حضارات سادت ثم بادت - المغـــول

حضارات سادت ثم بادت - المغـــول

عاش المغول في أراض واسعة بما يطلق عليه اليوم شمالي الصين وشرقي منغوليا وغربي منشوريا. لم يكن للمغول في الألفية الأولى من التاريخ الميلادي شأن مذكور، حتى بدأت الخلافات الطامعة في السيطرة والحكم مع بداية الألف الثاني للميلاد، بين أكبر أسرتين مغوليتين هما: أسرة «يوان» وأسرة «لياو»، وكان لكليهما إقطاعات شاسعة وجيوش من القبائل المؤيدة التي كانت تقطن الأراضي الواسعة في تلك المنطقة. واستمر الحال بين الأسرتين نزاعاً على الأراضي وصراعاً على السلطة، فعندما جنحت أسرة يوان إلى التحالف مع الأسَرِ الكبيرة، عملت أسرة لياو على استمالة القبائل البداة لتأييد مطلبها في الحكم. ولقد عُرف عن رجال تلك القبائل البأس والقوة وشدة المراس في المعارك. وقد كانوا يستخدمون الخيول في حياتهم اليومية كما كان العربُ يستخدمون الإبلَ، حيث كانت لهم مالا وغذاء، رَعْياً وانتقالاً ولهواً في ألعابهم وسباقاتهم، ومنها يأكلون. وكان يُطلق على قبائل المغول البداة اسم «التتار» أو «التتر»، لم يتحمل التتار الخاضعون لحكم أسرة لياو في الهضبة المنغولية تمادي تلك الأسرة في إرهاق الأهالي مالياً وعسكرياً، حيث أحسوا بأنهم سخرة وتابعون أكثر مما هم مواطنون ومؤيدون. هنا انقلبت أسرة «جين» على أسرة لياو بتأييد من التتار، وفي عام 1125م سيطرت هذه الأسرة على معظم الأراضي التي كانت تسيطر عليها أسرة لياو، ولكن المغول انضووا تحت راية القائد قابول خان، أحد أكبر قواد جيوش أسرة لياو، الذي استطاع دحر قوات أسرة جين عن منغوليا ومنشوريا وجزء من شمال الصين. قد يبدو الأمر أنّ الأسر الكبيرة تتخذ من قادتهم أمراء «خانات» يحكمون مناطق تكون دويلات مستقلة تحت مظلتها. لم يمض وقت طويل حتى برزت شخصية قيادية من أحفاد قابول خان استطاعت بعبقريتها خلق جيش جرار عظيم، يضم قبائل من التتار وقوميات أخرى شكلت قواماً عسكرياً يضاف إلى قوة المغول، إنّه «تيموجين» الذي اتخذ لنفسه لقب «جنكيز خان» الذي ما إن نودي به حاكماً وقائداً للجيوش المتحالفة حتى مد نفوذ دولته إلى كل من الصين ثم اليابان شرقاً، وسيطر على هضبة التبت جنوباً، وصولا إلى ما يسمى اليوم بكمبوديا، ثم جيش الجيوش للزحف غرباً. اعتمد جنكيز خان في حروبه على استراتيجية جديدة، بأن جعل الفرسان في جيشه أضعاف أضعاف المشاة، ويرجع نجاح ذلك إلى أنّ التتار فرسان بالطبيعة، حيث ينشأ الفتى منهم على التعامل مع الخيل، وكان القنص واللهو عند الفتى منهم لا يحلو إلا على صهوة الجواد. لقد كان الجواد في تلك العصور كالدبابات المدرعة في العصر الحديث، أسرع وأقدر على اختراق صفوف الأعداء وإلحاق الهزيمة بهم، وعلى صهوة الجواد كان المقاتل المغولي ينام ويأكل ويحارب بالسيف والرمح ويرشق خصمه بالنبال، لذلك كانت مسيرة الجيوش المغولية سريعة في الوصول إلى غايتها المكانية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان المغول يبثون عيونهم وجواسيسهم قبل فترة من الزحف العسكري ليمدوهم بكل المعلومات، خاصة المعلومات الجغرافية والعسكرية، إلا أنّ أنجح الأساليب التي اتبعتها قيادات المغول كانت بث الرعب في قلوب الخصوم والأعداء، لهدم الروح المعنوية للجيوش المعادية، الأمر الذي صوّر المغول كأنهم همج متوحشون. وقد ساعد على ترسيخ مثل هذه الصورة أساليب القتل والتمثيل بالقتلى وطرق تدميرهم للمدن. كان ذلك ضمن خطة مدروسة من قادة الجيوش، لجعل جيوش المدن تستسلم دون ما أي مقاومة، وهذا ما كان يحصل في أغلب الأحيان، حتى سقطت تحت أيديهم دول وحضارات، كان آخرها سقوط بغداد عاصمة الدولة العباسية عام 1258م. 
