتهل وتشيخ، وهي تتنفس، تنام وتستيقظ، تحبو وتسير فتتقدم وتتأخر، تطعِم وتُطَعّمْ، كما أنها تتزين، تفرح وتحزن، تبتسم وتتجهم، تعاند وتترفق، وهذا ما صوّره أبو تمام:
إذا نظرت إلى البلاد رأيتها 
تشقى كما تشقي العباد وتُسعد 
والمدن أيضاً تتأثر وتؤثر، فهي ذات إرادة ومزاج وذاكرة، وقد تكون في حالة غربة، أو غضب، أو مغضوب عليها، فلها أعداء كما لها أصدقاء، ولها أسرار مثلما لديها حبال سرية، وحتماً فيها أرواح - أياً كانت - خيِّرة أو شريرة أو الاثنين معاً.

 تختلف المدن عن الكائن الآدمي في أن الأخير إن مات وغادر الدنيا فإلى غير رجعة، أما هي فإن ماتت فلربما عادت إليها الروح ودبت فيها الحياة من جديد، بل لربما عادت أكثر شباباً ونضرة، ولو حدث هذا العارض مرات عدة. ولا شك في أن مدينة سواكن التاريخية هي واحدة من المدن التي تجسد هذه المقدمة قولاً ومعنى، ولاسيما أنها ظلت تتأرجح ما بين حال وحال وفق مجريات كل عصر، وما يخطه الزمن على وجهها، هذا بالإضافة إلى أنها ماتت وعادت إلى الحياة أكثر من مرة عبر العصور، فالمتتبع لتاريخها يلحظ أنها مرت بكل التغيرات التي يمكن أن تحدث للآدمي، سواء كانت فسيولوجية، أو سيكولوجية، أو فكرية/عقائدية أو اجتماعية أو ثقافية أو خلافه. أما الزائر لأرضها فلا يتسنى له أن يراها بعينين فقط، وإنما بعينين وذاكرة، وبقية حواسه، إذ لا تقوى عينه على أن تهرب من آثار حضارتها، ولا يستطيع الفكاك من التأمل في ماضي سنيها وما دهاها، ورحلة الجن التي صاحبتها منذ نشأتها.
رحلة الصبر والهواجس
  في مطلع عام 1990 راودتني فكرة زيارة مدينة سواكن التاريخية لمعرفة شيء عن حاضرها وقتذاك، بعد أن عرفت ماضيها من خلال الكتب والمجلات ومختلف القراءات، وأفواه بعض أبنائها وزوارها، وأيضاً للوقوف بين أطلالها الأثرية ومعرفة الأساطير التي تدور حولها، والقطط التي يتحدث الناس عنها ككائنات خرافية تحوم في أرجائها.
  وبعد أن تحصلت على تصديق من الجهات المعنية للتصوير، عقدت العزم وبدأت الرحلة من (سوق ديم «سواكن») في بورتسودان التي تقع شمالها بنحو 40 ميلاً تقريباً على ظهر إحدى الحافلات القديمة... حجزت مكاني في الحافلة منذ السابعة صباحاً، ولم يمتلئ جوفها إلا بعد ساعات.
  لم تكن الرحلة سهلة خالية من الرهق وما يزحم النفس، فالهواجس والأسئلة والصبر كانت سمتها الأساسية منذ بداية التحرك، كالذاهب إلى مكان مجهول في عالم لم يكتشف بعد، وعندما حازت المركبة المدينة انحرفت عن الطريق العام (بورتسودان - الخرطوم) نحو الشرق، متخذة شارعاً فرعياً يؤدي إلى داخل «سواكن» بطول يبلغ نحو ثلاثة كيلومترات تقريباً، عليه ما يبين أنه كان مرصوفاً قبل سنين خلت، ووقتها لم أقدر على الصبر أكثر مما صبرت... فسألت من كان إلى جواري: «خلاص وصلنا سواك ؟»، فرد عليّ بـ«دارجية مكسرة»: «أيوه ديك أوسوك»، وهو يعني - نعم تلك «سواكن» - ثم عاجلني بسؤال: «حا تسافر طوالي واللا حا تقعد شوية؟»... فأجبته: «سأرجع بعد العصر»... فقال الرجل:
 «ما أظن تجد مواصلات»... ثم أردف يقول: «الناس تسافر من - أوسوك - في الصباح لقضاء أغراضهم في بورتسودان ثم يعودون بعد العصر، وأنا راجع هسع (الآن) لأنني مريض قادم من مستشفى بورتسودان، وما تنسى أن اليوم جمعة». 
 وحديث الرجل له ما قبله وما بعده، وألقى على النفس مخاوف فوق مخاوفها، وخاصة إذا عرفنا أن أهل شرق السودان عامة والبجا بصفة خاصة يمتازون بالذكاء، والسخرية، وحدَّة النظر، والنظر بعمق إلى ما بعد، وهم قوم لا يتحدثون إلا إذا حادثتهم، فيهم وداعة لا تخلو من غلظة في حالة التجني، وفيهم كرم إذا أرادوا لك ذلك، كما عُرِفوا بالشجاعة والكبرياء وحب الجبنة وحمل السيف.
 وظللنا نتحادث أسأله وهو يجيب، فعرفت أن مدينته تفتقر إلى كثير من مقومات الحياة، وهي تعاني كما يعاني إنسانها بشكل مرير، ولما وصلنا إلى نقطة النهاية عند بوابة «سواكن»، كان موعد صلاة الجمعة قد قرُب، فأومأ الرجل بيده إلى مكان الجامع إن كنت أرغب في أداء الصلاة، فتحرّكت رهن إشارته من عند البوابة مخترقاً سوق المدينة الذي لا شيء فيه سوى مركز الشرطة وعدد من أماكن بيع اللحوم والخضار وبعض المقاهي والمطاعم التقليدية الحزينة. وعلى شارع فرعي ناحية اليمين يوجد قليل من الباعة الذين يفترشون بضائعهم على الأرض من عطور وساعات وأقمشة يقال إنها تأتي عن طريق التهريب، وإلى جانبهم من يعرض أشياء محلية مثل الكوانين ومعدات الجبنة والجرادل، بالإضافة إلى آخرين يروجون لبيع منتجات البحر من صدف وكوكيان وغيرهما. كان ذلك عنوان المدينة... خطوطه «ملولوة» (غير مستقيمة)، باهتة، شاحبة، متفرق الأحرف، مجرد النظر إليه للوهلة الأولى دون قراءته يفضي إلى التساؤل إلى أين يفضي بنا... وحتى الصور التي التقطتها كاميرتي لم تخف ذلك الشحوب والحزن المرتسم على وجه الكل.
