الغزل في شعر الأخطل الصغير

الغزل في شعر الأخطل الصغير

ليس الأخطل الصغير من الشعراء الذين مروا مروراً عابراً في تاريخ الكتابة الشعرية العربية، وليس اسمه تفصيلاً بسيطاً وعارضاً في غابة الشعر الوارفة، بل هو الشاعر الحاضر أبداً في ذاكرة الشغوفين بالحياة والباحثين عن الجمال والمتذوقين لحلاوة التعبير. والدليل الأبلغ على أهميته هو نجاة اسمه وشعره من الغرق في غياهب النسيان، شأن الكثير من النظامين الذين يدقُّون للفت الأنظار نحوهم طبول الأيديولوجيا وصنوج العصبيات السياسية والطائفية والإثنية، ثم يسقطون بسرعة البرق في امتحان الزمن الذي لا يرحم. قد يقول قائل في هذا السياق: ولكن بشارة عبدالله الخوري حين سمى نفسه الأخطل الصغير لم يفعل ذلك لأسباب إبداعية بحتة، بل لأنه، وهو المسيحي اللبناني، أراد أن يعلو شأنه في نظر دعاة العروبة كما علا لأسباب غير شعرية شأن الأخطل النصراني في نظر الأمويين. وقد لا تكون ملاحظة مجافية للحقيقة في شيء سوى أن نجاة الأخطل الصغير من النسيان لا تتعلق بنضالاته السياسية ومواقفه القومية الجريئة، على وجاهتها، بل لموهبته العالية وكدِّه الفني وإصغائه المرهف إلى إيقاع زمنه المتغير، ما مكّنه بنجاح لافت أن يضيف بصمته الخاصة إلى المنجز الشعري الكلاسيكي، بعد أن ظن الكثيرون أن قصيدة الشطرين الخليلية قد استنفدت أغراضها وإيقاعاتها الرتيبة ولم يعد بإمكان أحد أن يحقنها بأمصال الجدة والتطور. ولا أقول إن الأخطل وحده هو الذي فعل ذلك، بل يجب ألا نغمط الحقوق المماثلة لأسماء لامعة من وزن شوقي ومطران وأبو شبكة والجواهري وبدوي الجبل وسعيد عقل وقلة غيرهم. وإذا كان لكل واحد من هؤلاء دوره في تجديد القصيدة العربية الكلاسيكية ومنعها من الاندثار فإن للأخطل على وجه الخصوص مساهمته الخاصة التي تعنى بالجمال عنايتها بالمعنى، وبالأناقة عنايتها بالبساطة وتعمل على ترشيف القصيدة وتخليصها من الزوائد.

ينتمي شعر الأخطل الصغير من هذه الزاوية إلى ما يمكن تسميته بالمدرسة اللبنانية في الكتابة، لا بالمعنى الكياني المحدود، بل بالمعنى المتصل بعبقرية المكان ودور الجغرافيا الفاعل في توجيه بوصلة المبدعين وأساليبهم، كثافة أو إطناباً، فظاظة أو رقة، أناقة أو رعونة. وعلى الرغم من أن الأدب اللبناني، شعراً ونثراً، هو جزء لا يتجزأ من الأدب العربي، فإن نظرة متفحصة إلى رموزه الأهم في القرن العشرين تقودنا إلى استنتاج أن هذا الأدب احتفى بشكل مفرط، وعلى تفاوت في النسبة، بالأناقة التعبيرية والترصيع الجمالي والتوشية اللفظية.
