غنائيةُ الحُبَّ والطبيعة في شعر الأخطل الصغير

غنائيةُ الحُبَّ والطبيعة  في شعر الأخطل الصغير


 تقوم الغنائية – في اللغة – على ثلاثة:  تطْريب الصوت وتلحين الكلام، الغزل بالمرأة، كل مدح أو هجاء، وما يدور في فلكهما من أوصاف وأغراض شتى.
أما في الاصطلاح، فهي – كما يقول «المعجم الأدبي» -: «تعبيرٌ عن انفعالات خاصة ناتجة عن عواطف مثل الحب، والحقد، والاعتزاز... إلخ، فيندرجُ في الغنائية البوحُ بالمشاعر الحميمة، والإبانة عن الموضوعات العاطفية... فإذا ما عبّر الشاعر عن ذلك، في موسيقى أبياته، أنْتج ما نسميه الشعر الغنائي».
وسنجد أنّ ما نتطرّق إليه من شعر الأخطل الصغير، لا يخرج عن الإطاريْن اللغوي والاصطلاحي غناءً وتغنّياً، وصولاً إلى الترنّم الذاتي البعيد المدى.
ولو طالعنا ديوان الأخطل، وتصفّحنا قصائده ومقطّعاته الشعرية – وقد ناهزت المائة والأربعين عنواناً – لأدركنا أن هذا الشاعر يصح أن يلقّب بالغنائيّ الأكبر، أو الأوّل، في الشعر العربي المعاصر... ينافسه في ذلك، وربما يضاهيه: نزار قباني.
ذلك أنه لم يكد يخرج عن نطاق الذات الفردية، وانفعالاتها، في معظم قصائده ومقطعاته، الّتي احتلّ الحبُّ والطبيعة فيها، الحيّز الأكبر.

1- موضوعة الطبيعة
شكّلت الطَّبيعة المدار الأوسع في الشعر العربي – قديمه وحديثه – فكانت الحضن الروحيّ الأعظم للشعراء والكتّاب والمفكرين والفنّانين، نظروا إليها، كلٌّ من موقعه وإحساسه، فحلّوا فيها حُلول الطائر في وكره، والنحل على الزهر، والفراش بين الحقول... وأفاضوا في استخدام عناصرها رموزاً وأُطراً لأفكارهم وأحلامهم ونظرياتهم، فارتسمتْ في قصائدهم لوحاتٍ زيتيةً وفحميّة، مختلفة الأشكال والأصباغ، وخاطبوها كما العاشق والمعشوق، وارتحلوا في فيافيها وسهولها، وحزونها وأوديتها وأنهارها وجداولها وسواقيها، فتحصّلت لنا ثروة شعرية هي من عيون الشعر الرومنطيقي، في خارطة الشعر العربي.
وتتفاوت نسبة الحضور الطبيعي لدى الشعراء ما بين طغيان عام، وتناولٍ آنيّ رقيق، كما هي حال أخطلنا الّذي لم تتجاوز نسبة أشعاره الطبيعية، العشرين في المائة... لكن هذه النسبة تؤكد الانصهار ما بين الشاعر والطبيعة وتبادل الأحوال والأوصاف الّتي تُصيب كليهما. فنقرأ له قصيدة من سبعة أبيات، يرسم فيها هيكلية الوصال الروحي بين الإنسان والطبيعة، بقوله، مناجياً البلبل:
أيها البلبل المغرِّدُ في الليل
على كلِّ أخضرٍ ميَّادِ
أنا أدرى بالطير حينَ تُغنّي 
كم جراح سالتْ على الأعوادِ
سَلْ ضِفاف الهوى أأنبتنَ 
غُصناً كحبيبي أو طائراً كفؤادي؟
كلّما هَلْهلَ الأغاني عليها
قبَّلَتْه وأنكرتْ كل شادِ
خلقَ اللهُ للهوى قُبْلةَ الرو
حِ وراءَ الــــــخدودِ والأجيــــادِ
مناجاة حارة، وابتهال حميم أوسع مدى من أيّ صلاة طقسيّة يوميّة لا تعرف غير الحركات الظاهرة، أو تمتماتٍ خافتة لا تنسكب فيها الذات على ضفاف الوجد الخالص.
إنّ وحدة الشعور بين الشاعر والبلبل، أزالت الحدود بين الإنسان والطبيعة، وجعلت الكلّ، في مملكة واحدة، هي مملكة العشق والغناء، عشق الجمال وتسبيحه والتغنّي برشفاته نُغَباً سلسبيليةً كوثريّة، لا معاناة فيها إلا من شدّة الارتواء.
لكأنّ الوصال لا يكون بغير دموع واحتراق، كما لو كان غناءَ الحطب في الموقد، أو قطرات السَّحَر على أجفان الأوراق، وأكمام الزهر، لا يُرام من وراء ذلك متعةٌ شبقيّة، أو نهَم غريزي، بل عناقٌ أثيريّ، جناحه القُبلة الروحية المترنّحة على وهج الجمال.