 
سواكن بين ابن بطوطة وحاضرها الجديد
وبعدما وصلت إلى الجامع قاطعاً عشرات الأمتار، بدأت في البحث عن ماء للوضوء، ولحظتئذٍ كان قول الرحالة ابن بطوطة الذي نزل في «سواكن» عام 1324م حاضراً (وصلنا إلى جزيرة «سواكن» وهي لا ماء بها، ولا زرع ولا شجر، والماء يجلب إليها في القوارب من القيف، وفيها صهاريج ماء يجتمع فيها ماء المطر)... لكن أما زال قول الطنجي سارياً حتى بعد مئات السنين؟ وبعد جهد تحصلت على ماء تخالطه ملوحة بائنة، ثم دخلت الجامع، ولم تمض دقائق حتى قدِم إمام الجمعة وكأنه قادم من عصور سحيقة، صعد على منبر أثري قديم، ربما قِدم الجامع نفسه... صعد الإمام بشق الأنفس وببطء شديد، ثم وقف منادياً – السلام عليكم - وأدخل يده اليمنى في جيبه وأخرج كتاباً مصفر الأوراق بفعل تقادم الزمن، وبتمهل يؤكد عدم جاهزيته أخذ يقلب صفحات الكتاب، كأنه يستدعي ذاكرته، أي الخطب لم يقرأها مؤخراً، حتى وجد ما يبتغيه، ثم بدأ في قراءة خطبة الجمعة. أخذ يقرأ في حديث خارج سياق العصر، في ما يعرف بــ«خطب الكتب الصفراء».
 ثم نزل من على المنبر للصلاة في زمن لا يقل عن زمن صعوده، وبعد ذلك عرفت بأنه جامع تاج السر، وأن الخطيب من الأرتيقة، وأن الحاكم الذي يُدعى له بطول العمر هو الحاكم التركي، وأن مثل تلك الخطب ثابتة دائرية (مكررة)، تمت كتابتها ونشرها في العهد التركي، ومازالت تردد.
 وبعدها طفقت أجوس بين آثار المدينة وأطلالها داخل الجزيرة مشياً على أديم الماضي، فالحاضر ليس له موطئ قدم، بنايات مكومة، أجهل بناتها في سالف الأزمان، وإن لم تكن مجهولة الهوية، فكل كومة تنبئ عن أثر لأمم مختلفة المشارب. والبحث بين ركامها من غير هادٍ أو مرشد لا طائل منه سوى الغبار والتمتع بالنظر من خلف ثقوب الماضي، وكنت أنظر بعينين زائغتين وصبر شحيح مخل وأحاسيس متنازعة مبعثرة تؤكد أنني قدمت للمدينة المكنوزة في الزمن الخطأ، فالزمن لن يسمح بأكثر مما سمح به، والخروج المبكر لا مناص منه، وإلا.

مدينة الجن!
 كان الخروج من المدينة أشبه بالخروج من مغارة... وبعد مسافة سير تربو على كيلومتر لاحت خيوط ضوء في الفضاء، ثم تلاها بدقائق صوت سيارة قادمة لـ«سواكن»، وعندما صارت في محازاتي توقف قائدها، وسألني عن وجهتي، فأجبته، وطلب مني الركوب بجانبه في البوكس لكي يلحقني بالطريق العام، ورغم أنني لا أعرفه إن كان من الإنس أو الجن، فقد أحسست بشيء من الطمأنينة، وحدّثتُ نفسي بأن ما سيلاقيني ليس أسوأ مما أنا فيه... تلكأت برهة - بسملت وحوقلت - وبعد إلحاح منه ركبت بجواره، فقال لي: «أنت ذاهب بورتسودان؟»... نعم... فأردف يقول: «يا أخي في مثل هذا الوقت لن تجد مواصلات... هذا وقت لا يمكن أن يخرج فيه شخص من «سواكن» إلا إذا دهته الدواهي»... فقاطعته: هل لأن المدينة مسكونة بالجن كما يقولون، أم لأن المدينة مهجورة؟... ضحك وقال: «بالنسبة لحكاية الجن نسمع بها منذ أن وُلِدنا... لم أر ولم أصادف من رأى جنية تحوم في أطراف المدينة، وأي شخص يقول مثل هذا الكلام كضاب أي كذاب، المشكلة تكمن في أن المدينة صغيرة، لا يتجاوز تعداد سكانها الخمسة آلاف، وغالبيتهم من الشباب والطلاب، وهؤلاء مقيمون في بورتسودان للعمل والدراسة، فهم يغادرون سواكن عقب صلاة الجمعة مباشرة، ثم يعودون إليها مساء كل خميس، وبعودتهم تتحرك المدينة وتنتعش نوعاً ما... وبعدما يغادرونها تختفي الحركة وتذبل المدينة، أما غيرهم من الذين تمسكوا بالبقاء بسواكن معظمهم من كبار السن والفتيات والأطفال، فحياتهم بسيطة، ينامون بعد صلاة العشاء ويستيقظون عند الفجر، فلا شيء يجعلهم يتحركون خارجها»... ثم سألته عن الإنارة في المدينة فقال: «كما ذكرت لك عن حياة الناس، حقيقة هي سهلة ومعظم مساكنهم من الخشب والبروش وبيوت الطين، فليس لديهم حاجة إلى الكهرباء ولا هي من أولوياتهم والمولد الكبير الوحيد الذي يمد بعض أجزاء المدينة بالنور خاص باللاجئين الإريتريين، وهو يعمل من السادسة مساء حتى الحادية عشرة ليلاً... لكن معدل توقفه أكبر من عمله». 
