مع المعتمد بن عباد في أيام محنته

مع المعتمد بن عباد في أيام محنته

بداية، حين يرثي شخص حال آخر هوى نجمه وانطفأ بشكل مباغت بعد سطوع وتألق وقرع للأسماع وذيوع صيت، فذلك لأنه يتصرف بدافع الحزن والأسى والتضامن والوفاء، أو العرفان بالجميل رأفة ورحمة برجل هو في حقيقة الأمر عزيز قوم ذل سيم الخسف وديس بالصغار، وأصبح يعاني ضروباً شتى من المهانة والشجون ويتجرّع مرارة النفي في الأقاصي والموت في أحضان الغربة والاغتراب جسداً وروحاً.
إنه الأمير الشاعر المخلوع المكلوم المأسوف عليه المعتمد بن عباد أمير إشبيلية... قال وهو في أوج المعاناة كاشفاً حاله يشكو مآله وغدر الزمان به:
قد كان دهرك أن تأمره ممتثلاً
فردك الدَّهر منهياً ومأموراً
في إشارة دالة وواضحة إلى المرحلة الأولى من حياته، وهي الأطول، وتشمل الفترة التي كان المعتمد فيها في سدة الحكم وما رافقها من تسلق وتربّع على عرش الأدب وتيهان في دهاليز السياسة ومتاهاتها.

ثم مرحلة الأفول وزوال السلطان المهيكلة للفصل المأساوي الأخير من حياته، وهي محور حديثنا، وسنسعى للوقوف على طائفة من النصوص الشعرية التي تجسّد حجم المأساة والنهاية المفجعة، خاصة الأشعار التي قالها المعتمد بمناسبة أسره، أو تلك التي قيلت في تغربته ومنفاه بأغمات بضاحية مراكش بعد خلعه عن العرش أو إمارة إشبيلية.

بوادر السقوط
لقد عقدنا العزم على حصر الكلام في اللحظات الأخيرة من حياة المعتمد، أيام المحنة والاعتقال والمنفى ومحاولة الكشف عن مضمراتها وما يتصل بذلك من وقفات هنا وهناك مما يقتضيه السياق وتفرضه المناسبة.
كان فضاء أغمات مطمح ومهبط ذوي الشأن من أعيان الشعراء وكبار الأدباء الذين كان بلاط المعتمد بإشبيلية موسمًا وقبلة ومألفاً لهم جميعاً، والذين أبى من أتيحت لهم الفرصة منهم إلا أن يزوره في منفاه، وحتى بعد وفاته، وأن يفصحوا عمّا جاشت به نفوسهم من حزن وآلام ومواساة وتضامن ومشاطرة، ويعلنوا أنهم رأوا في ذلك غاية وهدفاً وعرفاناً بالجميل، ووفاء لرابطة الصحبة، وإقراراً بفضله في إقامة دولة الشعر والأدب في حياته وبعد مماته، لكن لماذا الإطاحة بالمعتمد؟ لا يسع الباحث وهو يحاول الإجابة عن هذا السؤال إلا استنتاج أن سقوط إشبيلية المفاجئ والمبكّر في أيدي المرابطين لهو دليل على ضعف كيان دولة بني عباد ومقوماتها، لعدم التحكم في زمام الأمور، والجهل بحقيقة الأوضاع السائدة والمحيط المجاور، وتدني مستوى الوعي السياسي لدى الزعامة، والنقص الحاصل في الموهبة القيادية من ذكاء ووعي وحسن تبصّر وثقة بالنفس وحنكة وبعد نظر... وغيرها من عناصر القوة التي يجب أن تتوافر في الشخصية الحاكمة والنظام القائم.
