الشغف بالعلوم والابتكار.. فرصة للاستثمار

الشغف بالعلوم والابتكار..  فرصة للاستثمار

أدركت مبكراً جداً أن الشغف بالعلوم لا يمكن أن يكون جبرياً، لا يستطيع أحد أن يجبرك على الشغف بالعلم، حتى لو قضيت عمرك كله مضطراً لدراسة العلوم, بل وحتى لو عملت وتخصصت في مجالات علمية مادامت سهام الشغف لم تصب قلبك. وما ينطبق على الفرد في الواقع ينطبق على المجتمع كاملاً. 

فعبر خبراتي الشخصية من علاقتي بالعلوم وكيف بدأت اضطرارية وكيف انتهت إلى الشغف الحقيقي، تولدت لدي قناعة راسخة مفادها أن الدور الأهلي يعد دوراً محورياً في التنمية والنهضة، وأن العلوم والتكنولوجيا هي في قلب أساسيات التنمية والنهضة، وأنه إذا كان تواطؤ الناس (مجتمعات وحكومات) في مكان وزمان ما على الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا غاية في الأهمية للنهوض بالعلوم والتكنولوجيا، فإن العامل الأهم في تفعيل منظومة العلوم والتكنولوجيا بمكوناتها المختلفة هو المجتمع وليس الحكومة، على عكس ما يظن كثير من الناس.
أقول ذلك عن خبرة شخصية إذ بدأت علاقتي بالعلوم والإعلام العلمي كعلاقة «إجبارية»، بدأت باختيار شقيقتي الكبرى لاثنين من كتب تبسيط العلوم، وهي الكتب التي ظلت «من دون قراءة»، إذ إن مكتبتي كانت تنمو، في مساحات أخرى غير علمية. ثم بإصرار أهلي على دخولي كلية الطب، على الرغم من أن شغفي كان بالكتب والكتابة في مجالات ثقافية عدة، ليس من بينها العلوم ولا الطب. وعندما انتهيت من الدراسة وبدأت العمل طبيباً، ظلت محاولاتي مستمرة للخروج عن المسار. وفي أهم مراحل تلك المحاولات، عملت في أحد المواقع الإلكترونية الشهيرة لمدة عشر سنوات، قضيت نصفها رئيساً للقسم العلمي «على الرغم من أنفي»، وذلك بسبب خلفيتي العلمية.
لكن الشغف بالعلوم أصابني لاحقاً، أولا: من خلال دراستي للأنثروبولوجيا بمعهد الدراسات الإفريقية بالقاهرة، حيث تعرفت بالطب الشعبي أو الأنساق الطبية من المدارس الطبية غير الغربية، وهو ما كان مدخلاً لي للاهتمام بالطب البديل، وبالرؤية النقدية للنسق الطبي الغربي، وبالتعليم الطبي في بلادنا، وثانياً: تولد شغفي بالعلوم بسبب انشغالي وقراءاتي وكتاباتي في الموقع الإلكتروني سابق الذكر. 
فإذا كان المجتمع مشبعاً بالشغف العلمي، والأساس المعرفي العلمي، وطريقة التفكير العلمي، والقدرة على الإبداع والابتكار في المجال العلمي و/ أو التقني، فإن ذلك بالضرورة ستتبعه فاعلية في بقية مكونات المنظومة من تعليم العلوم والبحث العلمي والنشر العلمي، وتطبيقات العلوم والتكنولوجيا في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات، وسيؤدي ذلك إلى أن يبحث الناس عن حلول لمشكلاتهم وتلبية احتياجاتهم في العلوم والتكنولوجيا. أما إذا افترضنا وجود حكومة أو نظام أو مؤسسات دولة تسعى لتفعيل دور العلوم والتكنولوجيا من أجل تحقيق تنمية ونهضة على أساسهما دون وجود مجتمع حاضن شغوف بالعلوم، دون أن تسعى تلك الحكومة أو ذلك النظام إلى إتاحة الفرصة لتغيير ذلك بأساليبه المعتادة، فإن فرصة تحقيق تنمية أو نهضة تتضاءل كثيراً.