 وكان الشاب يتحدث بلسان فصيح ولغة سليمة ووعي ينبئ عن تعليم متقدم حتى وصلنا إلى الطريق العام، فنزلت وتركني أواجه بقلب مطمئن مصيراً جديداً، وبعد انتظار دام لأكثر من ساعة ونصف الساعة جاءت ناقلة بضائع متجهة إلى الميناء، فأقلتني إلى بورتسودان التي وصلنا إليها بعد منتصف الليل.
  لم يكن السرد السابق مجرد خواطر أو ذكريات، وإنما وقائع يوم لواقع عاشته مدينة سواكن في مطلع التسعينيات وما قبلها لعقود خلت... ورؤية العين تؤكد للقاصي والداني أنها كانت مهملة في شتى مناحيها، تفتقر إلى مقومات الحياة، منهكة حزينة، بائسة الحضور، بل هي وإنسانها والبؤس توأمان.

 خازن الرتاين
  رغم معاناة الرحلة الأولى ورهقها، فإنها لم تكن الأخيرة لـ«سواكن» فمكنوزاتها الثرة، وأسرارها العميقة، والرغبة الأكيدة في استجلاء حقيقة أمرها، ودك حصون الخوف والهواجس فتحت شهية المغامرة والذهاب إليها مرات عدة، لكن بوسيلة نقل خاصة، فبعد أشهر قلائل من العام نفسه... شاءت الأقدار وروح المغامرة أن أقوم برحلة ثانية إلى سواكن، ومن حسن حظي أن تكون في معية عمدتها الحالي محمود الأمين الأمير محمود بك أرتيقة. 
 سألت حفيد الأمير عن الظلام الذي يلف ليل المدينة ويحيلها إلى سواد، وكيفية احتمال قضائه في أرض محاطة بالأطلال والهواجس والظنون، وعن المزاعم التي تروج وتصور بأن الجن يمشي بين سكانها في هيئة قطط سمان... وكيفية تعايُش أهلها مع ذلك الواقع فقال: «سواكن لا يعرف سرها إلا من عاش فيها فترة كبيرة من الزمن، والظلام الذي يغطي ليلها ذلك هو قدرها... كان الناس يستخدمون الرتاين لإنارة المدينة، بنظام دقيق ومرتب حتى أواخر الستينيات، وتلك حقيقة لا يعرفها الكثيرون، ولا ينكرها من عاش فيها في تلك الفترة، ووفق ما ذكره الأجداد، أن الأتراك هم الذين جاءوا بالرتاين إلى سواكن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان «الأرتيقة» الذين يشاركونهم إدارة سواكن هم المسؤولون عن نظام تشغيلها، إذ كان يوجد مخزن مليء بالرتاين : Lantern ومعينات تشغيلها من سبيرتو وكيروسين وقطع غيار. والمخزن فيه شخص مسؤول (مخزنجي) يسمى خازن الرتاين يتم تعيينه بأمر مكتوب من أمير أو عمدة سواكن، مهمته أن يقوم مساء كل يوم بتجهيز الرتاين وتوزيعها على المرافق المهمة في المدينة مثل السوق، الشفخانة، مكتب البريد، دور البوليس «الشرطة حالياً»، استراحة وزارة الأشغال، واستراحة وقاية النباتات واستراحة المحافظة داخل الجزيرة، وغيرها من الأماكن التي تتطلب توافر الإنارة فيها وحراسة الخفراء. 
  وفي زيارتنا الأخيرة لـ«سواكن» برفقة المصور إبراهيم إسحق... لم يكن الوصول إليها شاقاً مثلما كان قبل عقدين ونيف من الزمان، وليس هناك ما يستدعي الملل، فقد أصبح الطريق «مسفلتاً» ميسراً، ووسائل النقل متعددة ومتاحة وأكثر راحة، فعلى رأس كل خمس دقائق أو أقل توجد وسيلة نقل عامة للركاب من مدينة بورتسودان ميممة وجهها شطر سواكن، بجانب الحافلات والسيارات الخاصة التي تقل جموع العاملين بميناء عثمان دقنة، سواء كانوا من الموانئ، أو الجمارك، 
أو التخليص، أو شرطة الجوازات أو غيرهم. كما أن الوصول إليها لم يعد يستغرق أكثر من 40 دقيقة، بعد أن كان يستغرق ساعات طوالاً، وبصبر يجل عن صبر انتظار مولود جديد. 
 بدأنا التحرك مبكراً من موقف التاكسي في بورتسودان، ولم تمض دقيقة حتى انطلقت بنا العربة جنوباً في الطريق العام الذي كثرت على جانبيه مباني الشركات الخاصة والعامة وميناءي تصدير البترول (بشائر 2،1) والمنطقة الحرة بمساحات كبيرة، وبعد حوالي نصف الساعة أطلت من خلال نافذة العربة آثار سواكن في شكل أشبه بالقمر في أحدبه المتناقص، ما يؤكد أن المدينة تمددت بصورة جعلت جزيرة الآثار على النحو الذي رأيناه، وأصبحت المباني فيها على مقربة من جانبي الطريق العام. 
 وبعد دقائق معدودات نزلنا بأرضها، فلم يعد الدخول إليها من بوابة «سواكن» كما كان في السابق، فقد أصبح المدخل الرئيس للمدينة يبدأ من ملتقى الطريق الفرعي بالطريق العام، والذي أصبح يمثل نقطة عبور كبيرة أو محطة رئيسة لتجمع الحافلات السفرية والشاحنات الكبرى القادمة أو المغادرة لمدينتي الميناءين، ما شكّل حراكاً واسعاً ومكثفاً في المنطقة، وأوجد فرصاً كثيرة للعمل، سواء لأصحاب الكناتين والباعة الجائلين وبائعي وبائعات الأطعمة والمشروبات، والسريحة (بائعي الصحف والمجلات الجائلين)، أو لأصحاب الحرف كالحدادين، والبرادين، والميكانيكيين، وأصحاب المركبات التجارية المحلية وغيرهم، ما أدى إلى حراك تجاري ومالي كبير بين الناس الذين يمتهنون هذه المهن رغم أن أغلبهم ليسوا من أبناء المنطقة، ولكنهم سودانيون. 

