فنون سكان شمال كندا تحررهم من مسمَّى «إسكيمو»!

فنون سكان شمال كندا تحررهم من مسمَّى «إسكيمو»!
        

شعب «الإنويت» يسافر إلى المستقبل بذاكرة بصرية

          تشير الكشوفات الأثرية إلى أن أبناء الجليد (الإسكيمو) الذين عبروا من أقصى الشمال الشرقي لآسيا إلى ألاسكا منذ أربعة آلاف سنة هبطوا إلى شمال كندا وجرينلاند منذ 800 عام قبل الميلاد، مستهلين هوية جديدة تميزهم، تُعرف الآن باسم «الإنويت» نسبة إلى لغتهم الأصلية «إنوكتيتوت» Inuktitut.

          رحلة الإنسان على هذا الجزء من القطب الشمالي مضت ببطء شديد، تتوسل خلاص الروح والجسد وسط ظروف مناخية  قاسية، لا تسمح بتواصل اجتماعي بقدر ما تحفر داخل النفس أشكالًا حية لمشاعر الترقب والأمل، وترسم صورًا لمعاني الشجاعة والصبر. وقد عرف إنسان الجليد خلال رحلته الممتدة قرونًا كيف يصل إلى الضوء الداخلي في أعماق روحه، رغم انحسار ضوء الشمس طوال شتاء قطبي مظلم يستمر ستة أشهر.

          يبلغ تعداد «الإنويت» الآن حوالي 50 ألف شخص يتمددون على الحزام القطبي الشاسع من ألاسكا إلى جرينلاند، على مساحة تبلغ 3 ملايين كيلومتر مربع من شمال كندا، وهم أقل جماعات السكان الأصليين وأكثرهم نجاحًا في إعادة إنتاج ثقافتهم داخل النسق الثقافي الحديث لأمريكا الشمالية.في البداية قوبلت ثقافتهم باستخفاف من صائدي الحيتان الأوربيين، الذين كانوا أول من تواصل مع هذه الجماعة البشرية أواخر القرن السادس عشر الميلادي، لكن قصة «الإنويت» مع التحول صوب الحياة الحديثة، واتخاذهم الفن والحرف التقليدية نشاطًا لجلب النقود والتفاعل مع الاقتصاد المعاصر حكاية لا تقل جمالًا وأسطورية عن أي من حكايات المصباح السحري الخرافية.

          عبور «الإنويت» من الحياة البدائية تم عبر مرحلة انتقالية وحيدة تسمى المرحلة التاريخية، وتحديدًا منذ اتصالهم بالأوربيين أواخر القرن السادس عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تم تفعيل مبادرات إدماجهم داخل الاقتصاد الحديث، وقد شجعت على تمكينهم من الحفاظ على هويتهم تلك الحساسية الإبداعية التي أظهروها في تزيين وتشكيل أدواتهم البسيطة، وهي أعمال تحظى الآن بتقدير كبير من قبل أشهر متاحف العالم. ورغم انقطاعهم التدريجي عن حياتهم التقليدية فقد أمدتهم الذاكرة البصرية بما يجدد هويتهم التي اكتسحتهاالثقافة الغربية، وهو أمر يثير الإعجاب، فقد كشفت تلك الذاكرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين عن تجارب شعورية تفوق التطور اللغوي المحدود لهذه الجماعة البشرية، وأمدتهم بهوية فنية وضعتهم على خارطة الوجود الحديث، ومكنتهم من إحلال مسمى «إنويت» بدلًا من «إسكيمو» الذي بات مستهجنًا في كندا منذ سبعينيات القرن العشرين، حيث تعني كلمة «إسكيمو» التي أطلقها الأوربيون: «من يأكل السمك نيئًا».