وبما أن هذه الشروط والمقومات - حسب رأينا المتواضع واستقرائنا لشهادات بعض المؤرخين - لم تتوافر في شخصية المعتمد إلا بنسب ضئيلة، إذا أخذنا في الحسبان الشق الأبرز في شخصيته وهو المقوِّم الأدبي لا غير، فإن المحصّلة النهائية هي الإخلال بموازين القوة لمصلحة الطرف المسيحي خاصة وأعدائه عامة، وجعل الحضور المرابطي ميدانياً وعملياً، سياسياً وعسكرياً، أمراً حاسمًا وحتمياً للحيلولة دون تعرض البلاد الأندلسية لكارثة السقوط في أيدي النصارى وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحواضر المتبقية.
وهنا يطرح سؤال آخر يحمل الخصائص نفسها والهموم والانشغالات: ما حجم مسؤولية المعتمد في افتعال الأزمة التي عجلت بسقوط حكمه؟ وما مدى صحة اتهامه بالتقصير في حماية المجال الترابي لإمارة إشبيلية؟ وهل يعد - في المجمل - ما قام به خيانة؟
في كل الأحوال، هناك قراءة أخرى للكيان السياسي لهذه الإمارة تروم مقابة شمولية للعوامل التي أنهت بضربة لازب حكم المعتمد وإزالة خريطته السياسية من الوجود.
فمما لا جدال فيه أن المعتمد حرص على تكريس النزعة الطائفية التي من مقوماتها الاستقلال والمحافظة على الكيان الطائفي، وذلك بواسطة التحالفات والمهادنات وتعزيز القوى الرمزية وتبني الألقاب وشعارات الفخر والأبهة الدينية والأدبية والعسكرية وغيرها من المظاهر الزائفة والسياسات التي يطبعها قصور في النظر وغياب البعد الاستراتيجي. كما لم يسلم المسار السياسي للمعتمد من التفاهة وروح المغامرة والتهوّر, ما جعل نظام المعتمد كغيره من الأنظمة السائدة آنذاك في الأندلس يُعنى بأشياء لا تدخل في صميم الكيان الحقيقي للدولة, والبعيدة كل البعد عن منطق الحكم الراشد، كالإفراط في طلب اللذة والتبذير واللامبالاة والاتكال على العناصر الخائنة غير المؤهلة, بالإضافة إلى استعمال أساليب أخرى دنيئة لتبرير النزعة الاستقلالية، كالاستنجاد بجيوش النصارى وأداء الجزية لهم مقابل الحماية اللازمة لكيانه المتداعي, ومما لا مراء فيه أن الاستقواء بالخارج أو الأجنبي خيانة للضمير الوطني ولروح المواطنة مهما تكن الدوافع والمبررات.
من هنا لا نعجب إذا رأينا يوسف بن تاشفين الخليفة المرابطي يقف موقفاً صارماً وحازماً من ملوك الطوائف المتهمين عنده بالتقصير والتآمر على الوحدة في سياق معالجة الأزمة الأندلسية, وعد هذا من محاسن سياسته ودهائه الطموح، ولطالما ألحّ على هؤلاء الملوك في وجوب التآلف والتناصر لرفع التحديات التي بات يفرضها عليهم مسيحيو الممالك الشمالية كنتاج للدولة الطائفية، ذلك أن الحالة في الأندلس بلغت في ذلك الوقت، أي القرن الخامس الهجري، أقصى درجات الضعف والفساد واستبدّ اليأس بأهل الأندلس، ما جعلهم يعتقدون أن العالم على حافة الهاوية والاندثار.
لكن انتصار المرابطين في الزلاقة أنقذ الحكم الإسلامي في الأندلس من سقوط محقق في أيدي النصارى، ورسخ أقدام المرابطين في هذا البلد الذي أصبح يكوِّن مع المغرب دولة واحدة عاصمتها مراكش.