إذا كان جيلي قد عرف أسلوباً في التعليم لا يستكشف في التلاميذ شغفهم، ونشأ في رعاية أسر لم تول كبير اهتمام بأن يتبع الأبناء ما يشغفون به، إلا أن معظم أجيال الشباب الذين لحقوا بنا، والذين عاشوا عصر الفضائيات والإنترنت خلال الفترة منذ بداية الألفية الجديدة، وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة، كسروا تلك القيود وتمردوا عليها، واختاروا أن يتحركوا ويبادروا لاتباع ما يحبون، وأن يقدموا لمجتمعاتهم النافع والمفيد في كل مجالات الحياة، من خلال ثلاثة عناوين: الريادة الاجتماعية، الابتكار وريادة الأعمال. وتحت تلك العناوين، نجد العلوم والتكنولوجيا حاضرين بقوة. 
تستطيع أن تتــصــفح صفحات التواصل الاجتماعي على الفيسبوك أو المواقع الإلكترونية لتجد مجموعات شبابية معنية بأدب الخيال العلمي، أو مبادرات للتنشئة العلمية لأطفال المدارس، أو مسابقات علمية محلية ودولية تنظم بين شباب الجامعات، أو فعاليات للابتكار الهندسي وريادة الأعمال يقوم عليها الشباب من ألفها إلى يائها، أو مبادرات للتوعية الصحية وتصحيح المفاهيم الخاطئة المرتبطة بالصحة لدى عموم الناس، أو تجد شركات ناشئة لشباب معنية بدعم وتشجيع الابتكار الشعبي والشبابي، وغير ذلك من مظاهر «الحراك العلمي» إذا جاز التعبير، والذي يعني أن قطاعات متزايدة من الشباب والنشء باتت شغوفة بالعلوم والتكنولوجيا، وهو ما يعني أيضا أنه قد صار لدينا جمهور يمثل إمكانية potential أو فرصة opportunity ينبغي استثمارها وتنميتها والبناء عليها من أجل المستقبل الذي طال انتظاره.

كيف ننمي ونستثمر الشغف بالعلوم والابتكار؟
التوعية العلمية Science Outreach: وهو مصطلح جامع يشمل كل أنواع الأنشطة التي تقوم بها المؤسسات العلمية والمراكز البحثية والجامعات بهدف تنمية الوعي والفهم العام للعلوم وتقديم مساهمات غير رسمية (غير صفية) في تعليم العلوم، وهو الهدف الذي تقام من أجله في كثير من مناطق وبلدان العالم المتقدم مهرجانات سنوية أو دورية، مثال ذلك ما يقام كل عامين على هامش فعاليات المنتدى الأوربي المفتوح للعلوم EuroScience Open Forum الذي عقدت دورته الأخيرة في يونيو الماضي بمدينة كوبنهاغن، وتتضمن تلك المهرجانات عروضاً للألعاب والمسرحيات العلمية في الشوارع، ومهرجاناً لسينما العلوم، ومعرضاً للشركات والمبادرات الأهلية المعنية بمنتجات وأنشطة التوعية العلمية المختلفة، ومعرضا للكتب العلمية للأطفال والكبار من الجمهور العام، وتتضمن أنشطة التوعية العلمية أيضاً ما تقوم به المتاحف العلمية من أنشطة لاجتذاب الجمهور من الأطفال والشباب والجمهور العام.
الأنشطة غير الصفية في المدارس: كثير من مدارسنا اكتفت بالتركيز على التعليم بمعنى المناهج والكتب والمواد الصفية، وأهملت في ضوء ضغوط بعض الأهالي الذين لا يرون في التعليم إلا هذا، لكن التجربة أثبتت أن الأطفال والنشء يحبون الأنشطة غير الصفية، التي تكمل بناء شخصياتهم وعقولهم ووجداناتهم، حتى إن هناك حركة متزايدة في العالم لما يعرف بـ «مدارس للحياة Schools for Life»، وهي مدارس تمارس العملية التعليمية في الهواء الطلق ومن أمثلتها مدرسة غلينغاري Glengarry في أستراليا، والمدرسة الخضراء في إندونيسيا، كما أن مؤسسات علمية عريقة كـ «ناشيونال جيوجرافيك» تنظم من خلال قسم خاص بها، رحلات استكشافية لطلاب المدارس الثانوية، وفي ظني أن بيئاتنا العربية غنية ببيئات مختلفة يستطيع أبناؤنا أن يتشربوا الشغف بالعلوم من خلال ارتيادها والتمتع بالتعرف إلى ما في تلك البيئات وما يرتبط بها من علوم الحياة بشكل مباشر، ومن ثم فإننا يمكن أن نمزج بين نشاط معروف كالكشافة والمرشدات مثلاً وبين التنشئة العلمية أو التعليم العلمي غير الصفي.