منحوتات «الإنويت»

          لعب النحت دورًا فريدًا في تاريخ هذا الشعب، فإلى جانب كونه حافظًا لهويته من ذوبان تعرضت له كثير من الجماعات البشرية التي كانت تسكن أمريكا الشمالية، هو أيضًا النشاط الذي اكتسبوا بواسطته النقود للمرة الأولى، بعدما تجمدت أنشطتهم التقليدية خلال النصف الأول من القرن العشرين، فتوقفوا عن الصيد وأدواته وصنع الخيام، وباتت معيشتهم على المعونات في مستوطنات حديثة التجهيز وضعًا حرجًا يشبه من سافر بآلة الزمن إلى المستقبل ولا يدري ماذا عليه أن يفعل. طرحت الحكومة الكندية عام 1930 موضوع تحفيز «الإنويت» على العمل وإدماجهم في النشاط الاقتصادي الحديث من خلال الحرف اليدوية، لكن كساد الثلاثينيات وبعده الحرب العالمية أحبطا المشروع، إلى أن تمكن فنان شاب يدعى جيمس هيوستن عام 1948 خلال رحلة صيفية إلى الشمال القطبي، من الحصول على منحوتات من بعض «الإنويت» بناء على طلبه وتسويقها كأعمال فنية، ما قاده إلى إعادة فتح ملف تحفيز «الإنويت» على العمل.

          كان موضوع عمل «الإنويت» في مجال الفن قد اكتسب زخمًا منذ العثور على أكبر كشف أثري يخص تاريخهم عام 1924، وهو مستوطنة «كاب دورست» في شمال غرب كندا، ويعتقد أن «الإنويت» عاشوا فيها منذ 800 عام قبل الميلاد، وهي مركز انطلاق هجرة «الإنويت» لبقية مناطق الشمال الكندي، وبداية تميزهم عن غيرهم من قبائل الإسكيمو، بما فيها قبائل «الثولا» التي ينحدرون منها. وتتميز آثار هذه المستوطنة بالتنوع حتى أن البعض يستخدم مصطلح «ثقافة دورست» للدلالة على نمط جمالي بعينه، فقد استخدم سكانها الرماح أكثر من السهام والأقواس، ولم يستخدموا الكلاب لجر ألواح التزحلق، لكنهم صنعوا قوارب «الكياك»، وكان اقتصادهم يعتمد بالأساس على صيد الحيوانات البحرية والتجارة مع جيرانهم في مستوطنات قريبة.

          ويذكر كتاب «فن الإنويت» لإنجو هسل Ingo Hessel، الذي يعد من أفضل مؤرخي هذه الجماعة البشرية، أن الفن هو أهم ملمح في هذه المستوطنة من الناحية الإنثربولوجية، فقد تضمنت آثارهم تماثيل للبشر والحيوانات، وأقنعة وقلائد وأدوات للطعام وأدوات شعائرية، نُحت معظمها من العاج وعظام وقرون الحيوانات، وقليل منها استخدمت فيه الأحجار، ويعتقد الأركيولوجي وليام تايلورWilliam Taylor والفنان جورج سوينتون George Swinton أن أساس هذه الأعمال الفنية ديني، وأن المنحوتات تعكس شعائر ذات صلة بعقيدة «الشامان» Shaman، وقد وجد سوينتون سمات تدل على أن المنحوتات تمت بواسطة فنانين محترفين ربما كانوا جزءًا من القائمين على شعائر هذه العقيدة.

          بهذه الخلفية لقيت مهمة جيمس هيوستن حماسًا ودعمًا من حكومة كندا ومن شركة «هدسون باي» Hudson Bay، التي تعد من مؤسسي الدولة الكندية الحديثة، حيث أبدتا خوفًا من عدم إتقان الأجيال الجديدة طرق وتيمات النحت الخاصة بأجدادهم، أو ما يعرف بالشفرة الثقافية لهذا الشعب الفريد. باعث هذا القلق كان ما طرأ على شعب «الإنويت» من تغيير، فقد تبدلت حياتهم الاجتماعية والاقتصادية من حياة الرُحَّل والإقامة في خيام من جلود الحيوانات تسمى «إجولو» إلى طابع البيت المستقر، ودخلت التكنولوجيا حياتهم اليومية في المواصلات والاتصالات وإعداد الطعام، وتعرفوا على الفنون والموسيقى الحديثة والراديو، فتراجعت ألعابهم الشعبية وأهازيجهم وحكاياتهم الأسطورية. وبينما ظهرت ملامح التلاقح الثقافي على ما صنعوه من أدوات وملابس منذ أواخر القرن التاسع عشر، تراجعت حاجتهم لصناعة كثير من الأشياء لوجود بدائل متطورة، ما هدد بضياع تقاليد الحرف.