الأسطورة «السواكنية»
  بعد دقائق وصلنا داخل المدينة ووجدناها أكثر شباباً ونضارة، شامخة بهية ساحرة مستأنسة ضاجة لم تنم، ولم يعترها نعاس... فاتحة أحضانها للناس تستقبلهم بمزاجٍ عالٍ وإرادة طموحة، فرحة بعودة الروح إليها، والزمان أقبل نحوها مبتسماً بعد أن أدار ظهره لها وأدبر قبل قرن، ما أتاح لنا مجدداً فرصة التأمل بين أطلالها بتؤدة، ومعرفة كثير من التفاصيل حول مكنوناتها الأثرية بعمق وروية.
ولعل أول ما يستوقف الزائر حقيقة أن «سواكن» التي شهِدتُ أواخر أيامها مقبورة، وعاصرتُ عودة الحياة إليها، وشبابها الحالي، مهما تأثرت بمرور الزمن وتقدمت بتطور أساليب الحياة فيها يظل واقعها التاريخي هو الواقع ذاته الذي ألفه الناس منذ آماد بعيدة، من حيث التكوين والأبنية التي طُمِرت، وتلك التي ناء الدهر بكلاكله عليها، وأضحت آثاراً يؤمُّها الباحثون والمهتمون وغيرهم، فضلاً عن القطط ذات الحجم غير المألوف، التي تتصرف كما يتصرف الإنسان في وداعتها وطرق تناولها للطعام، حتى أصبحت مضرباً للأمثال وضرباً من ضروب الحكي بين الزائرين، وكذلك الجنية « تهاشّوا» التي تظهر في الظلام بغرض القتل والانتقام، كما يروى. 
 كل هذا يجده الزائر في أفواه وذاكرة الكثيرين، ولا يزال الناس يجترون تلك الروايات ويربطون حاضر المدينة الزاهر بماضيها «الخرافي» التليد، وتلك الأسطورة (الخرافة) الشائعة والراسخة في الأذهان كما حدثنا المؤرخ  محمد صالح ضرار في مؤلفه «سواكن» والبحر الأحمر من أن:
«أحد ملوك الحبشة أهدى سبعين جارية إلى نبي الله سليمان بن داود – عليهما السلام - وأرسلهن إليه في بيت المقدس (أورشليم)، فأبحرت بهن سفن شراعية من مصوع (باضع) حتى ألقت مرساها في «سواكن»... واستطابت الإقامة فيها... فواطأ السواكنيون (أو الجن كما يزعمون) أولئك الجواري لما هبطن إلى ساحل الجزيرة البري، ثم أقلعت بهن السفن إلى ميناء العقبة، وهبطن منها، وسرن إلى القدس، ثم ظهرت عليهن آثار الحمل، وبعد التحقيق مع رؤساء السفن أقروا بأن إقامتهم بـ«سواكن» كانت طويلة جداً، وكل الذي حدث كان من السواكنيين، فأمرهم سيدنا سليمان  بردهن إلى سواكن، حيث يجب أن تكون إقامتهن بها نهائياً... فاندمجن وذريتهن في أهل الجزيرة، وأمر بأن تتخذ جزيرة سواكن سجناً للمجرمين. لكن بعض المؤرخين يدّعِي أن قصة الجواري والجن كانت مع خسرو ملك العجم».
من جوف تلك الرواية «الأسطورة» برزت «سواكن» للعلن وعرفها الناس... ورسخت أساطيرها في الوعي الإنساني، بالرغم من مرور أكثر من ثلاثين قرناً، تغذيها أفكار وأخيلة الذين تعاقبوا عليها والأحداث التي مرت بها... وما انفك الناس يؤسطرون (MYTHOLOGIZE) كثيراً من الأشياء المبهمة فيها، ويجيدون الحكي عن مشاهداتهم، وينسجون حولها المثير, كل بما يجود عليه خياله... وما يؤكد مذهبنا أن قططها المهيبة مازالت تتحرك في أرجائها، وتسعي بين الناس في هدوء شديد ورزانة وغرابة، ما يجعل كل من يشاهدها يظن أنها من بقايا جنيات سيدنا سليمان.
 وقد صارت الأسطورة السواكنية تجري مجرى الدم في أوصال المدينة... وذهب العديد من الباحثين والأدباء مذاهب شتى في هذا الأمر، كما استلهم المبدعون من أهل الثقافة والأدب والمغنون أدباً رفيعاً، وغناء رصيناً... ولا ينسى السودانيون الأغنية الشهيرة للشاعر والمطرب إدريس الأمير:
صب دمعي وأنا قلبي ساكن 
             حار فراقك نار يا «سواكن»
  
مدينة البوابات والقلاع
 وكما كانت «سواكن» مدينة موحية ولا يزال تاريخها محفوراً في عمق تلك الأسطورة, فهي أيضاً كانت مسرحاً «تراجيكوميكياً» دراماتيكياً عريضاً لصراع زماني ومكاني «زمكاني» محير، ذلك فضلاً عن الصراع الحضاري، الثقافي والاجتماعي والتجاري القديم الذي نالت به شهرة عالمية واسعة. ولكي نقف على ذلك المسرح لاستقصاء حقائق التاريخ القديم ونتعرّف على أصول وجذور وتاريخ هذه المدينة وصراعاتها المختلفة, بدأنا من حيث توقف بنا التاكسي عند بوابة «سواكن» المعروفة بـ«بوابة شرق السودان» والتي أصبحت في قلب المدينة، وقد عُرِف بها شرق السودان حتى صارت «رمزاً أو شعاراً» لولاية البحر الأحمر, وكان قد أنشأها البريطاني اللورد كتشنر باشا عام 1886م في وسط سور «سواكن» بجانب أربع بوابات أخرى هي «بوابة الأنصاري»، و«بوابة الإندارة أو بوابة الأمير محمود بك أرتيقة»، و«بوابة إسفنكس الإنجليزي»، والخامسة هي و«بوابة السجن الحربي أو بوابة المحلج»... وكلها أنشئت لمراقبة الخارجين والداخلين من المدينة وإليها، خوفاً من هجمات خصمه السوداني الثائر الأمير عثمان دقنة أحد قادة الثورة المهدية. وعلى بوابة «سواكن» لوحة رخامية مساحتها متر مربع يحيطها إطار في الحائط كُتِب عليها «باب شرق السودان من دخله كان آمناً ومن خرج منه كان سالماً». أما الحصن أو السور فيبدأ من منطقة النُزل شمالاً وينتهي عند السجن، وكان يبلغ طوله ثلاثة كيلومترات وارتفاعه خمسة أمتار وسمكه أكثر من متر. وبجانب البوابات الخمس توجد «بوابة غردون باشا» عند مدخل جزيرة سواكن (سواكن  القديمة) وقد أنشئت لنفس الغرض. كما شيدت ثماني قلاع أخرى على بعد ميلين من مدخل المدينة لصد أي هجوم يلحقها من ثوار المهدية، وكل هذه أضحت آثاراً يؤمها الناس للبحث في ثنايا تاريخها.

