اصطدمتُ بالخريف!

اصطدمتُ بالخريف!

  في هذا الصيف الطويل الحارق، غالباً ما يكون الوقت قبيل الفجر هو الأفضل.  أصبحت عادة لدي أن أستيقظ أو أنام  بمجرد أن تظهر في السماء خيوط النور الخافتة، ويكون ذلك في الساعة الرابعة تقريباً... هذا هو نظام حياتي. 
ولكني بالأمس نمت مبكراً، كانت الساعة الـ 11 تقريباً، وعندما استيقظت لم تكن الشمس قد أشرقت بعد، رغبت  في استكمال نومي، ولكن فجأة شعرت أن حركة الهواء وزَّن البعوض فيهما شيء غير عادي، لم أشعر بأنني في وسط الليل، وعندما نظرت إلى ساعتي، وجدت أنها الخامسة، وهو ما لم أكن أتوقعه.
نهضت ونفضت نفسي ثم خرجت من هذه الحجرة الخانقة الحارة، وبمجرد أن تجاوزت الممر صدمني الخريف بشدة. 

كانت الرياح الخفيفة تصدمني بببطء،  من رأسي إلى أخمص قدمي، أخذت تعصرني وكأنني أنبوبة معجون أسنان،  دون إعطائي أي فرصة، فانشرح صدري على الفور. أنا دائماً لا أكون مفعماً بالحيوية في الصيف كما في الشتاء، بالنسبة لي تكون المشكلة متعلقة بصفاء الذهن، فما المانع أن  يأتي الخريف حاملاً معه بعض الحلول لتلك المشكلة?
 السماء في ذلك الصيف الخانق أصبحت  شاهقة فجأة، فإذا رفعت رأسي إلى أعلى لأنظر إليها وجدت عدداً لا حصر له من السحب متكاثفة  صغيرة قطنية اللون، وكأنها قطع من الفضة البيضاء، تصطف بشكل منظم في رحاب السماء ذات اللون الأزرق الفاتح، كلما نظرت إليها بدت لي كأنها أكثر شغباً، وكلما تأملتها توهجت  بقلبي هالة لطيفة من النور، كنت أتمنى لو أستطيع أن أنزل هذه السحب من مكانها بلطف لآكلها.
 في هذه السماء أيضاً لاح لي وجه... تذكرت أغنية كنت قد كتبتها منذ أمد طويل فوجدت أنني قد تغيرت واختلف تفكيري كثيراً، قد تقدم بي العمر... هل أصبحت عجوزاً؟   
كنت دائماً ما أقف هناك لأنظر إلى هذه السحب،  وكأن تأملي لها لا نهاية له،  أظل أتأملها  حتى تتلاشى  ببطء، فأحتفظ بها بقوة  في أعماق قلبي.  
بدأ الناس يتوافدون بكثرة، وكان من ضمنهم أناس يتأملون مثلي، كانوا يتسمون بقدر من الرومانسية... أهنئهم،  كما كان هناك أناس آخرون يرمقونني باستغراب، ويمرون بخطوات سريعة ماضين، فأيضاً أهنئهم، لأنهم منشغلون بأمور مختلفة.  الحياة هي أنك تفعل بعض الأمور، أو تشعر ببعض الأشياء، فكلاهما يستحق الاحترام، ولا يمكن تجاهلهما. 
أنا مثل ظبي عجوز عنيد، صامد على أرضه، متمسك بها، يفعل الأشياء التي يجب عليه أن يفعلها.  
كانت الساعة السادسة هي الأفضل... حينها كانت تفوح رائحة ذكية من باب الحديقة، رائحة  الفطائر المطهوة على البخار والمحشوّة باللحم المفروم الطازج والكزبرة الخضراء الممزوجة بطبقات من الصوص الأحمر الحار، بالإضافة إلى رائحة  اللفت الأصفر المدخن المجفف مع مكعبات الدوفو (*) الصغيرة، وكذلك رائحة الخبز المقلي الذي يشبه قطة متحمسة في شكله، وحليب فول الصويا الذي يشبه فتاة جميلة رزينة، وكعكة البصل المطهوة على البخار التي تشبه صديقاً حميماً. 
الآن لم أعد وحيداً، فأنا أرغب في أن يكون كل صباح مثل هذا الصباح، يوقظني مثل هذا الطقس الفريد غير المعتاد في الصيف، فأنا قد تغيرت، ولم أعد كما كنت من قبل منغمساً دائماً في الخيال ومتطلعاً إلى الإثارة، ومستسلماً لألعاب الواقع الأليمة. 
خلف كل نافذة من نوافذ تلك  البيوت  المصطفة  كأسنان المشط قصة، فهناك قصص حدثت وأنا هنا، وأخرى أتوق شوقاً لسماعها... كل رجل يسير وهو نائم مثلي تماماً يرفض التوقف، كل امرأة ترتدي ملابس النوم أحبت أو تعيش قصة حب، كل رجل مسن غني، وكل طفل نقي، وكل كلب صغير مفعم بالحيوية، وكل حمامة لطيفة... أصبحت ترتبط وحدتي ومزاجي بأعداد الناس في ذهابهم وإيابهم، أحياناً تكون الوحدة شيئاً جميلاً وأحياناً أخرى تكون قاسية. 
آآه يا بكين... بكين التي كان بها مراقبة لحركة المرور  بالأمس، وبكين التي بها أعلى درجات الحرارة في فصل الصيف على مستوى الصين اليوم، وبكين  التي صدمتني بخريفها الجميل المنعش، وجعلت حياتي تنقلب رأساً على عقب، بل ومنحتني بداية جديدة، وكأنها أعطتني ورقة بيضاء لأكتب عليها فصلاً جديداً من حياتي.