          تضمنت عملية تحفيز «الإنويت» توفير الخامات التجارية والتدريب على استخدامها، فالاعتماد على عظام الحيوانات وقرونها والعاج وبعض الأحجار ليس عمليًا لصعوبة توفير الخامات، كما أن خامات الطين والرخام والخشب وغيرها مما هو شائع في النحت تضفي قيمة على العمل الفني وتزيد من سعره، كما تضمَّن التأهيل أيضًا تدريبات التلوين على الخشب والزجاج واستخداماتهما الجمالية. وتوجيههم أيضًا إلى نحت أعمال أكبر حجمًا من تلك التي اعتادوا عملها في حدود مقاسات بقايا الحيوانات، كذلك تم التعريف بالمنتجات وتسويقها، وفرز الفنانين ذوي الموهبة عن الحرفيين، ثم تم استنساخ التجربة في مخيمات ومعسكرات متعددة لسكان «الإنويت» على امتداد الشمال القطبي الفسيح لكندا. من ناحية أخرى تم الربط بين نتائج الكشوف الأركيولوجية التي قادت للتعرف على آثار هذا الشعب، والسمات الفنية التي لاتزال حية في ذاكرة أبنائه، وأهمها استلهام شخصية وملامح الحيوان للتعبير الجمالي والشعوري، والاهتمام بتيمتي الصيد والأمومة، وهو ما أسس لقاعدة معرفية لثقافة «الإنويت»، التي تستلهم من الحيوان البحري والبري وطرق صيده وعناصر القوة في شخصيته ثقافتها وأساطيرها.

مخاطرة التثاقف

          حملت توجيهات هيوستن نوعًا من «المخاطرة الثقافية» التي لاتزال تأثيراتها موضوع بحث من قبل الإنثربولوجيين، حيث تعرض «الإنويت» لما يعرف بـ «التثاقف» Acculturation، وهو تفاعل ثقافتين إحداهما متطورة مع أخرى بسيطة وبدائية، وتتولد من ذلك نتائج متنوعة تبدأ بتغير جذري في سمات الجماعة البشرية ذات الثقافة المحدودة قد يؤدي إلى انسحاق خصوصيتها، ومن ثم ذوبان أفرادها داخل الثقافة الأعلى كعبًا، وقد يؤدي «التثاقف» إلى تبني الثقافة الأقل تطورًا لعناصر تمكنها من الاستمرارية، وفي تلك الحالة تجتذب عملية التلقيح الباحثين في مجالات الإنثربولوجيا وتاريخ الفنون، لمعرفة ما اختارته الجماعة من عناصر جديدة وكيف أدمجتها وتأثير ذلك عليها.

          لعل أهم ملامح «التثاقف» التي عصفت بفنون «الإنويت» استجابتهم القوية لأفضليات السوق، وظهور فردية التعبير لديهم، وهو أمر تلازم أيضًا مع ظهور أعراض اجتماعية غربية بينهم، لم تعرفها جماعتهم البشرية من قبل، مثل الانتحار والاغتصاب والإدمان.

          إذا كان يعتقد أن لهيوستن تأثيرا على تعريف فناني «الإنويت» بمتطلبات السوق وأفضلياته من حيث الخامات والتيمات والأحجام، فمن المؤكد أنه كانت لديهم رغبة في معرفة ما هو رائج وتكرار إنتاجه وإشباع رغبة المشترين في اقتنائه، بل إن حقبة الثمانينيات من القرن العشرين شهدت اكتساب لقب «فنان» نوعًا من المكانة الاجتماعية بينهم، وكان جميع الشباب تقريبًا يسعون ليكونوا نحاتين، وقد أسفر ذلك عن بلوغ بعض أعمالهم مستوى فنيا وضعهم في مصاف كبار النحاتين في العالم من حيث الإتقان والرؤية والذوق، وتعرض بعض أشهر متاحف العالم حاليًا نماذج من فن «الإنويت» المعاصر جنبًا إلى جنب مع أعمال كبار الفنانين. ويشهد المراقبون لإنتاجهم أن الفنانين بينهم عاشوا جدلًا، خاصة في الثمانينيات، حيث تأثرت أعمالهم كثيرًا بتيمات أوربية حداثية، سرعان ما كفوا عن إنتاجها بتوجيه من مروجي أعمالهم، وكذلك استجابة لرغبة الحفاظ على هويتهم.

