شيء ولاشيء...

شيء ولاشيء...
        

          أكرّر: لاشيء.. لاشيء.. لاشيء، هذا للتأكيد بأن ثلاث مرّات هي لاشيء أكيدة وصادقة.

          السلم والمحبّة والبحبوحة.. المال والبنون.. الجيران والأقربون والأبعدون، كلهم.. ثلاث مرّات لاشيء.. حتى وإن كانت مرّة واحدة فهي تعبّر عن لاشيء.

          التعب.. الهلاك. الحرب. الخيانة. الغيرة. البغض.. كلها ثلاث مرّات لاشيء.. وغيرها أكثر..

          خذ قاموسًا، ادخل في سلسلة أحرفه، تجد أحرفًا وكلمات وتفسيرات تحكي، وتحكي كثيرًا ومطوّلاً عن لاشيء.

          القاموس ضخم. صفحاته تُعدُّ بصعوبة، لا  أعرف شخصًا استطاع أن يعدّ الصفحات، أنا حاولت، وصلت إلى الصفحة العشرين.. هل تعلم ما تحوي صفحة العشرين؟ لا! إن صفحة العشرين تحتوي على بعض كلمات لم أفهم معناها، مثلاً: أنِف، أنوف، الأنفة.

          وغير هذه الكلمة، مثل أنِق، الأنوق، وغيرها من الكلمات والأفعال.

          لا تهمّني.. واسمع هذا: آهْ وآهِ وآهٍ وآهاً، التفسير.. انتبه الآن تفسير آه كما يلي: اسم فعل للتوجّع بمعنى المضارع نحو: «آه من هذا الأمر» أي أتوجع منه.. إلى آخره.. يكفيني هنا.. لقد ازداد وجعي من هذه الصفحة، صفحة العشرين، لنقلبها قبل أن ننقلب!

          هل هذا يكفي؟ هو برهان على أنني مخلص في تعداد الصفحات وكثيرًا ما حاولت أن أتخطّى العشرين، لكنّي لم أستطع.

          تعلّمت من القاموس ومن الكلمات المرصوصة في صفحاته أنني لم أتعلّم شيئًا، فهمت معنى بعض الكلمات ولم أفهم بعضها الآخر.. لا بأس.. قلت لنفسي لا بأس.. الأهم أنني استفدت كثيرًا من تجربتي والقاموس.. أنت.. نعم أنت.. هل تعلم أو هل تستطيع أن تفسّر كلمة «الثقافة».. طيّب.. أنت لا تجيب.. هذا هو العقل الصحيح.. أنت عاقل لأنك ساكت لا تجيب.. الثقافة.. يقولون الثقافة..!

          صداقتي مع القاموس جعلت مني شاري كتب ومجلات وجرائد، ما إن أبدأ بقراءة جريدة أو كتاب أو مجلّة حتى أبدأ بعدِّ صفحاتها، فأنام وبين يديّ كتاب أو جريدة، مضموم إلى صدري كما يضمّ عاشقٌ عشيقته.. أستيقظ صباحًا، أرى ما كنت أضمّه إلى صدري ليلاً، مرميًا على الأرض قرب سريري.. ألمّه، وأعتذر منه، أو كأني أعتذر منه.. تنفرج صفحاته، وتنفتح على بعضها كأنها تناديني.. للضم وللشم.. ألمّها وأضعها على الطاولة وأرمي عليها نظرة لطيفة، وأغادر غرفة نومي مودّعًا.

***

          تسألني لماذا أسكت؟ ماذا تريد أن أقول أكثر؟ أنا أسكت بعد حديث.. بينما أنت ساكت منذ أول الحديث.. كأنك لست موجودًا.. هل أنت هنا؟ هيه! يا.. لماذا أسكت؟ أسكت لإعطائك فرصة لتقول شيئًا.. لا تهزّ رأسك.. هزّ الرّأس لا يعني سوى عدم الاكتراث.. آه.. تقول إنك في حالة شاعريّة.. ماهي هذه الحالة؟ حالتك؟ آه.. مغرم.. عاشق؟ مَن؟ قل لي.. أجابه بكل هدوء: عاشق للوحدة.. للسكوت.. لصوت البحر.. للشجر.. لرؤية مناظر لم أرها من قبل.. وأناس لا أعرفهم.. وسماع لغة لا أفهمها.. عاشق لأشياء كثيرة.. عاشق للاشيء.. لاشيء.. لا أعلم.. لا أفهم معنى هذا الشعور المفاجئ الذي انتابني.

          تُرى هل لأني أنظر حولي وأرى وأسمع رافضًا ما أراه وما أسمعه.. تُرى هل هو القرف.. البشاعة.. هل لأني أصبحت أفضّل عِشرة الحيوان رافضًا عِشرة الإنسان.. إنسان الشارع، قرف الشارع. قرف النّاس. انعدام الإحساس. هجرة الصّدق والابتسامة والنعومة والرقّة والحب والفن.. نعم أنا عاشق.. أنا عاشق للجمال.
--------------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

 

 

أمين الباشا*