ابتكر المغول استراتيجية عسكرية في الدعم والإمداد لم يسبقهم إليها أحد، خاصة أن جيوشهم الغازية كانت تبتعد جغرافيّا عن موطنها وحكومتها المركزية، كانت عنايتهم بزرع عيونهم وجواسيسهم في كل طرق زحف جيوشهم، إلى جانب عنايتهم بنظام بريدي غاية في الدقة، سبب نجاح مسيرتهم العسكرية، لقد كان الدعم والإمداد يأتيهم عن طريقين: أولهما استخدام وربما استنزاف ثروات المدن والقرى التي يحتلونها، وتسخير وتجنيد رجال تلك المناطق التالية للعمل في جيوشهم لحمل العتاد وجر المجانيق التي يحاصرون بها المدن التالية، وثانيهما الاستعانة بأقرب جيش من جيوش المغول، وكان المدد يأتيهم بسرعة خيول الحرب وبأقصر الطرق التي درسوها وعرفوها، ولكنهم، وعلى الرغم من كل تقدمهم العسكري وقوتهم الحربية، انهزموا، ولأول مرة، أمام جيش المسلمين بقيادة المماليك في معركة عين جالوت عام 1260م. هنالك انهزم جيش المغول وتراجع القهقرى، ويُسبب المؤرخون هذا الاندحار بثلاثة أسباب: أولاً: بُعد الجيش المغولي عن قيادته المركزية في العاصمة «كَراكَوروم»، دون دعم أو إمداد. ثانياً: وفاة الخان الأكبر للمغول «أوقطاي خان» ابن جنكيز خان، مما أدى إلى انسحاب أخيه قائد الجيش الغازي للشرق هولاكو من قيادة الجيش ورجوعه إلى عاصمة الدولة لحضور مؤتمر القيادات «القوريلتاي»، وقد تبعه كل قادة الجيوش وأنابوا عنهم مساعديهم. ثالثاً: اتحاد المسلمين تحت راية واحدة وإيمانهم بالدفاع عن الوطن. 
صنع المغول لهم إمبراطورية اعتبرها المؤرخون ثاني أكبر إمبراطورية عبر التاريخ مساحة بعد بريطانيا العظمى، ولكن ماذا عن «الحضارة»؟ هل كان للمغول حضارة؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال دعنا نستعرض مقومات الحضارة أولاً:
1- المقوّم الأخلاقي أو القيَمي (الدّين): 
وهو عبارة عن تلك القيم التي ترسم للفرد والمجتمع مثالية السلوك الإنساني، وعادة ما تدوّن تلك القيم على شكل شرائع دينية أو مواد قانونية، والحقيقة أنّ مفهوم الأخلاق مفهوم نسبي بين مجتمع وآخر، وبذلك تتفاوت مقاييس السلوك من ثقافة إلى أخرى، وبالتالي من حضارة إلى حضارة، لذا كانت «ياسا» هي دستور المغول وأصل القوانين لديهم.
2- المقوّم الاقتصادي: 
هو النمط الاجتماعي الذي يتحكّم في مصادر الثروة المادية وتوزيعها بين طبقات المجتمع وأفراده، والمقوّم الاقتصادي يمر بمراحل مختلفة تتطور بتطور المجتمع، كالصيد ثم الرعي ثم الزراعة ثم الصناعة، ويكون العائد المادي من خلال التبادل التجاري الذي شجعه جانكيز خان عندما وضع قوانين الدولة الأساسية.
3- المقوّم السياسي: 
وهو السلطة الاجتماعية التي تتكفّل بحماية الحقوق وفرض الواجبات لأفراد المجتمع، وقد تأخذ هذه السلطة أشكالاً مختلفة أو تتبع أساليب معينة على حسب حاجة المجتمع أو أدائه، وقد كان مبدأ السلطة عند المغول تيمقراطية Timocracy، ويفسر أفلاطون التيمقراطية على أنها حكومة يستأثر بصنع قراراتها مَن هم مِن ذوي الأنساب في أسرة أو قبيلة أو عشيرة ما.