الإعلام العلمي: لو أمسكت بجهاز التحكم من بعد (الريموت) وقلبت القنوات الفضائية العربية التي تتجاوز الألف على أي قمر اصطناعي عربي للقنوات الفضائية فلن تجد فضائية عربية علمية واحدة اللهم إلا «ناشيونال جيوجرافيك» العربية (المدبلجة والمترجمة)، ولن تجد برامج علمية عربية تتابع هذا الحراك الشبابي الذي يجري على الأرض أو تحاكيه اللهم إلا برنامج مسابقة «نجوم العلوم» التي تنظمها مؤسسة قطر وتعرضها فضائية الـ «إم بي سي»، وربما بعض البرامج الأخرى التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. أما إذا استعرضت المجلات العلمية المطبوعة والمخصصة للجمهور العام فربما تجدها لا تتجاوز أصابع اليدين إلا قليلا، ومعظمها تقدم موضوعات مترجمة ولا تقدم شيئا يذكر لمتابعة الحراك العلمي الشبابي في مسابقات «المعرض الدولي للعلوم والهندسة – آيسيف» أو مسابقة «مدينة المستقبل Future City» أو مسابقة الروبوت FLL، أو صنع في مصر أو في فلسطين أو في الوطن العربي، أو فعاليات يوم الهندسة المصري أو مسابقات الغواصات أو الروبوت المستكشف للألغام الأرضية أو غيرها مما يتسابق فيه الشباب العربي، أو حتى يتابع الفعاليات الكثيرة للابتكار وريادة الأعمال التي تنظم هنا وهناك، إلا على المستوى الخبري العابر.
تنمية روح الابتكار والريادة: وأقصد تنميتها سواء على المستوى الشعبي العام أو على مستوى التلاميذ والطلاب، وأقصد بالتنمية هنا الاستكشاف، والتوثيق، والتسجيل، والتبادل، ودعم إنشاء الشركات الناشئة Start Ups والتوعية بمعنى الابتكار الحقيقي، والتمييز بينه وبين التوهم، وإتاحة المجال لاستفادة الآخرين من تلك الابتكارات مع حفظ حقوق الملكية الفكرية، وهي المهمة التي تقوم بها في عموم بلد واحد كالهند مثلا أكثر من مؤسسة (أهلية وحكومية) ينتظمون معا تحت مظلة ما يسمى بشبكة نحل العسل Honey Bee Network التي أسسها أستاذ الإدارة أنيل جوبتا Anil Gupta، في حين تقوم مبادرات إعلامية شبابية كموقع The Better India بالتعريف بأبطال الابتكار الهندي سواء أكانوا طلاباً، أم حرفيين أم فلاحين ، فضلاً عن الشباب المتعلم تعليماً جامعياً حديثاً، وهي مهمة بدأت بعض المبادرات الأهلية وفروع المؤسسات الأهلية الدولية وبعض الشركات الناشئة في الوطن العربي القيام بها.
نشر الثقافة العلمية: عبر كتب تبسيط العلوم والمواقع العلمية المخصصة للأطفال والنشء والكتب العلمية الموجهة للجمهور العام، وقد ذكرت ذلك متأخراً لأنه على الرغم من أهمية هذه الأدوات فإن دورها أخذ يتراجع نظرا لتغير خريطة وطبيعة وسائط الإعلام والاتصال، والتي لا تلغي أهمية الكتاب والموقع الإلكتروني المعتاد، لكنها تضيف إليهم على الرغم من أنها تزيحهم إلى الخلف، خاصة في عالم عربي تقل فيه ثقافة القراءة وحجم ما ينشر من كتب مطبوعة، وهو ما قد يلقي أعباء على الراغبين في سلوك هذا السبيل الثقافي، وهو أن يأتي كل من تنمية ثقافة القراءة ودعم صناعة نشر الكتب بشكل عام سابقة على تنمية الثقافة العلمية عبر الكتب المطبوعة سواء للأطفال أو الكبار. 
الحديث في هذا الشأن ذو شجون ويطول البحث فيه، لكنني أردت أن أسلط الضوء فقط على الإمكانية التي يمثلها تزايد الاهتمام والشغف الشبابي بالعلوم والابتكار، وهو ما يمثل فرصة ربما لا تعوض ينبغي اقتناصها، وإلا فإننا سنضيع عقودا أخرى نبحث فيها عن التنمية والنهضة ولا نصل إليهما.