وباستثناء إلياس أبوشبكة الذي دفعته تجاربه الإنسانية والعاطفية المؤلمة إلى إشعال النار في لغته وأعصابه، راح عدد من الثائرين والشعراء من أمثال أمين نخلة وفؤاد سليمان وصلاح لبكي وسعيد عقل يحولون الكتابة إلى احتفال لغوي ومساحة للافتتان بالبلاغة والإيقاع والبيان المحكم. وربما كان سعيد عقل بالذات هو النموذج الأكثر تمثيلاً لهذه المدرسة على المستوى الشعري، حيث تم استبعاد الحياة الفعلية واليومية لإقامة «أعراس» لغوية شديدة الإبهار، وحيث يصل التأليف الشعري البرناسي إلى «سكون الحسن»، وفق تعبير أبي الطيب المتنبي. فهنا لا وجود لوحل الأرض وطينها وألمها ورجسها، ولا لتمزقات الداخل المأساوية. والمرأة عند عقل منزهة بدورها عن الدنس والشهوة الخاطئة والخيانة والإثم، كما لو أنها ماثلة في القصيدة والظن والمثال المجرد لا على أرض الواقع الفعلي. إنها «لا لتُضَمَّ ولا لتُشَمَّ» بلى كي تبقى حلماً يحلم به الهائمون خلف سرابها البعيد. وهي «الغد المنشود يسبقها الممات إليه غيلة». أما حضورها في السرير فوقْعه في الزمان لا في المكان، مشابه لوقع «الهنيهة في المطلق».
لم يذهب الأخطل الصغير من جهته إلى هذه المنطقة البعيدة النمنمة الأسلوبية والتنقيط الجمالي، رغم أن حساسيته الشعرية كانت أقرب إلى الاحتفاء بالشكل والعناية باللغة والنأي عن التقعر والتعقيد والتعسف التركيبي. وما يلفت في هذا السياق أن ديوان الشاعر برمته لم يتجاوز الثلاثمائة وبضع الصفحات، بما يجعله شاعراً مقلّاً بامتياز، شأنه في ذلك شأن لبكي ونخلة وعقل ومعظم الشعراء البلاغيين، الذين كانوا ينتقون مفرداتهم وتعابيرهم بعناية فائقة. على أن ما ميز الأخطل عن مجايليه وأترابه من الشعراء الجماليين هو قدرته اللافتة على المواءمة بين مقتضيات الشكل ومقتضيات المعنى من جهة، وبين نضارة التأليف ورهافة الإحساس وصدقه من جهة أخرى. لقد انعكست الطبيعة اللبنانية الساحرة في شعر الأخطل عبر رقة العبارة وصفاء الأسلوب وترشيق الأوزان التي اختار منها ما يلائم طبيعة الحياة العصرية ويدغدغ الأذن خفَّة وليونة واتصالاً بالتطريب السمعي، البعيدة عن المبالغة والضجيج النافر. ولهذا السبب فقد تحولت قصائده ومقطوعاته إلى أغان ناجحة ترنـــم بها كبار المغــنيـــن الــــعـــرب كمــحــــمد عبدالوهاب وفـــيروز وفريد الأطرش، من مثل «يا عاقد الحاجبين» و«الصبا والشــــباب»، و«يبكي ويضحك»، و«بلِّغوها» و«جفنه علّم الغزل»، و«لو مرَّ سيف بيننا» و«الهوى والشباب» وغيرها.
يحتل الغزل مكانة مرموقة في ديوان الأخطل الصغير الذي تتوزع قصائده بين الوصف والتأمل والرثاء والتفاعل مع الشأنين الوطني والقومي. ولعل الأخطل من أكثر الشعراء اهتماماً بمطالع القصائد وبخاصة في رثائياته الرائعة التي لا تجارى، كما لو أن الشاعر الشغوف بالحياة يحاول أن يواجه كابوس الموت عبر صرف الأنظار عنه باتجاه فتنة اللغة وجماليات الإنشاد. على أن جمال المطالع لا ينحصر في الرثائيات وحدها بل ينسحب على مقطوعات الغزل والحب، مثل: 
يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا
كعاشقٍ خط سطراً في الهوى ومحا
أو الصبا والجمال ملك يديك
أي تاج أعز من تاجيك
أو جفنه علّم الغزل 
ومن العلم ما قتل