من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن التحالف بين المعتمد وملك قشتالة بموجب معاهدة سرية بينهما لمحاربة خصوم المعتمد أمراء طليطلة الأقوياء الذين يشكّلون مصدر الخطورة والانزعاج، لم يؤد إلى نتيجة سلمية بين أطراف الصراع، إذ لم يمض غير وقت قصير حتى أعلن ألفونسو السادس الحرب على المعتمد، ذلك أن حليف الأمس أصبح عدو اليوم، وهنا جزع المعتمد، وشعر بالخطر يحدق به وبملكه، ومع ذلك مضى في تحالفه مع العدو ضد المرابطين، الأمر الذي عجّل بسقوطه في أيديهم ووقوعه في الأسر، ومن هنا تبدأ فصول المأساة التي قادته إلى السجن والبقاء فيه حتى آخر نفس.

في الطريق إلى المنفى
كان التركيز ليوسف بن تاشفين على المعتمد هدفاً رئيساً، حيث هو بإشبيلية منتصف رجب 484هـ، وقد أجبر على النزول بقوته كلها في الميدان لقتال المرابطين الذين ما لبثوا أن هزموه، وقد أظهر شجاعة نادرة وبأساً شديداً، دفاعاً عن نفسه وملكه، لكن هذه الحرب المستعرة غير المتكافئة التي بدا فيها التفوق للمرابطين أرغمت المعتمد على إغماد سيفه والاستسلام للأسر، ووضع الثقاف في يديه ليحمل هو وأسرته في سفن أعدت خصوصاً لهم، وأخذت تمخر الوادي الكبير في الطريق إلى المنفى، وقد احتشد الناس على ضفتي النهر يودعون راعيهم بالبكاء ويذرفون على أيامه الدموع.
وحسب رواية الفتح بن خاقان نرى المشهد نفسه، ولكن بصورة أكثر إيلاماً وتفجعاً، خاصة حين صار المعتمد في قبضة يوسف بن تاشفين يرسف في القيود والأصفاد، قال صاحب القلائد: «ثم جُمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت وضمتهم جوانحها كأنهم أموات بعدما ضاق عنهم القصر وراق منهم العصر، والناس قد حشروا على ضفتي الوادي وبكوا بدموع الغوادي فساروا والنوح يحدوهم والبوح باللوعة لا يعدوهم».
وبهذه المناسبة يقول أبوبكر الداني الذي حضر بدوره هذا المشهد في قصيدته الدالية:
تبكي السماء بمُزن رائحٍ غاد
على البهاليل من أبناء عباد
إنها ساعات فاصلة ولحظات عصيبة شقية في تاريخ إشبيلية التي كان خروج المعتمد منها أشبه بموكب جنائزي، لا، بل بولادة عسيرة غير يسيرة... تلك اللحظات تردد صداها في كل الأرجاء وحرك دويها لواعج الحزن والأسى، ما جعل أبا بكر الداني يطلق العنان لعاطفته الجيّاشة فيرثي ملك المعتمد بتلك الدالية المشهورة، وفيها يقول أيضاً:
سارتْ سفائنُهم والنَّوْح يتبَعُها
كأنها إبلٌ يحدو بها الحادي
كم سالَ في السماء من دمْعٍ وكم حملتْ
تلك القطائعُ من قطعات أكبادِ
كانت أول محطة نزل بها المعتمد وأسرته من بر العدوة هي طنجة التي استقبلته، ولا شك، بالأحضان والإشفاق، حيث أقام بها أيامًا ثم تابع الموكب طريقه إلى أغمات، مروراً بمكناسة التي أقام بها أشهراً، وحتى وهو في الأسر بطنجة لم ينس ما جُبل عليه من كرم وسخاء وإحسان، فبعث إلى الحصري الشاعر بثلاثين مثقالاً مكافأة له على مدحه إياه، وهي كل ما كان يملك وقتئذ، ومن أين له بالمال والجوائز والمكافآت، وهو الأسير المعدم الذي عصفت الرياح بكل ما لديه. ومع ذلك فقد استقبل الأسر راضياً بالقضاء، مستسلماً لقدره المحتوم. ويروى أن