          ثمة تأثير آخر حول عملية التثاقف يشير إليه إنجو هسل: وهو «تأثير سوق الفن جنوب كندا، والذي يتحرر منه نسبيًا الفنانون الأكثر إبداعًا وميلًا إلى التجريب، خاصة في تعاملهم مع تراث الأساطير، لكنه يشير إلى أن ثمة هوية جديدة يكتسبها فن الإنويت مع الوقت، وهي ليست متحللة من أصولها، فلاتزال تحتفظ بتلك القدرة على المفاجأة بل والصدمة في استلهام الميثولوجيا، كما تحافظ إبداعاتهم على الاحتفال بالهوية، لكن التغيرات الاجتماعية التي عايشوها في العقود الأربعة الأخيرة تضفي على إنتاجهم الفني تغيرًا ثوريًا في موضوعاته كأنه يستهل هوية جديدة».

          يعبر فنانو «الإنويت» عن تلك التحولات بصيغ أخرى، يرد بعضها في كتاب هسل، حيث يقول الفنان بيتسيولاك أشونا الذي اشتهر في سبعينيات القرن العشرين: «أعرف أنني أعيش حياة غير عادية، وُلدت في خيمة من الجلود، وعشت حتى سمعت في الراديو أن رجلين قد مشيا فوق القمر». تعكس الأعمال الفنية هذه الدهشة، بل إنها استطاعت أن تقدم كتالوجًا يعيد إنتاج كل مخزون الصور المحفورة من عالمهم القديم، مُصاغة داخل ذلك الالتباس الشعوري، وما بدا مستغربًا هو قدرة أجيال تالية من هذه الجماعة البشرية على إحياء صور انطبعت في ذاكرتهم ولم يعايشوها بأنفسهم عن حياتهم التقليدية. تقول الفنانة إيزابث نوتارالوك التي تنتمي لجيل تربى في مستوطنات حديثة التجهيز: «قبل أن أبدأ في نحت شيء أفكر في النساء، كيف اعتدن الحياة القاسية في الماضي، كيف كنَّ دائما يشعرن بالبرودة، دائمًا ما أتحدث إلى الحجر: ما الذي تريد أن تكونه؟ أعرف أنك لن تجيب، لذا سأفعل ما أريد، لدي دائمًا مشاعر قوية قبل أن أبدأ النحت».

          عن ذلك التباين في الجيل الحالي يقول هسل: «الجيل الجديد فقط هو من نشأ بعيدًا عن العلاقة مع الطبيعة. كثير من الإنويت يقسِّمون وقتهم بين المستوطنة وعيشة الخيام، وغالبًا ما يقضون الصيف كله في مخيم شبه دائم. بالنسبة لهم الأرض والبحر ليسا مسرحًا للصيد بل مكان تعيش فيه الروح، حيث ترقد أجيال من الأجداد ويزدهر الحيوان والنبات. وبالرغم من أهمية البيئة المادية المحيطة فإنه لا يتم تجسيدها بشكل بارز في فن الإنويت، حتى في فنون الجرافيك والنسيج التي يسهل فيها تصوير الطبيعة عن النحت، الطبيعة إما عنصر خلفي أو غائب تمامًا، بينما يتبنى الجيل الأصغر من الفنانين التقاليد الغربية الخاصة بالمنظور والطبيعة.
---------------------------------
* كاتب مصري مقيم في كندا

 

 

 

 

أحمد غريب*