مشروع الديمقراطية التاريخ - الأزمة - الحركة

مشروع الديمقراطية التاريخ - الأزمة - الحركة

أدرك خبراء مكافحة التمرد في الولايات المتحدة، منذ وقت طويل، أن المنبع المؤكد للغليان الثوري في أي بلد من البلدان هو تزايد عدد السكان المتعطلين والمعوزين من خريجي الكليات, أي من الشبان ذوي الطاقات الفوارة، الذين لديهم فائض كبير من الوقت، ولديهم كل مبررات الغضب، والقدرة على مطالعة تاريخ الفكر الراديكالي. بهذه الفقرة الموجزة، يعبِّر ديفيد غريبر عن فكرة كتابه ‏- The Democracy Project: a History, a Crisis, a Movement by David Graebe الذي ترجمه أسامة الغزولي أخيراً ضمن سلسلة عالم المعرفة، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، بدولة الكويت، ونشر تحت عنوان: مشروع الديمقراطية: ... التاريخ، الأزمة، الحركة. 

في تقديمه للترجمة يرى الغزولي أن ما نشر من كتب سابقة عن حركة «احتلوا وول ستريت»، والاحتلالات التي استلهمتها واقتدت بها، قد تكون مدخلاً لفصل جديد من التاريخ الثوري ربما بدأ بالثورة الفرنسية في 1789م، أو مع «الثورة المجيدة» في إنجلترا، سنة 1688م، وقد يكون هذا الكتاب، مشروع الديمقراطية، من بين فصول هذه الكتب الثورية، لكنه يعزف ثلاث نغمات متوافقة، نغمة ذاتية أوتوبيوغرافية تلونها المرويات، ونغمة فلسفية تحليلية تخفف من جفافها المرويات، ونغمة أكاديمية أنثروبولوجية تؤدي فيها المرويات دور التوضيح، ولم لا والمؤلف ديفيد غريبر أستاذ الأنثروبولوجيا في كلية غولدسيميث، في لندن؟ ولذلك كثيراً ما يختار أمثلة من بلاد ما بين النهرين، وبلاد وادي الهندوس، وصولاً إلى نماذج أحدث تتعلق بالبريطانيين والفرنسيين والهولنديين حينما كانوا يحتلون دول العالم الثالث.  وباعتباره ثورياً، فإن المؤلف يحمل في خياله، كما يقول الغزولي، صورة لعصر ذهبي يحلم بالعودة إليه، وهو ليس العصر الذهبي المشاعي القديم الذي حدثنا عنه كارل ماركس وفريديرك إنخلز، وليس هو المدن المساواتية في منطقة ما بين النهرين ووادي الهندوس، وإنما الماضي الذهبي - على الأرجح - يخص الفترة الممتدة من بداية ولاية الرئيس آيزنهاور الأولى في 1953م، حتى سقوط ريتشارد نيكسون في 1974، وهو زمن طفولة الكاتب الذي ولد في 1961م، الذي نشأ في كنف عائلة منخرطة بالنضالات الأممية للطبقة العاملة، تتبناها الدولة الأمريكية في صفقة جديدة ابتكرها فرانكلين روزفلت، والتي تعد النسخة الأمريكية من أيديولوجية الطبقة العاملة، التي كانت أقرب شيء إلى الاشتراكية العربية في مصر حتى 1974 - 1975م.
في الفصل الأول يذكر المؤلف إرهاصات الكتاب، الذي بدأ بمقال في مجلة معادية لثقافة الاستهلاك، في مارس 2011م، اختار المحرر عنواناً مثيراً له: في انتظار الشرارة السحرية. وتمثل هذه المقالة بذرة تحول الناشط الميداني الثوري، الذي هرب إلى إنجلترا للتدريس بعيداً عن الميادين، ليصبح منظِّراً اجتماعياً.