ولا يفتأ الأخطل الصغير يخاطب الطَّبيعة، طيوراً وسواقي، وأنهاراً وورداً... يُغدق عليها من شذا روحه، فينساب القصيد ألحاناً رنيمة، كقوله، من قصيدة «ضفاف بردى»:
أنا مُذْ أتيتُ النهرَ آخرَ ليلةٍ
كانتْ لنا، ذكّرْتُه إنشادي
وسألْته عن ضِفَّتَيْه: ألم 
يزلْ لي فيهما أرجوحتي ووسادي؟
فبكى ليَ النهرُ الحنونُ توجُّعاَ
لمّا رأى هذا الشحوبَ البادي
ورأى مكانَ الفاحماتِ بمَفْرقي
تلكَ البقيَّةَ من جذًى ورمادِ
ومثل ذلك قصيدته «الطائر السجين» الّتي ينحو فيها نَحْو السرد الحنينيّ، والوصف الاعتباري، فارْتقتْ المساءلة الشعرية إلى رتبة التفاني في رسْم خارطة الوصال، في لغة مشتركة هي لغة المعاناة الكبرى حيال خطايا المجتمع، ورعونة الإنسان وهمجيّته:
كان في الروضِ كالهواء طليقاً
فغدا في الحديد يشكو الإسارا
هكذا أيها الشقيق أنا
اليومَ كلانا نُحارب الأقدار

2- موضوعة الحب
لا جدال في أنّ الحب، عصبُ الغنائية الشعرية على مرّ العصور... منه يحوك الشعراء خيوط قصائدهم الرومانسيّة، ويغزلون رؤاهم وتصوراتهم؛ ولأجله يُبحرون إلى المجهول في غياهب الطَّبيعة، ويتحلّلون من كل أشكال الواقع والمادة الّتي تحيط بهم إحاطة القضبان والقلاع الحصينة، بالسُّجناء... ومن دونه يفقد الأدب حرارته وحيويته، ويصبح كلاماً تزويقيّاً أقرب إلى الصنعة الحرفيّة منه إلى الخلْق الفنّي وإبداع الأشياء.
ومن النادر التعرف إلى شاعر لم يعرض لتجربة الحب في نتاجه الشعري، فاستحوذ التحجر على قلبه، وهيْمن الحسُّ العلميّ العقلانيّ على كتاباته واهتماماته... الفرق بين هذا الشاعر وذاك، أنّ أحداً شرّق في الحب وغرّب، وصَلِيَ بناره، والآخر غلبتْ عليه الرصانةُ والجدُّ، ولجمَ نفسه عن صبوات القلب واضطراب العاطفة، ولكنه ظلَّ إنساناً له مشاعره ونزواته العابرة، تملي عليه، في لحظات ضعفه الإنساني، بعض الخطرات الشعرية المتوقدة العاطفة، العذبة الوقع، يستعيض بها عن الكبت الذاتي والصدود المستتر. وقد يُفضي الأمر إلى استرسال شعري، وغنىً فنّي يجعلان منه شاعراً غنائياً رومانسياً له مكانته وحضوره.
وعندما نقول بالحب، فإن الإطار الحقيقي والمثالي له، هو الطَّبيعة الّتي كثيراً ما فجّرت الأحاسيس وهيّجت الكوامن القلبية. 
وكلّ قصيدة حبٍ، خارج هذا الإطار، قاصرة، منكفئة على ذاتها، أحاديّة التأثير.
فلا الحب، خارج ملكوت الطَّبيعة، سائغ مؤثِّر، ولا الطَّبيعة الخاوية الشاغرة، جميلة. ولو لم يكن حبٌّ في كنفها لوجبَ خلْقهُ أو تخيُّله واستحضاره، وعندئذٍ يسمو الشاعر في رحاب الغناء الذاتي، والحوار الهامس، فكيف إذا كان القلب متْرعاً بالحب، مغشيّاً عليه، من شدّة الخفق والاعتصار؟
وفي ديوان الأخطل الصغير، قصيدة من ثماني رباعيّات، عنوانها: «تراتيل المغيب» من أجمل الرباعيات الغنائية في الشعر العربي، عامة، وقصائد الأخطل خاصة. إنها سلسبيل الشعر الرومانسي: شدواً وصوراً وتراكيب وإيماءاتٍ متناهية الرقة واللطف.
وافقَ العنوانُ المضمونَ، فكانت كلُّ رباعية ترتيلاً سكونياً، أو قلْ: تسبيحةً مسائية تؤلف مع تسابيح الكائنات المودِّعة، ما يمكن تسميته: «سمفونية المغيب» التي يبلغ عدد العازفين فيها، والمنْشدين، المليارات ما بين إنسان وحيوان ونبات وجبال وبحار وأنهار.... كلٌّ له إسهامه، ونغمته ووقْعه وتأثيره.