وكثير غيرها مما يسهل حفظه وترديده حتى من دون أن يغنَّى. وقد يكون موقف الأخطل من الحياة والطبيعة والمرأة والوجود بوجه عام هو الذي يحدد وجهة شعره وأبعاده وتمثلاته. إذ لا مكان هنا للكتابة المتفجعة والنواح الرومانسي بل للفرح واجتراح اللذة والحب من الكأس قدر المستطاع، حيث الحياة فرصة يتيمة ينبغي اقتناصها. وإذا كان كل شيء مدفوعاً إلى حدوده القصوى فلماذا لا تكون المرأة كذلك؟ ولماذا يرتضي الشاعر من الحسن بنصفه أو كسوره الصغيرة؟
لكن الأمر في هذه الحالة يتطلب تضحية بالواقع لمصلحة المثال وبامرأة الأرض والطين لمصلحة امرأة القصيدة المتخيلة أو المحلوم بوجودها. ثمة ما يشبه بهذا المعنى أسطرة الوجود الأنثوي وتحويل المرأة المعشوقة إلى أيقونة خالصة البهاء. وهو ما نرى تمثلاته في الكثير من قصائدالشاعر الغزلية، كما في قصيدة «الصبا والجمال» ذائعة الصيت:
نصب الحسْنُ عرشه فسألنا
من تراها له فدلَّ عليكِ
كلما نافس الصبا بجمالٍ
عبقريِّ السنا نماهُ إليكِ
رفعوا منك للجمال إلهاً
وانحنوا سجَّداً على قدميكِ
وإذا كانت «كاف» المخاطب تشي بعلاقة عاطفية من نوع ما، أو تماس مباشر بين الشاعر وملهمته، يسوّغان ما يقدمه لنا من أوصاف ومدائح للمرأة المعشوقة، فإن الأخطل يرسم في قصائد أخرى صوراً مشابهة لنساء لا تربطه بهن صلات مماثلة. وهو ما يظهر في مطوّلته السردية «سلمى الكورانية» التي تتحدث عن علاقة حب جارفة بين سلمى وفؤاد، أحد الشبان اللبنانيين الذين اضطرتهم الفاقة إلى الهجرة والابتعاد عن الوطن طلباً للقمة العيش. وبينما ظلت الفتاة العاشقة تنتظر عبثاً حبيبها الغائب، الذي وعدها بالعودة وتتويج حبهما بالزواج، نسي المهاجر الأمر وغاص في عالمه الجديد، تاركاً خلف ظهره كل ما قطعه من عهود. وإذا كانت المطولة الشعرية تعبر عن الواقع الأليم في الحرب العالمية الأولى وما أصاب لبنان من مجاعة وفقر مأساويين، فإن ما يهمني في هذا السياق التأكيد على فكرة المثال الجمالي المسبق الذي يرسمه الشاعر للمرأة، بمعزل عن العلاقة المباشرة بها:
وتمتمت نجمةٌ في أذن جارتها
لما رأتها وجنَّت عند مرآها
انظرْن يا إِخوتا هذي شقيقتنا
فمن تراه على الغبراء ألقاها؟
أتلك من حدَّثَتْ عنها عجائزنا
وقلن إن مليك الجن يهواها؟
فأطلق المارد الجبار عاصفةً
تغزو النجوم فكانت من سباياها
وكان بالقرب منها كوكبٌ غزلٌ
يصغي، فلما رآها سبَّح اللهَ
لن نعثر في شعر الأخطل على قصيدة تشي بذلك الحب العنيف الذي يعصف بالروح ويزلزل الكيان، كما كان حال العذريين من أمثال عروة بن حزام وقيس بن الملوح وجميل بثينة وكثير عزة وغيرهم. ولن نعثر بالمقابل على ما يجعله نظيراً للعاشق الإباحي كعمر بن أبي ربيعة، حيث لا ينحصر المثال الأنثوي في امرأة بعينها، بل يلاحق الشاعر تجلياته في عشرات النساء الفاتنات دون أن يعثر على مبتغاه. لكن المتأمل في قصائد الشاعر الغزلية سيرى مزيجاً من الحسي والروحي، ومن المقدس والمدنس، ومن تمجيد العفة واعتناق الشهوة الآثمة. وسيرى إعلاء للأنثوية إلى حد التجرد من الجسد من جهة، و«تشييئاً» لها إلى حد تقطيعها إلى أجزاء وأعضاء منفصلة ينفرد كل منها بجماله الخاص من جهة أخرى. ففي إحدى القصائد نقرأ:
ما كان أحلى قبلات الهوى
إن كنت لا تذكرُ فاسألْ فَمَكْ
تمرُّ بي كأنني لم أكن
ثغرك أو صدرك أو معصمكْ
يبدو الأخطل من هذه الزاوية شاعراً أبيقورياً بامتياز، حيث إن إحساس الشاعر العميق بالموت وفكرة الزوال يدفعانه إلى الخانة المقابلة والمترعة بالرغبات ونشدان اللذة والإفادة القصوى من الحواس. والمرأة عنده هي حالة من أحوال الطبيعة، بل هي وردتها الأبهى والأكثر مدعاة للافتتان. وهو لا يرى ضيراً في تحويلها إلى لوحة طبيعية ضاجة بالمفاتن، كما يفعل الرسام.