حركة 6 أبريل 
من المثير اكتشاف هذا الترابط بين مفاصل حركات التمرد، حيث يخصص المؤلف جزءاً من هذا الفصل للحديث عن حركة 6 أبريل، التي اكتشفها خلال عطلته الربيعية في أبريل 2011م حين عاود الانخراط في دوائر الناشطين في نيويورك, كان ذلك حين دعته بريا ريدي، من أعضاء مجموعة الجالسين على الشجرة، والذين يحمون شجرات عتيقة من منشار سلطات البلدية بالبقاء فوق غصونها حتى يصدر أمر بالإبقاء عليها, كانت هذه المدافعة عن البيئة في الطريق لمقابلة اثنين من مؤسسي هذه الحركة اللذين كانا مدعوين إلى منتدى بريخت التربوي الراديكالي للحديث عن الثورة المصرية التي بدا واضحاً آنذاك دور حركة 6 أبريل الرئيسي فيها.  وهناك التقى ديفيد بأحمد ماهر ووليد راشد، اللذين رويا وسائل بسيطة عن سبل نشاطهما، ودعايتهما:
«كُنا نُكثر من استخدام سائقي سيارات الأجرة، من دون أن يدروا بذلك، لدينا في مصر اعتقاد شائع: سائقو سيارات الأجرة لابد لهم من الكلام، يتحدثون بلا انقطاع، لا يملكون إلا أن يفعلوا ذلك، وهناك حكاية، في الحقيقة، عن رجل أعمال أخذ سيارة أجرة في رحلة طويلة، وبعد نصف ساعة ضجر من ثرثرة السائق التي لا تنتهي، فطلب منه أن يصمت. أوقف السائق السيارة وطلب منه النزول. «كيف تجرؤ أن تطلب مني الصمت؟ هذه سيارتي! من حقي الكلام بغير انقطاع». وهكذا ففي أحد الأيام، عندما علمنا أن الشرطة قررت فض اجتماع لنا، أعلنّا على صفحات الفيسبوك الخاصة بنا أننا سنلتقي جميعاً في ميدان التحرير في الثالثة بعد الظهر. وعندها كنا نعي أننا مرصودون. ولهذا فقد حرص كل واحد منا في ذلك اليوم على أن يستقل سيارة أجرة، قرابة التاسعة صباحاً، وعلى أن يقول للسائق «لعلمك، فقد سمعت عن اجتماع كبير سيعقد في ميدان التحرير في الثانية من بعد ظهر اليوم». وكما توقعنا تماماً، ففي خلال ساعات كان كل من في القاهرة على علم بذلك. وبلغ عدد من حضروا معنا عشرات الآلاف من الأشخاص، قبل أن تظهر الشرطة. 
يقول المؤلف إن 6 أبريل لم تكن بأي من المعايير حركة راديكالية، ورغم ذلك فقد كانت مع الشابين نسخ من شرائط مصورة (فيديوهات) أُنتج بعضها في صربيا من قبل الجماعة الطلابية الصربية أوتبور! (!Otpor) التي أطاحت بنظام سلوبودان ميلوسوفيتش أواخر عام 2000م، ونشطاء الحركة المصرية «6 أبريل» لم يتراسلوا فقط مع هؤلاء، بل سافر عدد كبير منهم إلى بلجراد، في بواكير الإنشاء، للمشاركة في حلقات دراسية حول تقانات الثقافة المقاومة السلمية، بل إن 6 أبريل تبنت نسخة من الشعار الخاص بأوتبور! وهو «القبضة المرفوعة». وحين سألهما ديفيد غريبر عن مدى علمهما بأن أوتبور أنشأتها في الأصل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لم يشكل ذلك فارقاً لديهما.
في الفصل الثاني، بعنوان : لماذا نجحنا؟ يعرج المؤلف على سرد نقل الاحتجاجات من الفشل إلى النجاح، وخاصة في ما يخص شؤون الطلاب الأكثر تأثراً بسياسات التقشف.
فبدايات تأكيد الذات من جانب جيل جديد من الأمريكيين، جيل يتطلع إلى مستقبل ينهي فيه تعليمه، من دون أن تكون هناك وظائف ولا مستقبل، وإن بقي الجيل مكبلاً بديون هائلة لا فكاك منها، والغالبية من هؤلاء هم من أصول تنتمي إلى الطبقة العاملة أو غيرها من البيئات المتواضعة، وهم شباب فعلوا ما طُلب منهم أن يفعلوه، فدرسوا، والتحقوا بالكليات، والآن هم لا يعاقبون على ذلك فحسب، لكنهم يهانون، يواجهون بحياة يعيشونها باعتبارهم فاشلين، عديمي الضمير، فهل من المدهش حقاً أن يتطلعوا إلى قول كلمة لأباطرة التمويل الذين سرقوا مستقبلهم؟! 
وكما هي الحال في أوربا تماماً، نحن نشهد تبعات فشل اجتماعي هائل، وأعضاء حركة الاحتلال هم ذلك النوع من البشر الممتلئين بالأفكار الذين يحشد طاقاتهم أي مجتمع صحي ليحسن الحياة لمصلحة الجميع، وبدلا من ذلك هم يستخدمونها لتلمُّس طرق من شأنها إسقاط النظام كله. 

