قراءة تحليلية لـرواية «هولندا لا تمطر رطباً»

قراءة تحليلية لـرواية «هولندا لا تمطر رطباً»

جاءت بنية هذه الرواية في حلقات تمثّل محطات مهمة في حياة بطل العمل، استطاع معها الكاتب علاء الجابر بأسلوب روائي متقن، أن يصوّر أجزاء مما يبدو سيرة البطل الذاتية بإيجاز وصدق ووضوح، والواقع أن كل حلقة من هذه الحلقات هي بمنزلة لحظة لقاء البطل مع حدثٍ معين وشخصية مغايرة أمكنه من خلالها تكوين علاقة في التواصل من نوع جديد، والتي تمكننا من الكشف عن بعض مشاعره وأحاسيسه الداخلية، وأحياناً أخرى كانت بمنزلة فكرة معينة عبر مواقف متعددة استفاد منها الكاتب في حياته.
   هذه البنية لم تكن تقليداً في تقنية الرواية، حيث إن تسلسل أحداثها لم يكن قائماً على التسلسل الزمني، بل إنه اعتمد على الحلقات المتقاطعة التي تنتهي بكلمة في نهاية كل جزء من أجزاء الرواية كانت تمهّد لبداية حدث جديد.
 ورغم تعدد وتنوع الثيمات إلا أننا في هذه الدراسة، سنركز على جانبين مهمين هما: دراسة العنوان دراسة سيميولوجية، دراسة ثيمة الأقرباء دراسة سيكولوجية، وذلك عن طريق التركيز على بطل الرواية وتكوين شخصيته عبر علاقته بالأقرباء (الأم – العمة).

من خلال تحليل العنوان وتفكيك كلماته نجد أن هناك إشارة مكانية إلى دولتين، عبّر عنها الكاتب بأسلوبين مختلفين، الأول: استخدامه أسلوب المباشرة، حيث يرمز إلى هولندا رمزاً مباشراً وواضحاً، فنعلم أنها دولة أوربية تتميز بجمال مناظرها، وبرودة جوّها، وأنها تلقّب ببلد الزهور.
أما الأسلوب الثاني فهو استخدامه الرمز المومئ إلى المرجع والمكان، دون أن يذكر اسم البلد لفظاً، بل إنه استعان بكلمة بديلة هي (الرطب) دلالة على (البصرة) التي هي مدينة من المدن العراقية، والتي تمتاز عن غيرها بجودة رطبها وحلاوته، الأمر الذي جعله دليلاً على الواقع الذي يوجد به.
وانطلاقاً من هذين الأسلوبين، بين ما يبدو واضحاً عبر الكلمات وبين ما يبدو مبطناً، لنا أن نتساءل: لماذا استخدم الكاتب أسلوب المباشرة في الطرح في مقابل استخدام الرمز في كتابة العنوان؟
الكاتب هنا يعبّر عن الواقع بأساليب موحية تتضمن التقابل والتشبيه، فقد استخدم الرطب في العنوان كإشارة رمزية، حتى يتمكن القارئ من تلقّي المعنى المراد إيصاله.
فالمباشرة في تحديد لفظ كـ «هولندا»، فيه إشارة واضحة إلى أن الانتماء إلى هذه الدولة مصدّق بأوراق رسمية ثابتة موثّقة، ويؤكد ذلك تلك الفقرات التي وردت في الرواية: «... فكرت كثيراً في ذلك السؤال وأنا جالس في قاعة الانتظار، بعد تسلم بطاقة صغيرة تؤكد (هولنديتي)...».
وفي فقرة أخرى يقول: «... لم أخرج من المبنى مباشرة، أردت مراقبة الوجوه التي تشبهني ورصد انفعالاتها بعد اكتسابها هوية تخفي ملامح الماضي بما يحمل من وطن... أمكنة... أصدقاء... وذكرى حبيب»، ثم يكرر هذه الجملة بتعجب: «... هل أصبحوا هولنديين الآن؟...».
هذه الكلمات تعبّر عن إحساس الكاتب بالسعادة في حصوله على بطاقة الهوية الهولندية إلا أنها سعادة مغلّفة بالحزن والأسى، خوفاً من أن يلغي ماضيه هذا الانتماء الجديد.  أما بالنسبة إلى كلمة «رطب» فإن استخدام الكاتب لها دلالة على العراق، نسبة إلى أصوله المتجذّرة، فالنخلة التي تحمل الرطب قد غرست في أرض معينة وظلت ثابتة سامقة فرعها في السماء، وهي إشارة إلى ثبوت الأصالة وتحديد الهوية، وأن الإنسان إلى أي دولة معينة انتمى عبر الأوراق الرسمية، إلا أنه لا يمكن أن ينكر أصوله وهويته ووظيفته.

