عاشق ذاته

عاشق ذاته

كانت مجرد أسطورة، عاشت عبر العصور حتى تحولت إلى عقدة نفسية، أصبحت حالة توضع على منضدة البحث، ويرصد أعراضها أطباء النفس، خاصة من أنصار المدرسة السلوكية، في كل واحد منا جزء منها، جزء معتدل نتباهى به أمام المرآة، ولكننا نحرص على إخفائه عن الآخرين حتى لا نُتهم بالغرور والنرجسية... ها قد وصلنا إلى التعبير الاصطلاحي الذي يصف تلك الحالة، تقول الأسطورة إنه كان هناك شاب وحيد، تعود أن يذهب إلى نبع ماء صاف خارج قريته، كلما نظر فيه يرى انعكاس صورته، كان شاباً ساذجاً وقليل الخبرة، لذلك اعتقد أن الخيال هو شخص آخر، شخص جميل لا يفعل شيئاً سوى أن ينتظره كل يوم، ليحدق في وجهه ويتحدث مثله ويقوم بحركاته نفسها، ومن المؤكد أن نرسيس الصغير كان وحيداً أكثر مما ينبغي، فقد ارتبط بهذا الخيال الذي يبدو داخل النبع ووقع في غرامه، ولم يستطع الاكتفاء بمجرد الرؤية عن بعد، ولكنه أراد أن يكون بجانب هذا الشخص، قادراً على لمسه، لذا فقد ألقى بنفسه في الماء، غاص في النبع، لكنه لم يجد خياله، لم يجد سوى الموت، وهكذا مات نرسيس من فرط عشقه لنفسه.
 ولكن الأسطورة لم تمت، فقد تدخل علماء النفس ليحددوا أعراض مرض حب الذات (النرجسية)، وتدخل الكتَّاب والشعراء ليستوحوا أسطورته ويعيدوا كتابتها، فالكاتب الإنجليزي الشهير أوسكار وايلد رأى فيها رمزاً للتناقض الإنساني... وجه جميل من الخارج ونفس قبيحة من الداخل. في روايته «صورة دروان جراي»، يصور ذلك الشاب البالغ الوسامة الذي أعجب صديقه الفنان بملامحه، ورسم له لوحة رائعة، بديلة عن النبع، وتأمل «جراي» لوحته وهو يتمنى أن يظل وجهه شاباً وسيماً هكذا، لا تصيبه الشيخوخة ولا تؤثر فيه التجاعيد، واستجابت الأقدار لأمنيته فظل وجهه شاباً لا يشيخ، بينما بدأت التجاعيد في الظهور فوق اللوحة المرسومة، ولكن في داخله كان قاسياً وأنانياً، شأن كل الذين يعشقون ذواتهم، فامتلأت روحه بالشرور، بقدر سنوات عمره، وقاده ذلك للنهاية.
وقد أجريت على عقدة النرجسية دراسات حديثة أكدت أن هناك نوعين منها: نرجسية مؤقتة تصيب الشخص عندما ينتابه نوع من النجاح المباغت، وتنهال عليه آيات الثناء والإعجاب، وهي حالة سهلة يفيق منها الشخص عند تلقيه أول صدمة، ونوع آخر مزمن، لا ينفع فيه نصح ولا علاج، وهو النوع الذي يثير كراهية الناس، ولكن هل كان نرسيس بالسذاجة بحيث يخدعه خيال في الماء؟ يتدخل الفلاسفة أخيراً ليفسروا هذا السلوك، فالماء يفيد في تحييد صورنا وإضفاء نوع من البراءة والعفوية على تأملنا... الماء عفوي ولكن المرآة جامدة ومتناسقة، ولو أن نرسيس وقف أمام المرآة لوجد حاجزاً يمنعه من الغوص في أعماقها، ولأوقفه سطح الزجاج الأملس ورقائق المعدن من خلفه، وما رأى في المرآة سوى خياله فقط، ولكنه لا يستطيع أن يرى أبعد من ذلك، لن يرى شيئا من حقيقة ذاته، على عكس ماء النبع، فوجهه فيه غير ثابت وغير مستقر، لذا فهو يسعى يومياً من أجل اكتماله، وربما من أجل ذلك ألقى بنفسه في ماء النبع حتى يتحد مع خياله ويصل إلى جوهر ذاته... إنه العشق حتى درجة الفناء.