عِنَب وفضَّة

عِنَب وفضَّة

تحلَّق الضيوف الزبائن في مواجهة رفوف المتجر الكبير الذي يتوسط المدينة. العدد يزداد، والرؤوس تتمايل يمنة ويسرة... كان الهمس في البداية سمة المخاطبة، لكنه تطور وازداد، حيث طغت همدرة الكلام على المكان، فالجميع يتكلم والجميع يستمع في آن.

قلت في نفسي وأنا أقترب: لعل امرأة قد زُحلق كعباها الباسقان على قشرة موز استورده صاحب المتجر من الصومال البعيد، لكن النساء واقفات جميعاً كما رأيت، إنهن شامخات زاهيات فوق سيقان مشدودة كأنها غابة الحور عند السفوح، والموز لم يفعل فعلته هنا كما يبدو، لا هو ولا جاذبية الأرض، في اجتذاب واحدة منهن نحو سقوط مشين.
حدقت بالبقعة الهدف... هذا صندوق من العنب، صندوق واحد يستدعي تحلّق الضيوف بهذا الاهتمام؟ وتقدمت أستفسر:
- ما الخبر؟
- قال أحد المتحلقين: انظر اللافتة البيضاء عند قاعدة الصندوق: ثلاثون من الفضة للكيلو الواحد.
- ثلاثون؟ إن عنوان الرسالة يشير إلى مضمونها كما يقول المثل... الأسعار مرتفعة هنا، ما لنا ولهذا المتجر؟
- لا يا أخي، الأسعار متنوعة، وها هو صندوق آخر في الأسفل، كتب على مقربة منه: واحدة فقط من الفضة للكيلو.
نظرت فإذا الصندوقان متشابهان إلى حد بعيد... هنا عناقيد حباتها متوسطة الأحجام، وهناك أيضاً، الألوان هي الأخرى متقاربة، اخضرار خفيف في كل من الصندوقين، مع اصفرار مذهّب يشير إلى النضج والاكتفاء من حرارة الصيف... فقلت: هل هو استخفاف بالزبائن يا ترى؟ لكن لا! ليس من مصلحة التاجر أن يبعد الشارين عن بضاعته، قد تكون المسألة حقيقية وصحيحة، ومن غير المستبعد أن تكون الطبيعة قد سكبت في هذه الحبّات طعماً لذيذاً، لا وجود له في أي من ثمار الأرض.
حدّقت في الواقفين المستغربين، فلم ألحظ رغبة لدى أي منهم في مدّ يد إلى الصندوق، والتقاط واحدة من الحبات لمعرفة الطعم قبل الإقدام على  الشراء أو العدول عنه، هل هي الأمانة؟ أو هو التهذيب، أو هو عدم التصديق؟ عدم التصديق! لا يصدقون! لا يأخذون الأمر على محمل الجد! إذاً ما سبب وقوفهم واهتمامهم وتصويب أنظارهم وإعمال أفكارهم وإشغال مخيلاتهم؟
ما لي لا أقدم أنا، أنا شخصياً، على قطاف حبة، حبة صغيرة، أسلمها لحاسة الذوق عندي، فاحصاً متأكداً، ومن ثم أصدر الحكم، وينتهي الأمر؟
أو، ما لي ولهذه  المخاطرة، ليكن الحل في شراء عدد من الحبات، أصطحبه وأعرضه على أذواق بعض الأصحاب ممّن لهم باع في العلاقة مع الأرض بأشجارها وثمارها، فالرأي الواحد لا يكفي، والحكم بالتشاور والتضامن وضم المعارف هو الأنفع والأجدى.