الموقع الأزمـــة
ومن بوابة شرق السودان اتجهنا شرقاً راجلين مروراً بقسم الشرطة ومبنى المحلية، مخترقين سوق المدينة الذي تبدلت ملامحه كثيراً عما كان عليه في السابق، بما فيه من حيوية، حركة، ضجيج، تنظيم، معروضات وأماكن عرض حتى وصلنا إلى الجانب الشرقي للسوق «القيف»، حيث يوجد جامع تاج السر الميرغني الذي شُيد عام 1890م، والجامع المجيدي الذي بني على القيف بأمر السلطان العثماني عام 1863م، ثم جامع الشاذلي (الطريقة الشاذلية) بجانب قباب بعض الطرق الصوفية التي لها وجود وأثر في المدينة. وعلى قرب منها مبنى مدرسة «سواكن» الأميرية الوسطى (سابقاً) التي كان لها أثر كبير في نشر التعليم في شرق السودان، وتخرج منها قائد أول حكومة انقلاب عسكري في السودان، الفريق إبراهيم عبود (نوفمبر 1958 - أكتوبر 1964)، وتوقفنا أمامها قبالة الساحل الجنوبي الغربي للجزيرة لنشاهد عمليات الردم والحفر التي تجرى لتشييد كورنيش «سواكن» الجديد، وبعد ذلك توجهنا نحو الشمال، وعلى جانب الطريق يوجد مركز بمواصفات جيدة لبيع الأسماك، وأماكن راقية ومنظمة لإعداد السمك وتقديمه وجبات للراغبين. وفي هذه الناحية أيضاً وعلى مقربة من القيف وجدنا جامع الشناوي الذي شُيد عام 1873م، وبجواره قصر الشناوي الذي وقفنا على أطلاله بتأمل عميق وأسى بالغ لما آل إليه حاله... ويقال إنه من أجمل وأروع مباني «سواكن» بناه التاجر محمد بك الشناوي في مساحة تقارب عشرة آلاف متر مربع، ويتكون من ثلاثة طوابق بها ثلاثمائة وست وخمسون غرفة (عدد أيام السنة الهجرية)، فكان الطابق العلوي للنوم في الصيف والثاني لاستقبال الضيوف، أما الطابق الأسفل فهو مخصص لتخزين البضائع، ويقال إن الشناوي كان ينام كل يوم في غرفة، وللقصر شبابيك مرصعة بالزجاج الملون والزخارف وله مصابيح تتلألأ أنوارها ليلاً على صفحة مياه البحر مضيفة لجماله جمالاً آخر... وكانت ساحاته تستخدم للمزاد وعرض البضائع، حيث يُعرض فيها السمسم والذرة وسن الفيل والصمغ وسائر محصولات السودان، وكان يُسمى «وكالة الشناوي أو بورصة «سواكن»»... ثم توجهنا بعد ذلك نحو جزيرة «سواكن» التي تُعرف بـ «سواكن القديمة»، عبر جسر يبلغ طوله حوالي 50 متراً وعرضه نحو 10 أمتار قام ببنائه غردون باشا 1877 ما بين القيف (الساحل) والجزيرة لتسهيل الحركة ونقل البضائع من وإلى الميناء بدلاً عن المراكب. وقد أصبح حالياً قيمة تاريخية، وذا أهمية بالغة لا تقل عن تلك التي أنشئ من أجلها، إذ بات يمثل العروة الوثقى ما بين حاضر المدينة وماضيها السحيق، وهو الذي يعبر بالمرء أزماناً وأزماناً لاستجلاء خبايا وتاريخ «سواكن» القديمة. 
 ولأجل ذلك عبرنا الجسر ودخلنا الجزيرة مكمن الحكايات والأساطير من خلال بوابة غردون باشا، وبدأنا نطوف حولها لنعرف تفاصيلها فوجدناها جزيرة صغيرة من المرجان بيضاوية الشكل تقبع على الساحل الغربي للبحر الأحمر أو (بحر القلزم) كما كان يُسمى قديماً... تبعد عن ميناء السويس المصري في الشمال نحو720 ميلاً ويقابلها في الطرف الشرقي للبحر الأحمر ميناء جدة السعودي على مسافة تقدر بــ 200 ميل، ولعل موقعها في هذه المنطقة هو الذي جلب لها الجن وكثيراً من المتاعب والشقاء، وسبب لها أزمات كبيرة... كالحسناء التي تتأذى من جمالها... فاستراتيجية موقعها جعلتها محط أنظار واهتمام الكثيرين، وقوقعة للأساطيل الحربية، وعرضة لضربات كثيرة موجعة من الغزاة والطامعين، وما أفاقت من ضربة حتى عوجلت بأخرى.
