الخُبْز في المعتقدات الشعبية

الخُبْز في المعتقدات الشعبية

في البدء كان الخبز، فمنذ أقدم العصور التاريخية كان المصري القديم يعتبر الخبز طعاماً أساسياً تقوم عليه حياته، ففي الشكوى الثانية من شكاوى الفلاح الفصيح إلى فرعون مصر يخاطب مديرة المنزل، مذكراً إياها بما يحتاج إليه الإنسان في الحياة قائلاً: «إن ما يحفظ أودك في بيتك قدح من الجعة وثلاثة أرغفة من الخبز».

احتلَّ الخبز مركزاً رئيساً، بل كان على قمة الطعام اليومي لقدماء المصريين، فعندما نلقي نظرة على قوائم القرابين والنقوش الكثيرة التي تركها المصري القديم على جدران المعابد والمقابر، وكذلك على قوائم الطعام التي يأخذها الموتى معهم، والقرابين التي تقدم للآلهة في المعابد، وكذلك القرابين الجنائزية التي تقدم على موائد القرابين أمام المقابر، نجد أن الخبز احتل المرتبة الأولى، ولذلك ليس مستغرباً أن نحصي ما يقرب من خمسة عشر نوعاً من الخبز خلال عصر الدولة القديمة، ولكن بمرور الزمن ووصولاً إلى الدولة الحديثة تزداد تلك الأنواع حتى تصل إلى ما يقرب من أربعين نوعاً من الخبز والمخبوزات المتنوعة التي اختلفت أشكالها ما بين المستدير، والبيضاوي، والملفوف والمخروطي الشكل، كذلك اختلفت أنواع الدقيق المستخدم في تلك الصناعة ما بين القمح والشعير والذرة. 

الخبز في الثقافة الشعبية
والحياة المصرية ما زالت وفية لهذا العنصر الغذائي، فيحتل الخبز في الثقافة الشعبية المصرية مكانة خاصة، دفعت به نحو اختيار اسم له يقترن بالوجود والحياة، فهو «العيش» أي الدافع إلى الحياة ووقودها، وهو الرزق ومن أجله يكد الناس ويعملون «أكل عيش»، وهو كذلك محدد لقيم يحرص أفراد أي مجتمع على بثها في ما بينهم «كلت معاه عيش وملح»، وهو قسم «والعيش والملح» إذ يعبر عن علاقة حميمة بين الناس ليكون الحلف قاطعاً لأي شكوى أو ظنون، وداعياً لتصديق الحالف به، ذلك لأن خيانة العيش والملح لها عواقب وخيمة في المعتقد الشعبي، إلى غير ذلك من مفاهيم ودلالات تشير جميعها إلى تفرد الخبز بأهمية خاصة لدى أفراد أي جماعة من جماعات المجتمع المصري.

المطبخ المصري
ويُعد المطبخ المصري من أكبر مطابخ العالم استهلاكاً واستعمالاً للخبز، حيث تشير إحدى إحصاءات وزارة الزراعة إلى أن متوسط استهلاك الفرد المصري من القمح والذرة يبلغ أكثر من نصف كيلو من الدقيق يومياً، وهو من أعلى المعدلات استهلاكاً في العالم. ويصنع الخبز على المائدة المصرية في 36 شكلاً من أشكال التصنيع، أشهرها العيش «الشمسي» في الصعيد، و«البتاو» في الدلتا، والخبز «البلدي» في القاهرة. ويوجد في العاصمة وحدها نحو 18 نوعاً من الخبز؛ أبرزها «الفينو»، و«الكيزر»، والفطائر، و«الشُريك»، وتتفاوت الأنواع من حيث الجودة، والسعر، ونوعية الحبوب، كما تتفاوت حسب الأحياء ذاتها ومستواها المعيشي.

عادات وتقاليد
تعبر كثير من عادات وتقاليد المصريين عن احترام بالغ قد يصل إلى حد التقديس للخبز، فتعبر السيدات في الريف عن امتنانهن لمنخل الدقيق بوضع قطعة من الخبز في قلبه بعد الانتهاء من الخبيز لدوام نعمته. كما يقبل المصريون كسرات الخبز التي قد يتعثرون بها في الطريق كنوع من الاعتذار، ووضعها جانباً خوفاً من أن يدوسها أحد.
وكان للخبز عند المصريين عيد خاص يسمى «عيد النقطة» في الحادي عشر من بؤونة بالتقويم المصري (8 يونيو إلى 7 يوليو) يعجن خلاله الفلاحون خبزهم دون استخدام الخميرة في المساء، فإذا وجدوه مختمراً في الصباح استبشروا بوفرة فيضان النيل، لاعتقادهم بأن ملاكاً من السماء يهبهم نقطة من ماء مخمر خلال المساء.
وإذا تعرض أحدهم لكابوس يضعون له تحت الوسادة رغيف خبز به ملح وسكين لطرد الأرواح الشريرة، وفي المأثور الشعبي توصف السيدة التي يتخمر عجينها بسرعة بأنها غيورة، دمها حام، فتنتقل سخونتها إلى العجين، وبالعكس المرأة صاحبة الدم البارد، ذات البال الطويل، التي لا تتسم بسرعة الحركة فعجينها يأخذ وقتاً إلى أن يتخمّر.

