الشعرُ المغنَّى للأخطل الصغير

الشعرُ المغنَّى للأخطل الصغير

هناك نفر من شعراء العرب في القرن العشرين، كانت لهم علاقة بأهل الموسيقى والغناء، بحيث تحولت كثير من قصائدهم إلى ألحان وأغنيات خالدة. يقف على رأس هذا النفر ثلاثة أسماء هي: أحمد شوقي والأخطل الصغير ونزار قباني.

مع محمد عبدالوهاب
في ما يخص شاعرنا اللبناني الكبير الأخطل الصغير، فقد بدأت العلاقة بين قصائده وأهل النغم والغناء من بوابة واسعة، هي بوابة محمد عبدالوهاب، بعد أن كان قد تربع في أواخر العشرينيات على عرش الطرب والغناء العربيين، مع زميلته أم كلثوم.
ولعل العلاقة بين الأخطل الصغير ومحمد عبدالوهاب كانت نوعاً من الاستقرار في العلاقة الروحية العميقة التي كانت تجمع بين عبدالوهاب وأبيه الروحي أمير الشعراء الأول أحمد شوقي.
فالحقيقة التاريخية تكشف أن علاقة عبدالوهاب بالأخطل قد بدأت في أواخر أيام علاقته بأحمد شوقي، إذ كان لقاؤهما الأول في حفل لتكريم شوقي في ضيافة رئيس الجمهورية السورية أو اللبنانية (هنالك تضارب في المعلومات التاريخية). في هذا الحفل، قام أحد الحاضرين بتقديم الأخطل الصغير إلى عبدالوهاب، فأسمعه مطلع قصيدة كان بصدد تأليفها:
الهوى والشباب والأمل المنشود
توحي فتبعث الشعر حيا
والهوى والشباب والأمل المنشود
ضاعت جميعها من يديا
هذا المطلع حرّك الكوامن الموسيقية لدى عبدالوهاب، فطلب إلى الأخطل أن يستكمل هذا المطلع قصيدة كاملة، ليقوم  عبدالوهاب بتلحينها وغنائها. وقد كان ذلك في أوائل عقد الثلاثينيات، حيث لبى الأخطل الصغير طلب عبدالوهاب، وأرسل له القصيدة التي تحول عنوانها في ما بعد إلى عنوان لأول دواوين الأخطل الصغير «الهوى والشباب».
أما الأغنية فقد كانت من أكثر قصائد عبدالوهاب الغنائية تجديداً وتطوراً، لكنه لأسباب تقنية اكتفى بتسجيلها مع عوده المنفرد، وليس بمصاحبة فرقة موسيقية كاملة، تماماً كما فعل مع رائعته الأخرى من نظم أحمد شوقي «يا شراعا وراء دجلة يجري».
بعد ظهور هذا اللقاء الأول بين الفنانين الكبيرين، كان أحمد شوقي قد رحل عن الدنيا في عام 1932، ويبدو أن هذه العلاقة الجديدة بين الملحن الكبير والشاعر الكبير، قد جاءت تعويضاً جزئياً عن الفراغ الفني والإنساني الكبير الذي تركه في نفس عبدالوهاب رحيل أحمد شوقي.
عند هذا المنعطف، مع بداية عام 1933، كان محمد عبدالوهاب قد انصرف إلى تدشين عهده في إنتاج الأفلام السينمائية الغنائية، مفتتحاً هذا العهد الفني، بعد ظهور «أنشودة الفؤاد»، أول فيلم غنائي تاريخياً، من ألحان زكريا أحمد وغناء نادرة.
وبينما كان عبدالوهاب يصوّر في باريس فيلمه الأول «الوردة البيضاء» ويسجل جميع أغنياته، وصله بالبريد نص قصيدة بالغة الحداثة من شعر صديقه الجديد بشارة الخوري هي «جفنه علّم الغزل».
ومع أن بعض أعضاء الفرقة الموسيقية كانوا قد عادوا من باريس إلى القاهرة، بعد الانتهاء من تسجيل جميع أغنيات الفيلم، فإن القصيدة قد استولت على مشاعر عبدالوهاب، فقرر تلحينها فوراً وتسجيلها مع النفر القليل الذي تبقى من أعضاء الفرقة الموسيقية. وبالفعل فقد سجلت هذه القصيدة تطوراً كبيراً في تلحين القصيدة الحديثة لدى عبدالوهاب.
بعد ذلك أُجّل اللقاء بين عبدالوهاب والأخطل الصغير حتى عام 1937،  عام تتويج فاروق ملكاً على مصر، خلفاً لوالده فؤاد الأول، وكانت مشاعر شعبية عارمة تحيط بهذا الحدث مصرياً وعربياً، أملاً في العهد الجديد للملك الشاب, فنظم الأخطل قصيدة بديعة بالمناسبة كان مطلعها:
أنزلت آية الهدى في جبينك
فإذا الشرق كله طور سينك
لكن هذا المطلع بالذات هو ما أثار عواطف النقد الديني في وجه القصيدة، فبقيت محجوبة عن السمع حتى ما قبل وفاة عبدالوهاب بقليل، وكان قد سجلها على عوده المنفرد، مثل «الهوى والشباب».
وبعد ذلك بعامين، أي في عام 1939، وبينما كان عبدالوهاب منصرفاً إلى إعداد فيلمه الرابع «يوم سعيد»، حصل من صديقه الأخطل الصغير على قصيدتين، الأولى نظمها في تتويج ملكة جمال لبنان، بعنوان «الصبا والجمال»، والثانية كانت طرفة فنية بعد أن اتفق عبدالوهاب مع الشاعر الكبير على أن يكتب له أغنية عن الورد، تجمع بين اللغة الفصحى واللهجة المصرية العامية، والحقيقة أن الأغنيتين نالتا انتشاراً شعبياً كبيراً، مع أن الفيلم نفسه قد تضمن مغناة «مجنون ليلى»، من أشعار أحمد شوقي، وغناء عبدالوهاب وأسمهان.
بعد ذلك، وفي نهاية الأربعينيات، كان من المتوقع أن يتم لقاء جديد بين عبدالوهاب والأخطل الصغير، عندما كتب عبدالوهاب رسالة لصديقه الشاعر الكبير، يشرح له فيها الموقف الدرامي في نهاية فيلم «غزل البنات» (1949)، ليكتب فيه قصيدة عن الحب المستحيل، ويلحّنها ويغنيها عبدالوهاب في نهاية الفيلم، لكن شاعرنا الكبير لم يتجاوب مع رغبة صديقه، فكانت أغنية «عاشق الروح» بالعامية المصرية، نظم حسين السيد.
 في أواخر الثلاثينيات، ومع تطور العلاقة الشخصية والفنية بين عبدالوهاب والأخطل الصغير، بعث له هذا الأخير واحدة من أروع قصائده:

اسقنيها بأبي أنت وأمي
لكن يبدو أن مزاج عبدالوهاب الفني قد تأخر في التجاوب مع قصيدة الأخطل، فقرر أحدهم، ولعله صاحب شركة بيضافون، التي كانت تحتكر إصدار أغنيات كبار الملحنين والمطربين، تحويل القصيدة إلى الموسيقار محمد القصبجي ليلحّنها لصوت أسمهان التي كان نجمها ساطعاً في تلك السنوات، وهكذا ربحت المكتبة الموسيقية العربية واحداً من أروع ألحان محمد القصبجي، ومن أروع أغنيات أسمهان.

مع الأخوين رحباني وفيروز
مع انطلاق النهضة الموسيقية والغنائية اللبنانية بين الخمسينيات والسبعينيات ما كان يمكن أن يبقى شعر الأخطل الصغير بعيداً عن تناول كبار ملحني هذه النهضة الموسيقية، ويبدو أن أكثر المنتبهين إلى الجزالة الشاعرية في قصائدالأخطل الصغير كان كل من عاصي ومنصور رحباني، فبدآ تناول عدد من هذه القصائد تدرجاً، وتحويلها إلى ألحان بديعة تؤديها المطربة الكبيرة فيروز، في مختلف مراحل تطورها الفني.
ولعل من أشهر وألمع هذه الأغنيات أغنية «وداد» التي يقول مطلعها:
يا قطعة من كبدي
فداك يومي وغدي
تلتها رائعة ثانية هي قصيدة «ندى»، بعد ذلك تناول الرحبانيان بالتلحين إحدى أشهر قصائد الأخطل، فتحوّلت إلى أغنية ذائعة الصيت بحنجرة فيروز في أحد أفلامها:
يا عاقد الحاجبين
على الجبين اللجين
وفي مرحلة متقدمة، وعندما غاص الأخوان رحباني في الشعر الأندلسي ذي الديباجة الصافية والسلسة والعذبة، كأنهما تنبّها إلى وجود تشابه بين الديباجة الفنية في الشعر الأندلسي القديم، وقصائد الأخطل الصغير الحديثة، وقع اختيارهما من شعر الأخطل على قصيدتين رائعتين غنتهما فيروز بعذوبة مماثلة، القصيدة الأولى:
قد أتاك يعتذر
لا تسله ما الخبر
أما الثانية فهي:
يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا
كعاشق خط سطرا في الهوى ومحا
وبما أن الأخوين رحباني وفيروز قد درجوا على تقديم قصيدة سنوية في حب دمشق، تقدم على مسرح معرض دمشق الدولي، الذي كانت فيروز نجمته الدائمة، فقد وقع اختيارهما في إحدى السنوات على قصيدة من روائع الأخطل الصغير:
سل عن قديم هواي هذا الوادي
هل كان يخفق فيه غير فؤادي
إلى أن يقول:
قالوا تحب الشام، قلت جوانحي
مقصوصة فيها، وقلت فؤادي
وقد تطورت هذه العلاقة الفنية الرفيعة بين الأخطل الصغير والمؤسسة الرحبانية، بعد أن تم زفاف نجله الكبير الشاعر عبدالله على شقيقة عاصي ومنصور، وأنجبا بشارة الخوري الصغير، الذي يحتل اليوم مركزاً مرموقاً في عالم الموسيقى في فرنسا.