قصدت أحد الباعة أعرض عليه طلبي، فتمنّع على الفور عن الموافقة، قائلاً: إنها المرة الأولى التي يحدثني فيها أحد الزبائن عن شراء حبات معدودات من العنب، لكن التاجر الرئيس في الطابق التالي، اعرض عليه الأمر! مضيت إلى الرئيس في مقصورته الجميلة التي أنشأها البنّاءون على جدران مميزة من الرخام والخشب والزجاج، والتي أحاطتها الحسان بالكثير من الرعاية والحنان... عرّجت على أمينة السر من بينهن فأوصلتني إلى الهدف المنشود... نظر إليّ المسؤول من دون أن ينبس بكلمة، أو يدعو إلى جلوس، قلت في سري: ما لي ولأصول الاستقبال، فلأبادر إلى طرح الموضوع:
- لفتني صندوق من العنب.
- قاطعني: عرفته، ما المطلوب؟
- هل لك أن تخفض السعر كي أتمكن من الشراء؟
- تريد الصندوق بأكمله؟
- لا، سوف أكتفي بكيلو واحد.
- لا داعي للتخفيض مادام الشراء سيشمل كمية بسيطة.
- إذاً أشتري خصلة واحدة من أحد العناقيد، وبالسعر المقرر.
نظر الرئيس إليّ باستغراب، ولم يجب، ولو أجاب، كما لاحظت في تعابير وجهه، لقال: انتهت المقابلة، امض بالسلامة.
استدعيت ما عندي من بأس وإصرار، وقلت: لمَ تستغرب ما أقول لك أيها الأستاذ؟ ها هم في بلاد الإفرنج، وهي بلاد راقية متقدمة، يبيعون البطيخ، مثلاً، شرائح صغيرة، مع أن في ذلك التصرف دخولاً غير مناسب إلى جوف الثمر، بينما أنت لا توافق هنا على فصل خصلة عن  عنقود، فصلاً لا يلحق به الأذى، لا في الشكل ولا في الطعم؟
لم يجب، وبدا راغباً في انصرافي، فقلت وأنا أهمّ بتنفيذ رغبته، وهي رغبة محقة، استناداً إلى قوانين الدائرة العقارية وغرفة التجارة والصناعة: لكن، هل لك أن تقول لي في الختام: ما سبب الغلوّ في رفع سعر هذا العنب قياساً على غيره من عنب الحقول؟
عندها هدأ التاجر وقال لي: هذا عنب عصري، إنه وليد زراعة اعتمدت على التراث وأوراق الشجر وقشور الخضر والفواكه.
هززت الرأس مقتنعاً راضياً، ومضيت بخطى بطيئة تدل على الشكر والاحترام، خطى ازداد بطؤها وأنا أتدرّج على السلّم الأبيض متمتماً مدندناً: رحم الله التاجر الطيب صاحب الدكان القديم في قريتي، ذلك البائع البسيط الذي كان يقول لمواطنيه وهو يعرض عليهم ثمار البطيخ الآتية من السهول البعيدة: هذا بطيخ مبارك «يحلّي ويسلّي ويعشّي الحمار»، وفي قصده أن فيه ما يرغبه الأهل والأصحاب من الطعم الحلو، وفيه ما يكفي من البذور السود التي ما إن تجف حتى تتسلى بها الأسنان على شبع، وفيه بعدئذ طعام للحمار عند نهاية النهار، بعد أن يكون قد ساعد الجميع في نقل الأحمال والأثقال.
لمَ يستغرب البعض فعل ذلك يا ترى، ويميل إلى إلقاء القشور وما إليها في القمامة، تعبيراً عن بذخ وبحبوحة، وإشارة إلى اكتفاء بتحلٍ وتسلٍ، من دون عناية ولا اهتمام بحمار يحمل هموم البشر، ووزنات الفضة في الأكياس والصناديق؟
بئس الزمن الذي أضعنا فيه الطبيعة، زمن يحاول فيه التجار المرابون إعادتها إلينا، بدلاً من أن يفعل ذلك الزارعون العاملون في الأرض، الملاصقون لترابها. لقد أضحى الزّهر نفسه من جماد المصانع، والشَّعر أيضاً، والشِّعر، ورسائل العاشقين!.