 فهي الجزيرة التي سبقت شهرتها اسمها، فمن رحمها خرجت قرية «سواكن» إلى (القيف) ثم تطورت إلى مدينة تضم الجزيرة، وأحياء القيف، كاس الدور، الملكية، المشيل، الاندارا، والليلي إبان فترة حكم الفونج للسودان (1505 - 1820م)، والذين أدخلوا فيها المساكن المبنية من الطين والقش، بدلاً عن المصنوعة من القش والحصير... وكانت المدينة الجديدة بمنزلة الوليد الشرعي للجزيرة القديمة, يليها في كل حين ما يلي أمها، من رخاء وبؤس ونعيم وشقاء وأفراح وأتراح وانتصارات وانكسارات حتى جاء عام 2005م الذي جعل إنشاء وحدات الحكم المحلي (المحليات) شأناً ولائياً وبموجب قانون الحكم المحلي أصبحت «سواكن» (المدينة والجزيرة) محلية من محليات ولاية البحر الأحمر، لها قرى وأرياف.
 
سواها... جن وأوسوك
لقد حاولنا ونحن نتجول داخل الجزيرة معرفة أصل وتاريخ «سواكن» في العصور الخالية فلم نصل إلى حقيقة سوى تلك الأسطورة القديمة، بأنها جزيرة موغلة في القِدم ضاربة الجذور، مثلها مثل جزر البحر الأحمر خالية من السكان، ليس فيها غير الجن... وهناك بعض المؤرخين يقولون إن «سواكن» كانت آهلة بالسكان منذ أن استوطن باديتها أبناء كوش بن كنعان الذي تناسلت منه قبائل البجا الأصلية قبل اختلاطها بالعرب.
 أما اسمها فقد اختلف أيضاً المؤرخون حوله، فيقال إنه «سواجين» لأن سيدنا سليمان  اتخذها في القرن العاشر قبل الميلاد سجناً للمجرمين، ويقال إن أصل الاسم كان «سواها... جن»، أي فعلها الجن لأن المدينة نفسها كان يقطنها الجن، ثم حُرِف الاسم في ما بعد إلى اسمها الحالي، أما المؤرخ المصري الشاطر بوصيلي، فيقول إن «سواكن» وردت في «التوراة»، وهي كلمة هندية تعني المدينة البيضاء أو مدينة الأمان، فهي بر السلامة لأنها أول مدينة تصل إليها السفن في ذلك التاريخ عند قدومها من الشرق الأوسط، وهناك من يقول إن أصل الاسم مصري وهو شواخن باعتبارها قرب الحبشة... ونلحظ أن هذا الاسم له رابط باسم الجِنية «تهاشوا» بحروف (شوا) وهي تكوِن اسم «سلطنة شوا»، أقدم مملكة إسلامية على القرن الإفريقي... أما قبائل البجا فيطلقون عليها بلغتهم اسم أوسوك وتعني في العربية «السوق»، وهذا الاسم - كما ذكر 
البعض - مشتق من كلمة «سواكم»، لأنها كانت تمثل لهم المدينة التجارية الوحيدة، بل كانت المنفذ الوحيد للسودان.   ونحن في طوافنا للبحث وسؤالنا عن أصل تسميتها لم نصل إلى حقيقة، فكل بروايته، والثابت عند أهل المنطقة أن أصل التسمية هو «أوسوك»، وهو الاسم الذي يتداوله أبناء البجا والسكان الأصليون حتى الآن. واسم «سواكن» عرفه الناس لأول مرة خلال القرن الثامن الميلادي ويطلقونه الذين من خارجها، أما ما ورد من أسماء غير هذين الاسمين فلا تُذكَر ولا تُعرَف إلا من خلال الكتب وعند الباحثين.
وبجوار بوابة غردون وجدت هذه المرة الحاج محمود حسن بوادي - حارس الجزيرة - الذي قال لنا إن «سواكن» بلد متقلبة في كل مرة تقوم وتقع. 
بهذه العبارة البسيطة الذكية اختزل الرجل تاريخ المدينة الممتد لعدة عصور، والشائع عند أهل العلم والثقافة «سواكن سادت ثم بادت».
 
القتل غيلة
 وفي أثناء طوافنا أدركنا أن مدينة الصبر على المآسي وتصاريف الزمان غامضة... سرها في بطنها، وتمتاز عن غيرها بالذكاء والعبقرية فهي قادرة على اجتذاب الناس إليها في حالات البؤس والرخاء، وعند الشدة والضعف، كما أنها قادرة على أن تنهض متى ما أصابها الهزال، أو الدمار والموات كأنها تقول «البطل لا يموت»، فقد مرت المدينة بعصور وحقب زمنية متعددة، تختلف كلها باختلاف معاصريها، بداية بعصر الفراعنة كما يحدثنا المؤرخ ضرار صالح ضرار... فعندما تولى رعمسيس الثاني (سيزوستريس)، حكم مصر ما بين 1415- 1339 قبل الميلاد أخضعها لسلطانه، واتخذها قاعدة بحرية لأسطوله التجاري لتسهيل حركة التجارة بين بلاده وبلاد الشرق الأقصى، وعندما جاء خلفه رعمسيس الثالث في سنة 1198 قبل الميلاد أرسل إليها سفنه التجارية لجلب الأحجار الكريمة والمر والبلسم من السودان، ولما استولى البطالسة على حكم مصر(305-30 ق.م) بقيادة فلادلفوس (بطليموس الثاني) أمر قواته باحتلال «سواكن» لموقعها الفريد وأسس فيها مركزاً تجارياً ضخماً وغدت ذات أهمية تجارية قصوى، ولكن عندما جاء خلفهم الرومان واستولوا على حكم مصر (30 ق.م - 640م) دارت بينهم وبين ملك قبائل البجا معارك وحروب انتهت بقتل «سواكن» غيلة ودمارها، وقيام مدينة عيذاب التي تبعد عنها من ناحية الشمال بنحو أكثر من300 ميلاً فأصبحت الميناء الجديد للحجاج الأفارقة والمغاربة.