دلالات العنوان
لم يظهر لنا في البداية إن كان هذا العنوان مديحاً لهولندا لكونها لا تعطي رطباً، بل إنها تعطي ما هو أفضل من الرطب، أم أنه مديح لوطنه العراق الذي ينتج الرطب – رمز الخير والنعم- في الوقت الذي لا تستطيع هولندا أن تنتجه؟!
ومن قراءة الرواية، نتبيـــن أن الكـــاتــــب فضّل كلاَّ من الدولتيــن عــــلى الأخرى، وميّز بينهـــما، أي إنه مــــنـــح لـــكل منــهما قيــمتــها وما تتميز به، حيث إن هولندا تلتقي مع بلد الرطب في أن كليهما يتميز بالعطاء، إلا أن هذا العطاء يختلف من واحدة إلى أخرى، فهولندا منحته بطاقة تثبت انتــماءه الجديد، بينما أعطاه العراق أصالته وتمسكه بجذوره القديمة العريقة.
توحي بنية العنوان على ما يبدو بالسياق العام لبنية الحدث، فكما بدأ الكاتب بذكر هولندا في العنوان للإشارة إلى المكان، نجده يبدأ بذكر مجرى أحداثه أيضاً فيها ليبين لنا كيفية انتمائه إلى هذا البلد، ومن ثم ينتقل إلى الحديث عن جمالها وسحر طبيعتها، ونظامها على أنه رغم ذلك كله لن تغيب عنه صورة بلده وذكرياته الجميلة والمدن التي عاش فيها، فيقول: «... وروحي التي تجوب تلك المدن بسحر طبيعتها، وأناقة تصاميمها، تغص بمدن أخرى تمزقتُ بعشقها، تسكعت في شوارعها أيام الطفولة والصبا.. كاذب من يقول إن المدن تموت وتندثر...».