ففي قصيدة «الصبا والجمال» يعمل على الإفادة من الأعضاء الأنثوية المكررة لينتقل عبر صيغة المثنى من «غصن» إلى آخر مستعرضاً وجوه لوحته المتناسقة.
وإذا كان الشاعر يحرص على المواءمة بين البعد الحسي للجمال وبين ظلاله الروحية والماورائية، فإن بعض أبياته تسقط أحياناً في التسطيح والوصف المباشر. لا يبدو الموت في المقابل أكثر من فكرة ميتافيزيقية في غزليات الأخطل الصغير. صحيح أنه يحضر في العديد من القصائد والمقطوعات ولكنه يبدو أقرب إلى الإيهام والافتراض والمبالغة التعبيرية أكثر منه موتاً حقيقياً، إنه يشبه أحياناً لفظة الموت في الوجدان الشعبي التي لا تعني الموت نفسه بل الإيحاء بآلام الحب أو الخوف أو الجوع. وإلا فكيف نفهم قول الشاعر:
بلّغوها إذا أتيتم حماها
أنني متُّ بالغرام فداها
واصحبوها لتربتي، فعظامي
تشتهي أن تدوسها قدماها
إن الإيحاء الأولي الذي يقدمه هذان البيتان للقارئ لا يتصل بالرعب والإشفاق والحزن على مصير الشاعر بقدر ما يتصل بسلاسة اللغة ورشاقة الأسلوب من جهة، وبالمفارقة التعبيرية القائمة على إسناد الاشتهاء للعظام، حتى وهي تداس بقدمي المعشوقة من جهة أخرى. ومع أننا لا نستطيع اعتبار الأخطل شاعراً رومانسياً، كما هي حال نقيضه الشعري إلياس أبوشبكة، إلا أنه يلتقي مع الرومانسيين في تحويل الموت إلى حالة جمالية أو صورة بيانية وبلاغية. وهو يكرر الصورة نفسها تقريباً في مكان آخر:
إن قلباً تدوسه قدماها 
ذلك القلب مات موتاً شهياً
الموت إذاً هو الموت الشهي أو المشتهى على صدر المرأة المعشوقة أو تحت قدميها وليس أي موت آخر. ولأنه في الواقع لا يرغب بمصير مشابه لمصير العذري عروة بن الورد في حبه اليائس لعفراء، فالأخطل يؤثر رواية القصة على شكل قصيدة طويلة يسرد فيها وقائع تلك الفاجعة العاطفية المؤثرة. صحيح أن قوله في إحدى المقطوعات: 
لم يشْقني يوم القيامة لولا
أملي أنني هناك أراها
يحمل تأثراً واضحاً بقول عروة:
وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني
وعفراء يوم الحشر ملتقيانِ
ولكن الأخطل في عقشه للمرأة أقل مجازفة من عروة، وعشقه للحياة وجمالاتها الآسرة يمنعه من التضحية الحقيقية بها، ومن تحويل الموت «البلاغي» إلى موت حقيقي.
أكثر ما يفعله الأخطل في مواجهته لغدر المرأة أو جحودها هو تذكيره لها بأن صورتها في مرايا قصائده أجمل بكثير من صورتها على أرض الواقع، ما يؤكد مرة أخرى أن جزءاً غير قليل من الجمال يتصل بالعين التي لا تراه لا بمصدره الأصلي.