من الخراب إلى الصحوة
استمرت «سواكن» على تلك الحال من الخراب وفقدان الحياة حتى قدم إليها أربعة من الصحابة لنشر لواء الإسلام ورفع راياته فيها ومن خلالها، باعتبارها المنفذ الوحيد للسودان من ناحية الشرق، ونجح الصحابة في ما هاجروا من أجله، ومن ثمّ اقتفت آثارهم قبائل عربية أخرى أبرزها قبيلة الأرتيقة التي قدمت من حضرموت «اليمنية» واستقرت بــ«سواكن» سنة 883 للميلاد. ولما استولى المماليك على مقاليد حكم مصر (1250-1517م) سيَّروا حملة عام 1310م بقيادة السلطان الناصر، ووضعوا أيديهم على «سواكن» لتأمين حركة التجارة، بينما أخذت تضمحل عيذاب التي دمرها الصليبيون. وعندما حكم سلاطين السلطنة الزرقاء «ملوك الفونج» السودان عام (1508- 1820م)، وامتدت سلطنتهم حتى «سواكن» وبسطوا حكمهم عليها عينوا الأمير عبدالله بوش أميراً عليها، وكانت هذه أول سلطة للسودانيين على «سواكن» بعد أن ظلت في «غربة إدارية» عن السودان قرابة ثلاثة آلاف عام، وفي عهده استعادت «سواكن» سمعتها وشهرتها التجارية، وبدأت تزدهر مرة أخرى بعدما عادت إلى الحياة، كما أصبحت ميناء الحجيج الأول للسودانيين وغيرهم من المسلمين الأفارقة.
 لكن «سواكن» لم تهنأ بذلك كثيراً، إذ احتلها الأسطول البرتغالي عام 1516 بقيادة الأميرال دون جوان دي كاسترو، ولم تنفك من قبضته إلا على يد الأميرال سنان باشا في عهد التركي السلطان سليم الأول... وغدت بعدها مستعمرة تابعة للأتراك تقاسموا مع الأرتيقة أمر إدارتها، في حين كان سائر السودان تابعاً للسلطنة الزرقا، إلا أن الأتراك لم يبدوا أدنى اهتمام بها، بل جعلوها قاعدة حربية لهم يرفرف فوق ساريتها العلم التركي بعد أن ضمها الخديوي إلى أملاكه وجعلها تحت سلطة والي إمارة الحجاز، وعيَّن عليها محافظاً تركياً، وبذلك عادت «سواكن» ثانية إلى غربتها (إدارياً)، حتى زارها في عام 1560م الشيخ عجيب المانجلك كبير وزراء الفونج، وهو في طريقه للحجاز، وأقام بها وصاهر أهلها، وبعد أن علم بأنها تشكو الظمأ حفر حفيراً سمي «الفولة»، وهذا ما جعلها تنتعش إلى حد كبير.
 وباستيلاء محمد علي باشا على الحكم في السودان وقضائه على دولة الفونج عام 1820م، كما حدثنا محمد صالح ضرار, طلب ضم «سواكن» إلى سلطانه، لكن تركيا أجَّرتها له مقابل مبلغ يدفعه سنوياً لإمارة الحجاز وبشرط أن تعود «سواكن» بعد وفاته تابعة للحجاز مرة أخرى، ولما توفي محمد علي باشا سنة 1849 عادت «سواكن» للدولة العثمانية تحت إمارة الحجاز، حتى جاء الخديوي إسماعيل باشا وحكم مصر عام 1863، فانتدب أحمد ممتاز باشا لتسلُّم «سواكن» من المحافظ التركي، وأصدر فرماناً بضمها لأملاك الخديوي في مايو 1866 مقابل إضافة 7000 جنيه مصري إلى الجزية التي تدفعها مصر لسلطان العثمانيين، وفي عهده ازدهرت «سواكن» أكثر من ذي قبل، وعادت إلى شبابها مرة أخرى، بعد أن تم تعميرها بشكل حضاري متقدم، ونشطت فيها الحركة الملاحية، خاصة بعد التطور الذي حدث في مجال النقل البحري عالمياً بإحلال البخار محل الأشرعة والمجاذيف، والحديد محل الأخشاب في صناعة السفن، هذا فضلاً عن افتتاح قناة السويس عام 1869م، ما أحدث أثراً بالغاً في تقدم حركة التجارة والنقل والوعي بصفة عامة في السودا، ومن ثمّ تكاثرت عليها هجرات المصريين والحجازيين  واليمنيين والأتراك والأفغان والهنود والأغاريق والأرمن  واليونانيين، وغيرهم من الأجناس الأخرى التي قدمت مع الجيوش الغازية فاستقروا فيها ونالوا الجنسية الـ«سواكنية» بأمر الخديوي. 
حدّثني الفنان الدكتور عبدالكريم عبدالعزيز محمد عبدالكريم الكابلي، الشهير بعبدالكريم الكابلي، وهو أبرز من صدحوا بالعربية الفصحى في السودان: «ولِدت في مدينة بورتسودان في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي شهادة الميلاد مثبت أنني «سواكني»، ذلك لأن جد أبي عبدالكريم الكابلي قدِم من بلاد الأفغان، ومن هنا جاء اسم الكابلي نسبة إلى «كابول» واستقر في جزيرة «سواكن» وبنى فيها سرايا، وأسس مكتبة معروفة، واندمج مع سكانها ومن ثمّ تزوج ابنه محمد (جدي لأبي) الذي أنجب والدي من أهلنا هنا في البحر الأحمر، واتصلوا بآل البسيوني، وآل صقر، وآل البنوني، وفي الأربعينيات، ونحن تلاميذ، كنت أذهب إلى «سواكن» وأقضي إجازاتي في السرايا التي بناها جدنا».