ولمّا كان الأخطل مسكوناً بالجمال، مشغوفاً بالمرأة، اكتفى من «سمفونية المغيب» بحركة واحدة Allegro Modérato هي حركة العشق والوصال مع المرأة... تُسيطر عليها آلة الكمان بمصاحبة الناي: آلة النفخ الخشبية الّتي تصور لواعج القلب وتضوّر الجسد في لحظات الوداع... وهذه الآلة مع آلتيْ العود والرباب، أكثر آلات الموسيقى العربية استخداماً في الشعر العربي، لبساطتها، من جهة، ولصدق تمثيلها الأشجان، ومعاناة النفس مع حدَثان الدهر وصروف الأيام، من جهة ثانية:
آهِ ما أحلى الحُميَّا
تحت أذيال السكونْ
والهوى يوحي إليّا
برسالات العيونْ
كلما غنّيتُ لحناً
في ديار البلبلِ
سرقَ اللحنُ وألقا
هُ بأُذْنِ الجدولِ
ليس ما يُشجيكَ منّي
نغَماتٌ في فمي
إنها، والَهْفَ نفسي
قطراتٌ من دمي
رفع الأخطل من درجة الصبوة للنهود، إلى منـزلة الإنشاد المرتَّل المجوَّد... إنها الوجه الأنصع في علاقة الشاعر بالجسد، واشتهائه الّذي لم يخرج فيه عن حدود النَّشْق والارتشاف، تمارسها الأطيار والفراشات.
وهكذا، عوضاً عن السموّ نحو المراتب فوق الإنساني، سما الأخطل إلى الأدنى، فحاكى الأزاهيرَ والأطيارَ، وهي منـزلة لا تقلّ سموّاً عن المستوى الملائكي، لأننا، مع محاكاة الطير والنحل، بلغنا ذروة التعفف الإنساني، ومنتهى السلوك العشقيّ الراقي. فهو عشقٌ وغرامٌ بلا دَنَس... أما العشق الملائكي أو النجوميّ، فهو سلوك غيْبيّ ماورائي، لا علاقة له بعشق أبناء الأرض والمجتمع الإنساني.
الحنين والتذكار
من روافد الحب وتعرُّجات سُبله الموغلة في شعاب الذات: الحنين والتذكار اللذان ينْشطان ويستفحلان في الأمكنة والأصقاع البعيدة، وتقلّب الأحوال والأزمنة... فبلغا مداها الأوسع لدى شعـــراء المهجــــــر الّذين نزحوا عن أوطانهــــم إلى بلاد قصيّة، استوطنوها لتكون ملاذاً من أشباح الحرب والعَوز والفاقة، فإذا بهم يتحرقون لأثمن ما تملك ذواتهـــم: مسرح الحياة الأولى، وملاعب الصبا والذكريات الحميمة.
وقد يغترب الشاعر داخل الوطن، ويقف على شرفات المراحل والفصول، فتَنْزع ذاتُه إلى ذاته التي طوَتْها الأيام، وحوَّلتها إلى أصداء وذكريات ومغانٍ داثرة لم يبق منها إلاّ خيوط غسقيّة مغْبرّة، كما رأينا مع شاعر «الهوى والشباب» مع واحدة من قصائده الّتي فاضت بها قريحته: «كيف أنسى».
استحضر الأخطل في هذه القصيدة، شريطاً من ذكرياته البريئة الحالمة، وراح يستعيد، بالتراتيل والصلوات الهامسة، أُنْسَ الأيام، وفصول المرح، وحكايات العشيات، بما هو أجمل من الماضي، وأفْعل في النفس، من ذلك الزمان وفُسَحه ومُتَعه...
إذ لا قيمة للزمن في ذاته، بقدر ما هي في انعكاساته وظلاله الممتدة في الزمن الآتي، يعْتق رنينُها وينداح صداها كلما أمعنّا في القدم:
كيف أنساكِ يا خيالات أمسي
ذكرياتِ الصِّبا وأحلامَ نفسي؟
كيف أنسى الأيام صَفْواً وأُنْساً
كيف أنسى؟
(...) كم نشِقْنا تُقىً هناك وقُدْسا
كيف أنسى؟
أفلا تذكرين ذاكَ الغديرا
والأفانينَ حوله والزهورا
والسُّنونو يحدِّث الماء همسا
كيف أنسى؟!
ما أكثر  ما سال حبرٌ واشتعلَ جمرٌ، لدى حنين الشعراء إلى مرابع صباهم، وأمكنة حبِّهم القديم؟! فهَمَتْ عيونُهم من حَرور التذكر، وغَنَّوْا مذكراتهم بمثل تراجيع الحمائم في هدأة الأصيل وقد فارقتْ أُلاَّفها!