4- المقوّم الثقافي: 
وهو ذلك النشاط الفكري والفنّي، وما يصدر عنه من ضروب المعرفة والتصورات الجمالية، وداخل هذا النطاق تكون الفلسفة والفن باختلاف المذاهب والألوان، فهل كان للمغول مساهمة في الحضارة العالمية من هذا الجانب؟
حضارة المغول تتجلى لنا من خلال منظومة «الياسا»، القانون الذي وضعه جنكيز خان دستوراً للبلاد، ومن خلال الياسا فُرضَت المساواة بين عامة الناس وخاصتهم في الواجبات، وتم سن الجزاءات القاسية على المخالفين للقانون، وتنظيم الحكم من خلال «قوريلتاي» كجمعية عامة تنتخب الخان الأعظم وولي عهده وتناقش شؤون الدولة وسياستها الداخلية والخارجية. وكان للتسامح الديني المُعلن كمادة قانونية من الياسا، الذي كان أساس التعامل مع الشعوب التي غدت بالتبعية جزءًا من تلك الإمبراطورية، أثره على دخول معتنقي الديانات في عباءة المغول، خاصة أن المغول قد أعفوا المساجد والكنائس والمعابد من الرسوم الضريبية. كانت ديانة المغول الأصلية خليطاً بين طقوس الوثنية وطقوس الطوطمية، مثل هذه الديانة ومثل تلك الطقوس كان لابد أن تضمحل أمام عقائد وفلسفات أكثر عقلانية وأقرب تصديقاً، كالإسلام والمسيحية والبوذية، وهكذا نرى تحول قادة المغول للأديان الجديدة عليهم، وعلى الرغم من تظاهر تيمورلنك باعتناقه للإسلام ديناً، إلا أنّ سلالته ابتداء بظهير الدين محمد بابر كان أول قادة المغول المسلمين، وقد اتخذ من «كابل» في أفغانستان عاصمة له، وبتولي جلال الدين أكبر امتد نفوذ هذه السلالة إلى شبه الجزيرة الهندية فحكموا جلّ أراضيها: السند وكشمير ودلهي وكجرات، وسيطر على البنغال، وقد أطاح جلال الدين أكبر بالفوارق الاجتماعية بين الطوائف والأديان، فألغى زواج الأطفال ومراسيم حَرْق أرملة الميت معه، وكان ذلك طقساً دينياً عند الهندوس، كما تزوج من أميرة هندوسية، فضمن ولاءات معظم القبائل الهندوس. إلا أنّ الإنجاز الحضاري الأكبر لهذه السلالة المغولية يتجلى واضحاً بتوحيد الأديان وتوحيد اللغة، فقد عمد جلال الدين أكبر عام 1582م إلى نشر «الدين الجديد» وأعلن نفسه إماماً عادلاً أو الزعيم الروحي لهذا «الدين الإلهي»، وبنى «عبادة خانة» ليكون معبداً لكل الديانات، تمارس فيه عبادة المسلمين والمسيحيين والهندوس على السواء، ولا يمنع الزرادشتية والبوذية والمانوية من ممارسة شعارئهم. إلا أنّ الدين الجديد مات بموت صاحبه عام 1605م. وإن لم يستطع المغول توحيد دين شعوبهم فقد استطاعوا توحيد لغتهم، وذلك بخلق لغة جديدة كان الهدف الأساسي منها التفاهم بين أفراد الجيش قادة وجنوداً، فكانت «الأُردو».
وظهرت الفنون كنتيجة حضارية للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كالرسم والموسيقى والهندسة المعمارية، حيث تميز عهد شاه جيهان بكثرة الشعراء والموسيقيين والرسامين، إلا أنّ السمة الحضارية الكبرى كانت في تشييد الأبنية التي لم يكن لها نظير في العالم آنذاك... مسجد دلهي ومسجد اللؤلؤة في أغرا والقصر الملكي الذي حوى عرش الطاووس الذهبي ثم ضريح زوجته ممتاز محل الذي يعرف الآن بـ«تاج محل»، هكذا ترتقي الحضارات، لكنها ما إن تصل إلى قمّتها حتى تنحدر، ودائماً ما يكون الانحدار أسرع كثيراً من الصعود والترقي، «فلكل شئ إذا ما تم نقصان» ... «وتَرَقَّب زوالاً إذا قيل تم» ... هكذا طبيعة الحال والأشياء، فما إن أُسندت سدّة الحُكم إلى محمد محيي الدين حتى استن سُنَّة غير سنة أبيه وأجداده، فمنع التزلف إلى الأصنام، وجبى الضرائب من معابد الهندوس، ولكونه عابداً زاهداً فقد منع الموسيقى والرسم في دولته وأصدر الفتاوى بتحريمهما. ويُجمع المؤرخون على أنّ تاريخ وفاة محمد محيي الدين 1707م هي نهاية إمبراطورية المغول، فانتزع الفرس بقيادة نادر شاه قندهار وكابل ولاهور، ثم دخل دلهي واستباحها لجنده. بعد ذلك أصبحت الدولة فريسة للطامعين، حين غزا الأفغان إقليم البنجاب واستولوا عليه، وبعدهم سيطر البرتغاليون على الساحل الشرقي والغربي من شبه الجزيرة الهندية، إضافة إلى إقليم البنغال، وما إن سيطر الإنجليز على الهند مستعمرين حتى بادت حضارة المغول.