الغرابيل والمناخل
وتدور في بعض القرى معتقدات عن الغرابيل والمناخل، ترمي إلى عدم جواز إقراض المنخل أو الغربال ليلاً دون أن تضع فيه صاحبته كسرة خبز صغيرة، حتى لا يدخل إلى دار المقترضة فارغاً، وتفسير ذلك هو أن دخول المنخل أو الغربال على أهل الدار فارغاً يعد نذير شؤم بخلو الدار المستقبلة من الخير، كما أن هذا الإجراء لا يقتصر على المنخل أو الغربال فقط، ولكن على مختلف الأواني والأوعية، والتي يجب ألا تدخل دار مقترضها دون أن يوضع فيها ما يلغي فراغها التام. 
وهذا الأمر يقتصر فقط على فترة الليل، فإذا تم التبادل نهاراً، فليس هناك أي داع لمثل تلك الممارسات، ومنطلق هذه الأفعال من معتقدات راسخة بأن الليل والظلام يرتبطان بالأرواح الشريرة الهائمة، ولما كان الغربال أو المنخل أقرب الأدوات المتعلقة بصناعة «العيش»، فإن احتلال الروح الشريرة لهما أضمن وسيلة لضرب الأسرة في أساس وجودها «عيشها». ولكن هذه المعتقدات اختفت بفعل تعلم المرأة التي أصبحت لا تميل إلى هذا الفكر الغيبي الذي أصبح لا يتفق ومكتسبات العقل الرشيد. 

العجن والخميرة
تصاحب طريقة العجن ومراحله أقوال إنشادية مسجوعة، تتضمن حواراً مفتوحاً بين العجين والعاجنة؛ بغرض المصالحة في ما بينهما، أملاً في الحصول على الرغيف المأمول، وتتركز الأقوال مصاحبة لعملية العجن في توسل موجه إلى الله (سبحانه وتعالى) كي يتم مراحل إعداد الخبز بالشكل الذي يرضي صاحبته، والنطق بالشهادتين، والتوسل بآل البيت وعلى وجه الخصوص السيدة نفيسة (رضي الله عنها) (145 – 208هـ)، وخطاب مفتوح مع العجين نفسه تحفزه فيه على سرعة التخمر، وجودة ما ينتج عنه من أرغفة، وعلى سبيل المثال: «خميرتك سكرك... كل من داقك يشكرك»، وعند رش مقدار ختامي للدقيق فوق العجين يقال «سترك... ما عفرتك بالصلاة على النبي». وعند بدء العجين يقال: «النبي فايت علي.. وعجيني بين ايدي قال لي: اتشاهدي يا صبية.. قلت أشهد أن لا إله إلا الله»، ومن هذه الأقوال: «حلاوتك تجيلك.. وتطرح البركة فيك.. من أكل منك شبع ومن شافك قنع.. يقول أشهد أن لا إله الا الله وأن محمداً رسول الله»، و«يا عجين اشرب شرابك.. ما عذاب إلا عذابك.. يا عجين لوف... لوف... كما لافت الحنة على الكفوف».
ويذكر أن وجود الخميرة في البيت يرمز إلى الخير والنماء، كما ترمز إلى الادخار فيقال عنده خميرة، وقـلة وجـودها أو اندثـارها يرمـز إلى القـحط والفقـر حتى يقـال للفـرد المنـحوس «وشه يقطع الخميرة من البيت».

طقوس الفرن
وقد كان هناك اعتقاد متعلق بالفرن ينتشر بشكل كبير بين النساء، يتمثل في وجود كائنات غيبية تسكن الفرن وتستقر بداخله. وقد كان لشكل الفرن وطريقة بنائه والمهام التي يؤديها، دور في ترسيخ تلك المعتقدات، إذ إن الفراغ السفلي له (مقر الإشعال والوقود) تتغير حالته ما بين النور والوهج الصادرين عن النار، وبين الإظلام التام. ولأن أفراد المجتمعات القروية يعتقدون أن الأماكن المظلمة التي تبتعد عن حركة الكائنات الحية هي مستقر الأرواح والأشباح والجان، ولأن حالة الإظلام لا تدوم عند البدء في أعمال الخبيز، فقد اندفع الخيال الشعبي نحو إيجاد قدرات خاصة لما أطلق عليه «جان الفرن» أو «ملك الفرن»، تجعله قادراً على احتمال النار، بل أيضاً يعمل على إشعالها، ويسهم في إنجاز المهمة برمتها، وتبعاً للاعتقاد بوجود تلك الكائنات بداخل الفرن كسكان يقيمون إقامة دائمة به أثناء القيام بأعمال الخبيز وبعده، فإنه يجب على مَنْ تقوم بتلك الأعمال الالتزام بما يرضيهم ولا يدفعهم إلى الإضرار بها، فمن بين الطقوس المتوارثة للجلوس أمام الفرن ألا تكون المرأة الجالسة أمامه غاضبة أو حزينة حتى لا يصيبها أذى من «ملك الفرن»، ومع الوقت تراجع الاهتمام بهذه المعتقدات عند النساء المتعلمات، كما أدى انتشار أفران الغاز إلى الاندثار الكامل لتلك المعتقدات.
إن «الخبز» مرادف للحياة في كل حضارات العالم، قد يختلف شكله ولونه ومذاقه من مكان إلى آخر، أو حتى في المكان الواحد، إلا أن رمزه يبقى موحداً في التراث والتاريخ والتقاليد الاجتماعية اليوم كما هو عبر آلاف السنين. والحق أن «الخبز» يمثل بجدارة جزءاً مهماً من التراث الثقافي والشعبي المصري، لأنه ببساطة يحمل رائحة كل بقعة من بقاع مصر، وهو بالتالي خير معبر عن التنوع الثقافي والحضاري للشعب المصري.