عصبُ هذا الشعر هو الشجن المصاحب لكل زفرة وكل خفقةٍ تلفَّظ بها لسان وتمتمتْ شفاه.
قد يقصرُ عن بلوغ الحقيقة، إنْ لم نربط جمال هذا الشعر وعظمته، بمسيل البوح تنبُس به الشفاه.
وتعليلنا لهذا القصور نابع من واقع نفسي شبه ثابت، وذلك أنه، عندما تضيق النفسُ بمكنوناتها، ويرزح الفؤاد بحِمْله، وتتكثّف الهمومُ في الجنبات، لا يجد المرءُ بُدّاً من البوح، فيَبْترد الجَنانَ، ويهدأ الخاطر، ويلْطفُ هجيرُ الحياة، ولو بصورة عابرة... فإنما النسمةُ الخاطفة، تهبُّ على وجه المكدود، تبْعث فيه ارتياحاً شديداً، أقلُّه التنفس والارتياح.
وكلّما كان الكلامُ معصوراً ومنتقى، كان الأثر المحصَّل أجمل وأفعل. وليس كالشعر، في هذا الإطار، من مؤثّر فاعل.
وينتهي الأخطل من شريط ذكرياته، ومسيل حنينه الغائر في طبقات الزمان، إلى ما يشبه الضَّراعة... أن يعود إليه ذيّالك الزمان، زارعاً في نفس القارئ حُرْقةً مدوّيةً في الأعماق، لأن شيئاً من ذلك، لن يتحقق:
يوم سمّى الرفاق سلمى العروسا
وأرادوا بأن أكونَ العريسا
فاعتنَقْنا وقد جعلناه عُرسا
كيف أنسى
(...) مَنْ مُعيدٌ إليَّ ذاك الزمانا
ومُعيدٌ إليَّ سلمى الآنا
لترى أنني وقدْ متُّ يأسا
لستُ أنسى...
لستُ أنسى، ما عشتُ، يومَ الفراقِ
وجراحاً حُمراً بتلك المآقي
وبُكاها وقولَها: سوف تنْسى
كيف أنسى؟
ولو أمعنَّا النظر في حقائق الأمور، لعرفنا أن الذاكرة وعاء واسع جداً لا يغفل عن شيء ذي بال، وما علينا سوى الغوص سحيقاً في الأعماق... وما رفْضُنا للنسيان إلاّ تأكيد لفضيلة الإخلاص وأُلفة الأشياء. ولكنّ ما مضى وما غار في ظلمات الزمن، لن تتاح له العودة والطَّوف على أديم الواقع، فنستعيض عنه بذلك التناجي الذاتيّ المتجدّد، في التذكّر والاستحضار.
وجملة القول في غنائية الأخطل الشعرية أنها خرجت من إطارها الإنشادي الذاتي، إلى قلوب الناس وحناجر المغنّين الكبار في لبنان والأقطار العربية، وعلى رأسهم سيد الموسيقى العربية محمد عبدالوهاب في قصائد دائمة الوهْج كالقلائد، وفيروز، وفريد الأطرش، وأسمهان وغيرهم... ممّن جعلوا شعر الأخطل الصغير، سوناتات معزوفة على آلتَيْ المرأة والطبيعة، تصاحبُهما آلة الحُب المندلع بين أروقة الأفئدة، وشعاب النفس الصابية إلى الجمال، صِبا المتعبّد في محرابه... يتبيّن لنا ذلك بصورة مدهشة، مع قصائده المغنّاة من أعلام الطرب والموسيقى في العالم العربي، وبخاصة كلٌّ من:
- «الهوى والشباب» الّتي تُعدُّ درّة قصائد الغناء في شعره، وخلاصة المعاناة الرومانسية الجارفة في صدره..
- و«الصِّبا والجمال» الّتي حلّق فيها الأخطل بعيداً، منتهياً إلى مقام التغريد، محققاً ثنائية اللذة الحسيّة والنشوة الروحية، ذاك أنه سكب فيه من بُرحاء شوقه وتصبِّيه، ما يفوق العطر المسكوب على الجسد الأنثوي.
- و«عِشْ أنتَ» الّتي أدّاها فريد الأطرش كما لم يؤدِّ أغنيةً أخرى.
- و«بأبي أنتَ وأمي» لصاحبة الحنجرة الذهبية أسمهان، الّتي كان الأخطل يقسِّمها بوجدانه، مترنّحاً بها قبل غيره، فكانت لنا موشّحةٌ غنائيّة، محكمة النظم، سلسالة كسُلاف المغيب، ورجع الزيزفون.
ومثل ذلك الكثير الكثير، مما غُنِّي به، وما لم يُغنّ.