فريد الأطرش ونور الهدى
يبدو أن الفنان الكبير فريد الأطرش، قد مر بثلاث مراحل متفرقة، كان يميل فيها إلى تلحين القصائد الفصحى:
الأولى من بداية حياته الفنية، ملحناً قصائد يوسف بدروس وصالح جودت، ثم الوسطى ملحناً قصيدتين للشاعر كامل الشناوي. لكن فريد الأطرش، في مرحلته الفنية الأخيرة قد التفت إلى القيمة الغنائية في شعر الأخطل الصغير، فلحن وغنى ثلاثاً من روائعه، في فترة قصيرة، وبذل في تلحين هذه القصائد جهداً فنياً عالياً، وهي على التوالي:
أضنيتني بالهجر ما أظلمك
فارحم عسى الرحمن أن يرحمك
والثانية:
عش أنت، إني مت بعدك
وأطل إلى ما شئت صدك
أما القصيدة الثالثة فكانت ذات موضوع وطني من روائع الأخطل الصغير في قضية فلسطين، قبل عام 1948، عنوانها «وردة من دمنا» ومطلعها:
سائل العلياء عنا والزمانا
هل خفرنا ذمة مذ عرفانا
ولعل أشهر ما يتعلق بهذه الأغنية التي لم تلق رواجاً جماهيرياً كسابقتيها، أن فريد الأطرش كان يبذل في تلحينها آخر محاولاته للالتقاء بصوت أم كلثوم، لكن عدم تجاوب هذه الأخيرة، دفعه إلى تسجيلها بصوته. والحقيقة أن مطربة كبيرة أخرى قد غنت واحدة من روائع الأخطل الصغير هي نور الهدى، فقد غنت له قصيدة يقول في مطلعها:
نم، إن قلبي فوق مهدك

هند وأمها
غير أن ملف العلاقة بين شاعرية الأخطل الصغير وأهل الموسيقى والمغنى، لا يمكن أن يغفل الإشارة إلى أغنية شهيرة لصباح، كتب كلماتها بالعامية المصرية الشاعر مرسي جميل عزيز، ولحّنها الموسيقار كمال الطويل، وهي مستوحاة من قصيدة بالفصحى من روائع الأخطل الصغير «هند وأمها»، يقول مطلعها:
أتت هند تشكو إلى أمها
فسبحان من جمع النيرين
أما عنوانها بالعامية فهو «مال الهوى يما مال»، وهي تروي قصة فتاة جميلة جاءت تشكو إلى أمها تفتح معالم الأنوثة في جسدها، ولاشك في أن الأقدم هي قصيدة الأخطل الصغير بالفصحى. لكن الأغنية العامية المستوحاة منها كانت بين أجمل أغنيات صباح في مرحلتها المصرية.
إنها ملامح قصة طويلة من العلاقة التي قامت بين كبار أهل الموسيقى والغناء، وبين أشعار الأخطل الصغير بشارة الخوري، وهي علاقة كانت على ما يبدو غالية على قلب شاعرنا الكبير، حتى إنه عندما كتب مقطوعة قصيرة عند تنصيبه أميراً للشعراء في بيروت في الستينيات، وكان قد بلغ من العمر عتيّا، كتب في لهجة رثائية معاتباً ومترحماً على أيام شبابه:
أيوم أصبحت لا شمسي ولا قمري
مَن ذا يغنّي على عود بلا وتر؟.