 
مدينة لا يغشاها الصدأ
 وأثناء طوافنا بين آثار «سواكن» لاحظنا أن كل المباني التي عمّرتها وقتذاك كانت مبنية من الصخور المرجانية وأحجار السيف والجير والأخشاب لمقاومة الرطوبة، ورغم تعدد طوابقها فلم يستخدم فيها الخرسانة والسيخ والأسمنت الذي بدأ إنتاجه عام 1870، وهذا ما يؤكد أن مدينة التاريخ لا تعرف الحديد ولا يغشاها الصدأ، وأن المرء قادر على بلوغ طموحاته بما تيسر له من معاول ومواد، وما تهيأ له من ظروف، كما لاحظنا أن عماراتها كلها مطلية من الخارج والداخل باللون الأبيض، كأنما أهلها متفقون عليه، هذا فضلاً عن أن تصاميمها الهندسية راعت مرور التيارات الهوائية إلى أقصى الداخل، ويقيني بأن تلك الآثار وأهميتها الحضارية الإنسانية والتراثية دفعت بالمركز الإقليمي العربي للتراث العالمي «البحرين» لترشيحها لتسجل كمحمية ضمن التراث العالمي بالتنسيق والتعاون مع السودان. 
  كانت حقبة القرنين الثامن والتاسع عشر من أهم الحقب ليس في تاريخ «سواكن» فحسب بل في تاريخ السودان كله، فالمدينة التي قدِم إليها الناس من بقاع شتى بأفكارهم ومعتقداتهم وثقافاتهم وحضاراتهم وتراثهم، وتمازجوا في جوفها في لوحات أنيقة بديعة، رفدت الداخل بما رُفِدت به، فعرف الناس من بعدها في السودان البناء المتعدد الطوابق واستخدام المشربيات والأقواس والفسيفساء في المباني، وعرفوا نظام العمل البورصي، والعمل الدبلوماسي، حيث أنشأت فيها بريطانيا عند احتلالها لمصر 1882 قنصلية للإشراف على البحر الأحمر، والعمل الأرصادي، فهي أول مدينة سودانية تقام عليها محطة للرصد الجوي عام1890، وكذلك النظام المصرفي، فكان البنك الأهلي المصري من أوائل المصارف في السودان. 
 وغير ذلك فقد عرفت «سواكن» مختلف أشكال الثياب والعطور الشرقية والبخور (الساري الهندي للنساء، والعراقي والسروال الطويل والصديري) وكله شكَّل حياة الناس فيها وأذواقهم، ثم دفعت بها إلى أسواق السودان.
 وفي العقد الأخير، أي بحلول عام 2006 بدأ تاريخ جديد لمدينة «سواكن» القديمة، إذ تفجرت حركة تنموية مفاجئة هائلة (يؤرخ لها) تعد الأبرز في تاريخها الممتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، أدت إلى نزوح الكثيرين إليها من مدن السودان المختلفة، وأن تكون سوداناً مصغراً، بجانب كونها محطة السفر الأولى والأخيرة للمسافر عبر مينائها إلى داخل السودان أو خارجه.
 وبعد مشاهدتنا للميناء تجولنا بين أحياء المدينة الجديدة برفقة أحمد همد، كنا نشاهد صوراً لم نكن نتوقع أن نشاهدها، وكلها تؤكد أن «سواكن» ماضية بخطوات حثيثة نحو التطور، وخاصة وقد لاحظنا التخطيط الحديث للمدينة، وأن أبنيتها العالية لمرافق جديدة قامت بمواصفات حديثة.
حدثنا همد قائلاً: «لقد تمددت المدينة في دائرة بقطر عشرة كيلومترات، فبجانب أحيائها المعروفة منذ القِدم فقد تم تخطيط المدينة، وقامت أحياء جديدة مثل حي الصفا، المهندسين، الفاروق، القيف الجديدة، دقنة، همشكوريب، وهناك مخطط لحي الدوحة، كما تم التخطيط لمواقع تجارية عدة». 
  وبعد طوافنا بين أحياء «سواكن» الممتدة على الطريق الفرعي، حيث المنشآت المختلفة، وقفنا جوار القرية السياحية التي تبعد عن بوابة «سواكن» بحوالي خمسة كيلومترات والتي شيدها ابن «سواكن» المعروف محمد نور هداب، وهي تحوي متحفاً يضم آثار المدينة... وبجوار القرية تقوم شركة المركز الكويتي للأعمال المتقدمة، بمنحة من الصندوق الكويتي لإعمار شرق السودان بتشييد مدرسة صناعية بمساحة 60 ألف متر، بتكلفة 3،4 ملايين دولار، تضم في تكوينها مجمعاً للورش ومعامل لعلوم الفيزياء، الكيمياء، الحاسوب، والرسم، ومنازل وداخليات، وصالات للمؤتمرات والطعام، ومسجد ومخازن بالإضافة إلى ساحات وميادين رياضية.
 وبعد انتهاء جولتنا في أرجاء المدينة بنفس بارد وخطى وئيدة، عدنا إلى السوق بعد أن أدينا صلاة المغرب في أحد المساجد الجديدة ولم نكن تناولنا وجبة الغداء، لا أعرف هل لأننا كنا مشغولين وأكثر شراهة لمعرفة التاريخ، أم لأننا متخمين بما عرفناه، فــي أحد المحال طلب زميلي المصور إبراهيم صحناً من المخبازة وهي أكلة شعبية محببة لأهل الشرق، يقال إن أصلها من اليمن وهي تتكون من فطير وموز وطحينة مضافاً إليها عسل أو سمن أو زبيب، وعادة ما يتناولونها في المساء وتقوم مقام الوجبة الأخيرة... أما أنا فاكتفيت بما عرفت، وفنجان من الجبنة، وبعد أن أضاءت المدينة مصابيحها غادرناها إلى ضرّتها بورتسودان، وفي النفس بقايا تاريخ لمدينة سادت ثم بادت ثم عادت مرة أخرى إلى الحياة.

آثار سواكن القديمة شاهدة على تاريخ قديم

الباعة يفترشون بضائعهم على الأرض - الصورة عام 1990

جانب من شاطئ تطل عليه مدينة سواكن