دراسة سيكولوجية لثيمة الأقرباء 
(الأم – العمة)
     منذ البداية نتعرف على الأم عبر صورة من ذكريات الماضي التي شكلت غلاف الرواية، بنظراتها البريئة، ثم نعود لنتعرف إلى العمة عبر قراءة كلمات معبرة شغلت صفحة الإهداء... الأمر الذي يفصح عن مكانتها في الكاتب نفسه.
نتلمس معاناة البطل عبر الرحلة الطويلة التي استوقفتنا في محطات كثيرة ومتنوعة، والتي تظهر من خلالها بعض المبادئ والتقاليد والموروثات التي تتحكم في سلوكه، وفي تحديد بيئته، ثقافته، مهنته، عاداته وعلاقته مع الآخرين. إلا أن تكرار الإشارة المباشرة إلى العمة – دون غيرها من شخصيات الرواية - ربما يؤكد على العالم الداخلي للبطل، وعلى أهمية دور العمة في حياته، وتأثيرها في تكوين انطباعاته.
 وقد صور الكاتب هذا التأثير تصويراً واضحاً في أحداث متعددة ومواقف جمة احتلت العمة فيها مساحة بالغة الأهمية، وما يثير الانتباه أن دور الأم في هذه الأحداث في مقابل دور العمة، كان دوراً عابراً، وكأنها لم تكن موجودة في حياة البطل، بل كانت حاضرة في ذهنه وفي عقله الباطن. 
لكن الأجزاء الأخيرة في الرواية تساعدنا في استكمال الخيط الذي نتتبعه – في علاقته بالأم والعمة - وتحديداً عندما تدفق الكلام على لسان الأم لأول مرة في حديثها المباشر مع زوجة الابن، التي كانت بالنسبة لها المتنفس الوحيد، والعامل المساعد في البوح عن حقائق قديمة لم تكشف عنها من قبل.
وعلى الرغم من أن الزوجة لم تحتل في أحداث الرواية إلا حيزاً صغيراً، فإنها كانت العنصر الفاعل لتحريك الحدث وتغيير مساره، وتحديداً في علاقة البطل بعمته التي كانت في نظره مثلاً أعلى. فقد استطاعت الزوجة أن تخلق لحظة التحول في اللاوعي عند البطل، وهي لحظة الانكسار الداخلي، انكسار صورة العمة في مخيلته.
 إن بطل رواية «هولندا لا تمطر رطباً» لم يعبر عن هذه اللحظة بأسلوب مباشر ربما لأنه لم يتمكن من أن يمحي حبه لعمته تماماً، ولعدم قدرته على ربط العاطفة المتمثلة في الأم بالواقع المحسوس المرتبط بالعمة ومواقفها تجاهه، لكن هذه التأثيرات تراكمت في البطل نفسه، فعمد إلى ترجمة عالمه الداخلي في حدود التلميح والإشارة بأسلوب خاص مكتوب على الورق، في كثير من المواقف.
لم يكن الكاتب واضحاً في موقفه بين هاتين المرأتين: هل كان يتعاطف مع الأم؟ أم أنه كان يميل إلى العمة؟
لقد كان ذلك كله مجرد مواقف يذكرها دون أن يصرح عن موقفه، على أن الصورة الدلالية للأم، والتي أخذت أولويتها في الغلاف – رغم أنها لم تأخذ دوراً رئيساً في الرواية - عبّرت عن اللاوعي لدى البطل باعتباره لا يستطيع التخلي عنها، كما كانت بمنزلة رد اعتبار للأم لمعاناتها السنين الماضية.
العلاقة بين شخصية الأم وشخصية العمة هي علاقة عكسية: شخصية العمة هي من النماذج البشرية التي نجدها كثيراً في الحياة (حولنا)، شخصية واضحة الملامح، فمنذ الوهلة الأولى نتلمس قسوتها وجبروتها في جميع المواقف وفي علاقاتها مع من حولها، باستثناء علاقتها بالبطل، إذ كانت تمثل له الحنان والأمان، لهذا السبب احتلت مكانة بارزة في حياته، وتركت بصماتها في تكوين شخصيته.
 بينما كانت الأم شخصية ساكنة، عاجزة عن تحقيق الفعل، حققت نوعاً من مظاهر المعاناة في إيحاءات حوارية. إنها صورة لامرأة متوافقة مع سكوتها، سنين طويلة لم تشكُ ولم تتذمر ولم تعترف بالحقيقة لأبنائها حتى لا تشوّه صورة العمة في نظرهم، وكأنها بفعلها هذا استسلمت لواقعها. بين قسوة العمة وبين سكوت الأم وتقبلها للواقع، يعيش البطل حالة من التمزّق الداخلي، ساهمت العمة في تكوينه. 
هذا ما جعل البطل يعيش حالة من الصراع الداخلي غير المُعلن، بين رفضه للعمة وبين انجذابه إليها. وفي النهاية يستسلم لها ولأحضانها التي شعر فيها بالراحة، مؤكداً ذلك عبر الكلمات التي وصف فيها عمته في الصفحات الأولى، قائلاً: «... عمتي... لروحك التي عاشت نخلة، تملأ الأحواش رطباً، تقينا شمساً، تمنحنا ظلاً، تطوّقنا بعذوقها، لولاك ما أينعت كلماتي...» وبعد هذا التحليل يمكننا القول، إن العمة في نظر البطل كانت صورة للوطن، هي البصرة بنخلها وشموخها... فهي الرطب... هي الأصالة... التي طرحها الكاتب في العنوان منذ البداية.
وربما كانت الأم هي صورة للوطن الجديد... إنها هولندا... إنها الجمال والزهور... هي الأرض التي جذبته ومنحته انتماءه الجديد... بعد أن انتقل من أحضان عمته ليسكن في أحضان أمه.