وقد توصل أحد الباحثين في تعقبه لعرائس الشعراء وملهماتهم إلى استنتاج مفاده أن غالبية هؤلاء الملهمات لم يكنَّ على قدر وافر من الجمال، بل إن معظمهن أكثر ميلاً إلى القبح، وأن من منحهن سحرهن هم عشاقهن من الشعراء الذين ألفوهن من بنات الخيال وأسقطوا عليهن الكثير من التصورات الذاتية والبلاغية. هكذا نقرأ للشاعر في إحدى لحظات غضبه:
ماذا؟ أحقاً كنت بي تهزئينْ
وكنت في حبك لي تكذبينْ
هل كنتِ في أبهى ليالي الهوى
أيام كنتِ فتنة الناظرين
هل كنت إذ ذاك سوى آلةٍ
ألحانها مني ومنها الرنين؟
إن جاءت الألحان تسبي النُّهى
فأيُّ فضلٍ عندها تدَّعين
ألم أكن أسطيع إنشادها
على الملا من غير ما تُذْكَرين؟
تبدو قصيدة «هند وأمها» في المقابل من أجمل القصائد الغزلية التي كتبها الأخطل، حيث تسرد الفتاة المراهقة على مسامع أمها وجوهاً شتى من فصول التغيرات المباغتة التي نقلتها من طور الطفولة إلى طور التفتح الأنثوي. وبأسلوب ذكي ولمّاح يقيم الشاعر مماهاة كاملة بين الطبيعة والأنوثة، على عادته في الكثير من قصائده، لكن الطريف في الأمر أن السرد في القصيدة يأخذ طابع الشكوى والتساؤل الحائر من قبل الفتاة، التي يتضافر على «التحرش» بها كل من الضحى والدجى والروض والغصن والبحر. وكما كان الأخطل يوفّق في صياغة مطالعه أجاد في المقابل صياغة خواتيمه وقفلاته الشعرية، وبخاصة في هذه القصيدة الحوارية الطريفة التي نقرأ في نهايتها:
فها أنا أشكو إليكِ الجميع
فبالله يا أمُّ ماذا ترين؟
فقالت، وقد ضحكت، أمها
وماستْ من العُجْب في بُرْدتين
عرفتُهُمُ واحداً واحداً
وذقتُ الذي ذقتِهِ مرَّتين
ولا بد أن نلاحظ مرة أخرى إفادة الشاعر المتكررة من صيغة التثنية التي فتحت أمام الشعرية العربية منذ «قفا نبك» آفاقاً دلالية وإيقاعية وجمالية لا تحصى. ثمة نقطة مهمة يصعب إنهاء هذه المقالة دون الإشارة إليها، وهي مسألة تذكير المؤنث في العديد من قصائد الغزل الأخطلي، مثل «يا عاقد الحاجبين»، و«إن كنت لا تذكر فاسأل فَمَكْ»، و«جفنُهُ علَّم الغزلْ» وغيرها. وإذا كانت هذه الخاصية لا تنحصر في الشاعر وحده بل تعود إلى العصور العربية القديمة، وخاصة العصر العباسي، حيث انصرف العديد من الشعراء إلى التغزل بالغلمان، وبدت الغلمة معياراً للحكم على الجمال الأنثوي، فإن مجاراة الأخطل لهذا التقليلد تؤكد وفاءه للنهج الكلاسيكي في الشعر العربي رغم أن عناصر الجدة في لغته وأسلوبه وإيقاعاته تضعه في خانة ما يمكن تسميته بالكلاسيكية الجديدة أو المستحدثة.
لكن دلالة إسناد صيــغــة المذكّر للمؤنث تشير من جهة أخرى إلى النزوع الذكوري، لا في الحياة العربية وحدها بل في قواعد اللغة ونحوها وصرفها في الوقت ذاته. يبقى القول أخيراً إن قيمة الشاعر الفعلية لا تتمثل فقط في اختيار موضوعاته وأفكاره بشكل أساسي، بل في فرادة لغته وأسلوبه وفي صياغــــة هويتــــه الخاصــــة، وأظــــن تبــــعاً لذلك، أن الأخطل الصغير هو أحد أكثر الشعراء المعاصرين أصالة وعذوبة وغنائية ووقوفاً على العتبة الأهم التي وفّرت لمن أتوا بعده سبل الولــوج إلى الحداثة.