خطأ اليسار واليمين 
في الفصل الثالث يجادل المؤلف هؤلاء الذين هاجموا حركة «احتلوا وول ستريت»، ومن نماذجهم ماثيو كونتينيني الذي كتب مقالة في «ويكلي ستاندرد» بعنوان الفوضوية في الولايات المتحدة... جذور الاضطراب الأمريكي، موجهاً انتقاده للمؤلف ديفيد غريبر والمفكر نعوم تشومسكي:
«أخطأ اليسار واليمين معاً عندما ظنَّا أن القوى وراء حركة «احتلوا وول ستريت» معنية بالسياسات الديمــــــــقراطـــية وبـــــحــــل المشكلات... فهذا التمر الدائم يمضي باتجاه بعض النتائج المتوقعة، وبإنكار مشروعية السياسات الديمقراطية يدمر الفوضويون قدرة هذه السياسات على التأثير في حياة الناس، فلا وجود بينهم لحركة تتعلق بالأجور المناسبة للعيش، ولا مناقشات تدور حول المعدلات الضريبية المفروضة، فالفوضويون لا يؤمنون بالجور، ويقيناً فهم لا يؤمنون بالضرائب.
ويقول ديفيد غريبر إن المنتقدين، وهذا نموذج منهم، يقدم فقرات نمطية مجتزأة من سياقها، ولذلك يستبدل بالرؤى المشروعة سلسلة من الشائعات والتلميحات المحسوبة المصممة على نحو يشجع على العنف، وإن رفض الفوضويين دخول النظام السياسي أساسه أن النظام نفسه ليس ديمقراطياً. 
والواقع أن تاريخ الفوضى ليس ناصعاً، فمع استدارة القرن التاسع عشر وجَّه فوضويون أفراد ضربات مباشرة ضد قادة عالميين، أو ضد البارونات اللصوص، وهو مصطلح يشير إلى النبلاء الذين فرضوا إتاوات على البضائع التي كانت تمر بأراضيهم، أو حتى سطوا على قوافل التجارة، قبل أن يصبح المصطلح في العصور الحديثة لصيقاً برجال الصناعة المستغلين، وجاءت هذه الضربات الفوضوية عبر عمليات الاغتيال وتفجير القنابل.
 وفي الفترة من 1894م حتى 1901م انفجرت موجة عنف مكثفة أدت إلى مقتل الرئيس الفرنسي ماري فرانسوا سادي كارنو، الرئيس الرابع للجمهورية الثالثة في فرنسا (اغتيل في 1894م)، ورئيس الحكومة الإسباني أنطونيو كانوفاس ديل كاستيلو (اغتيل عام 1897م)، كما قتل الرئيس الأمريكي وليم ماكنلي، واندلعت هجمات أخرى ضد «دزينة» أخرى من الملوك والأمراء وقادة الشرطة السرية ورجال الصناعة ورؤساء الدول. 
ويقول ديفيد إن «كل» هذا العنف مصدره فوضويون منفردون، وإنه يفضل أن يسمي نفسه الفوضوي «النكرة»، يعمل ضمن ائتلافات عريضة بالتوافق مع المبادئ الفوضوية: حركات لا تحاول أن تعبِّر عبر الحكومات أو أن تصبح حكومات؛ حركات غير معنية بأداء أدوار مؤسسات حكومية بقوة الأمر الواقع مثل التنظيمات التجارية أو المنشآت الرأسمالية؛ جماعات تركز على جعل العلاقات في ما بيننا أنموذجاً للعالم الذي نتمنى أن نخلقه... مجتمعات حرة. 

كيف يتم إبطال السحر؟
في الفصل الرابع يحدد المؤلف صيغة التوافق بالنظر في آراء الجميع، والأخذ في الاعتبار أي مخاوف أو اعتراضات لدى أي فرد، وعدم إجبار أحد على المسايرة بخصوص قرار لم يوافق عليه، مع حقه في الاعتراض، ويستكمل الفصل بحوار حول ما يعن للسائل أن يستفسر عنه حول تلك الحركات، أما الفصل الخامس والأخير وعنوانه «إبطال السحر» فينتقد فيه المؤلف الابتكارات الاقتصادية في الثلاثين سنة الأخيرة التي كان لها مغزى سياسي أكثر مما لها مغزى اقتصادي. فاستئصال الوظائف المضمونة مدى الحياة لمصلحة عقود غير مضمونة لا يسفر عن تخليق قوة عمل أكثر فعالية، لكنه فعال بشكل استثنائي في تدمير النقابات ونزع الطابع السياسي عن العمل، بجانب أشكال أخرى مثل ساعات العمل التي تتزايد بلا نهاية، فالعمل 60 ساعة أسبوعياً لا يترك وقتاً للحديث عن السياسة، ورغم ذلك يختتم المؤلف بقوله إنه في اللحظة الراهنة يبدو الكوب متجهاً نحو سلسلة من الكوارث غير المسبوقة، تستلزم تغيير طريقة تفكيرنا لتجنبها، وتكشف أحداث 2011م أن زمن الثورات لم ينتهِ، بالمرة. الخيال الإنساني يرفض في عناد أن يموت. وفي اللحظة التي ينزع فيها أي عدد ذي مغزى من الناس - على نحو متزامن - الأغلال التي فرضت على 
ذلك الخيال الجمعي، فإن أكثر افتراضاتنا رسوخاً حول ما هو ممكن وما هو غير ممكن سياسياً، سوف يظهر أنها تهاوت بين عشية وضحاها.