يوسف أساء معاملته وهو في الأسر الذي دام أربع سنوات ذاق خلالها الأمرّين كأنه لم يخطر بباله أن الرجل كان ذات يوم هرماً شامخاً وملكاً متوّجاً وعلماً من أعلام الأدب وأحد أقطابه الكبار، ولم يسع زوجته الرميكية التي هالها أن ترى لأول وهلة السجن الرهيب الموحش وهو يستقبلهما بوجه كالح إلا التعبير عن فظاعة هذا المصير الذي ابتُليت به الأسرة، وهي سذاجة تعبّر عن صدق الفطرة وتشخيص لواقع الحال والمآل، كما أن المعتمد لم يفته أن يعبّر عن رضاه بالمصير نفسه في هذا الحوار القصير مع الزوجة المصدومة:
قالتْ: لقد هُنَّا هنا
مولاي أين جاهُنا؟
فقلتُ لها: إلى هُنَا
صَيّرنَا إلهنا
ووسط هذا الجو المشحون بالتوتر والانفعال والمائج بالاضطرابات النفسية اصطلحت على المعتمد الأسير الأحزان من كل جانب بالرغم من نزوله عند حكم القدر، فهو تارة يرثي لحال أبنائه وطوراً يجزع عليهم، لعله يجد في ذلك مخرجاً لهمومه ومتنفساً لآلامه وتعاسته، ولو إلى حين، وربما تغلبت العاطفة الدينية لديه لتخفف من هول الصدمة عليه ولوعة الحزن:
مخفّفٌ عن فؤادي أن ثكلتكُما
مثقّل لي يوم الحشر ميزانُ
كما أن ظروف الاعتقال والأسر التي اكتوى بنارها وهزت كيانه من الأعماق أوحت إليه بهذه القصيدة التي مطلعها:
يقولون صبراً لا سبيل إلى الصبر
سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
ومما ضاعف من آلامه أن طلباته في الأسر لم تكن موضع إجابة أو ترحيب، إمعاناً في تحقيره واللامبالاة به، وتجاهلها مؤشر على مدى الكره الذي يُكَنُّ له مع مقت شديد، يعيش بلا أمل في الخروج من الأسر يائساً محطمًا مستسلماً لظلم الأيام له وجور الزمان عليه، دون أن ينسى دعوة نفسه إلى الصبر وتحمّل ما أصابها من كرب عسى أن يأتي الفرج خلسة في غفلة الزمان، ولكن هيهات!

شعره في الأسر
أما شعره في الأسر فكان سلواه وعزاءه، يفصح عن آلامه، ويعبّر عن الجراح التي ألمت به وعن روح الاستسلام للواعج الدهر والأسى، وما عومل به من إذلال وخيّم عليه من شجون ضاعف أساه وبكاءه على ماضيه.
وهكذا نراه يسلي نفسه في هذه القصيدة التي نظمها في الأسر بلا طموح في المجد، يقول في مطلعها:
وإذا ما اجتمع الدين لنا
فحقير ما من الدنيا افتقر
من جهة أخرى، لم يسلم هذا الشعر الذي قاله في الأسر من لمحة رومانسية عابرة، بالرغم من ارتباطه برثاء بنيه وبكائه لهم، لعله يجد في ذلك متنفساً لآلامه:
يقولون صبراً، لا سبيل إلى الصبر
سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
هوى الكوكبان، الفتحُ ثم شقيقُه
يزيد، فهل عند الكواكب من خبر؟
نرى زهرَها في مأتم كل ليلة
تخمش لهفاً وسطه صفحة البدر
مدى الدهر فليبك الغمامُ مُصابَه
بصنْويه يُعذر في البكاء مدى الدهر
إن اشتغال الشاعر الأسير على هذا الملمح الرومانسي العابر هو الذي جعل الطبيعة منحازة إليه لمشاركته على نطاق واسع في محنته «فالبدر والنجوم في مأتم كل ليلة، والغمام يبكي مشاركة له في مصابه، كما أن الشاعر يناجي ولديه وما خلفه موتهما من حزن وآلام وما آل إليه مجده من سقوط وانهيار حتى إنهما لو عادا لآثرا الموت على أن يرياه مقيداً مأسوراً»:
ولو عدتُما لاخترتُما العودَ في الثرى
إذا أنتما أبصرتُماني في الأسر
وها هو ذا يصف عيداً حزيناً عاشه هو وأسرته في المنفى بأغمات، وقد دخلت عليه بناته السجن يلبسن أطماراً بالية في حالة سيئة، وهن كالأقمار «أقدامهن حافية وآثار نعمتهن جافية»، وفي أيديهن المغزل يغزلن للناس بالأجر في أغمات لمن كان بالأمس خادماً، فانقدحت في خاطره أطياف الماضي السعيدة، ما جعل قلبه يتمزق حزناً ويتفطر ألماً فقال:
فيما مضى كنت بالأعيادِ مسروراً
فساءك العيدُ في أغمات مأسوراً
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناسِ ما يملكن قطميراً
برزن نحوكَ للتسليمِ خاشعة
أبصارهنّ حسيرات مكاسيراً
يطأن في الطينِ والأقدامِ حافية
كأنها لم تطأ مسكاً أو كافوراً
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً
فردك الدهر منهياً ومأموراً
مَن بات بعدك في مُلك يُسرّ به
فإنما بات بالأحلامِ مغروراً
وهناك ملمح آخر للمأساة يندرج في السياق نفسه أشار إليه ابن اللبانة الذي حضر المشهد وهزّ كيانه من الأعماق، فقد رأى أحد أبناء المعتمد وهو غلام وسيم قد اتخذ الصياغة صناعة، وكان يلقّب أيام سلطانهم من الألقاب السلطانية بفخر الدولة، كان المرشح لخلافة أبيه المعتمد على عرش إشبيلية بعد أن اختير من قبل ولياً للعهد، فنظر إليه ينفخ الفحم بقصبة الصائغ وقد جلس في السوق يتعلم الصياغة، فقال ابن اللبانة وقد هاجت شجونه يصف المشهد في قصيدة نجتزئ منها هذه الأبيات:
شكاتُنا فيك يا فخرَ العُلا عظمتْ
والرزءُ يعظم في مَنْ قدرُه عظما
طُوقت من نائبات الدهرِ مخنقة
ضاقت عليك وكم طوّقتنا نعما
صرفت في آلة الصواغ أنملة
لم تدر إلا الندى والسيف والقلما

صلته بالشعراء في المنفى
كان أول من لقيه من الشعراء وهو في طنجة في طريقه إلى المنفى الشاعر أبوالحسن الحصري الضرير الذي لم يتردد في الإقبال عليه ملحفاً في الطلب، فرفع إليه أشعاراً قديمة كان قد مدحه بها، مع قصيدة استجدها في مدحه عند لقائه به، كان همه الوحيد أن يظفر بشيء من لوازم كرم المعتمد الذي أرسل إليه عطاء قليلاً لم يكن عنده سواه، وهو ما لم يكن يرضي الحصري فشفع ذلك بقطعة شعرية يعتذر فيها عن قلة العطاء، كي لا يساء به الظن، أو يتهم بالبخل، وتعذر على عبدالواحد المراكشي في معجبه إيراد هذه القطعة الشعرية لكونها سقطت من حفظه مع الإلحاح في قبول عطائه على قلته.
كان هذا اللقاء الذي جمع المعتمد والحصري الشاعر عاملاً محرّضاً لشعراء طنجة على الاتصال به بعد أن بلغ إلى سمعهم ما صنع المعتمد مع الحصري «فأقبلوا عليه من كل طريق وقصدوه من كل فج عميق»، إذ كان إذا سُئل الندى يجزل، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر، لكن هذه المرة ستكون الأمور صادمة ومحبطة لأن الوضع قد تغير تماماً، وفات شعراء طنجة الذين وصفوا بالزعانف وملحفي الكدية أنهم جاءوا يطلبون العسير من الأسير الذي ساواهم في المطلب والحاجة، ضعف الطالب والمطلوب، إذ «رُحل به وأهله بعد استئصال جميع ماله ولم يصحب من ذلك كله بلغة زاد». إن السؤال هنا مكر والإلحاف فيه ضرب من العبث.
وممن أقبل على المعتمد في منفاه وتغربته ثلاثة من الشعراء هم: أبوبكر الداني المعروف بابن اللبانة وابن حمديس وابن عبدالصمد، جاءوا إليه جميعاً من خارج المغرب في زيارة تجشموا خلالها مشقة السفر ومتاعبه الجمّة، لا طمعاً في مال أو منفعة شخصية، ولكن إحياء لصلة المحبة والوفاء، فجاء شعرهم معبراً عن أنات وزفرات، بل وحسرات أيضاً. ويأبى كرم المعتمد إلا أن يرسل إلى أولهم بالقليل الذي كان يملكه فأبى الداني أن يأخذ على وفائه أجراً، أما الثاني فقد أقبل يريد زيارته، فصرفه بعض الخدم، فأرسل المعتمد إليه قصيدة يعتذر فيها، ولعله كان يرجو أن يرى في شاعره صورة من مجده الغابر وأثراً من آثار عظمته وسلطانه.
أما أبوبكر بن عبدالصمد, فإنه مضى إلى قبر المعتمد بعد صلاة العيد مع ملأ من الناس يتوجعون له ويترحمون عليه، ثم أنشد قصيدة طويلة هي من أحسن ما رثي به، أولها:
ملك الملوك أسامع فأنادي
أم قد عدْتك عن السماع عوادي؟
لما خلت منك القصور ولم تكن
فيها كما كنت في الأعيادِ
أقبلت في هذا الثرى خاضعاً
وتخذت قبرك موضع الإنشاد؟
ثم خر على قبره يلثم تربه فبكى من كان معه جميعاً، إعراباً عن تأثرهم وصدمتهم.
وقبل الختام, نعود فنذكر بأن أبا بكر بن اللبانة الذي هو أحد شعراء دولة المعتمد لما رآه مكبلاً لا يطيق حراكاً بعدما كان مقامه «فوق منبر وسرير وسط جنة وحرير» جاشت نفسه حزناً ودمعت عيناه حسرة وكمدا فكانت قصيدة طويلة منها:
لكل شيء من الأشياء ميقات
وللمنى من مناياهن غايات
لهفي على آل عباد فإنهم
أهلة ما لها في الأفق هالات
صارت مياسمهم والسحب من حزن
لها دموع عليها مستهلات
توفي المعتمد - رحمه الله - بأغمات، ودُفن بها سنة 487هـ وقيل سنة 488 هـ عن واحد وخمسين وقيل خمسة وخمسين عاماً.
«ومن النادر الغريب أنه نودي في جنازته بالصلاة على الغريب بعد عظيم سلطانه وجلال شأنه».
وهكذا تولى العرش وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ولم يزل قبره في أغمات حتى القرن الحادي عشر الهجري، وزاره المقري صاحب نفح الطيب سنة 1010 هـ.
وممن زاره أيضًا لسان الدين بن الخطيب قبل ذلك بقرنين وثلث قرن، فلاحظ أن قبره يقع بمقبرة أغمات في نشز من الأرض قد حفت به سدرة، وإلى جنبه قبر زوجته اعتماد... وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتهما، قال ابن الخطيب: فأنشدت في الحال:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات
فرأيت ذلك من أولى المهمات
لمَ لا أزورك يا أندى الملوك يداً
ويا سراج الليالي المدلهمات؟
وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه
إلى حياتي أجادت فيه أبياتي
كرمت حيّاً وميتاً واشتهرت علا
فأنت سلطان أحياء وأموات
وعندما حضرت الوفاة المعتمد رثى نفسه بأبيات وعهد بأن تكتب على قبره، وذلك تحديداً ما وقع، ومنها:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي
حقّاً ظفرت بأشلاء ابن عباد
فتبارك مَن له البقاء والعزة والكبرياء.