الكويت تُغَنّي فرحاً وحُباً وسلاماً

الكويت تُغَنّي  فرحاً وحُباً وسلاماً

عندما كنت أقرأ في «رسائل إخوان الصفا وخلاّن الوفا» وجدت نفسي مبتسماً! ولم أدرِ أكانت ابتسامتي من طريف ما كنت أقرأ، أم من غريب توليف الرسالة التي أراد كاتبها إقناع القارئ برأيه؟ كانت الرسالة الخامسة من القسم الرياضي من الرسائل، وهي التي تناولت «الموسيقى». فاسمح لي عزيزي القارئ أن أستقطع لك - بتصرُّف - جزءاً منها: 

«اجتمعت جماعة من الحكماء والفلاسفة... فلما غنى الموسيقار لحناً مطرباً، قال أحد الحكماء: إنّ للغناء فضيلة يتعذر على المنطق إظهارها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة، فأخرجتها النفس لحناً موزوناً... وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقى أن تثور بكم شهوات النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة، فتميل بكم عن سنن الهدى... وقال ثالث: الموسيقار إن كان حاذقاً بصنعته حرّك النفوس نحو الفضائل، ونفى عنها الرذائل... 
اعلم يا أخي بأنّ تأثيرات نغمات الموسيقى في نفوس المستمعين مختلفة الأنواع، ولذة النفوس منها وسرورها بها متفننة متباينة... والموسيقى هي الأنغام المصاحبة للغناء... واللحن هو نغمات متواترة لأصواتٍ متزنة... والأصوات نوعان: حية وغير حية، والأصوات غير الحية أيضاً نوعان: طبيعية وآلية، فالطبيعية هي صوت الحجر والحديد والخشب والرعد والريح، وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات، والآلية كصوت الطبل والبوق والمزمار والأوتار وما شاكلها. والأصوات الحية نوعان: منطقية (ناطقة) وغير منطقية، فغير المنطقية هي أصوات الحيوانات والطيور غير الناطقة، وأما المنطقية فهي أصوات الناس، وهي نوعان: دالة وغير دالة، فغير الدالة كالضحك والبكاء والصياح، وبالجملة كل صوت لا هجاء له، وأما الدالة فهي الكلام والأقاويل التي لها هجاء. اعلم يا أخي بأنّ الصنائع كلها استخرجها الحكماء بحكمتهم، ثم تعلمها الناس منهم... والموسيقى صناعة... وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقى تُسَمَّى «المُحزِن»، وهي التي ترقق القلوب إذا سُمعت، وتُبكي العيون، وتُكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب، وإخلاص السرائر وإصلاح الضمائر... وكانوا أيضا قد استخرجوا لحناً آخر يُقال له «المُشَجِّع» كان يستعمله قادة الجيوش في الحروب والهيجاء، يُكسب النفس شجاعة وإقداماً، واستخرجوا أيضاً لحناً آخر كانوا يستعملونه في المارستانات (المستشفيات) وقت الأسحار، يخفف ألم الأسقام والأمراض... واستخرجوا أيضاً لحناً آخر يستعمل عند المصائب والأحزان والغموم والمآتم، يعزي النفوس، ويخفف ألم المصائب، ويُسلي عند الاشتياق، ويسكن الحزن. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة، مثل ما يستعمله الحمالون والبناءون ومُلّاح الزوارق وأصحاب المراكب، يخفف عنهم كدّ الأبدان وتعب النفوس. واستخرجوا أيضاً ألحاناً أُخَر تستعمل عند الفرح واللذة والسرور في الأعراس والولائم، وهي المعروفة المستعملة في زماننا هذا». 

الجديد ثورة والقديم ثبات
كان هذا في عصر عاش فيه إخوان الصفا وخلان الوفا، وهو القرن الثالث الهجري/العاشر الميلادي، وهو عصر سبقه عصر المغنين الكبار وأشهر القينات، منهم جميلة ومعبد بن وهب وعبيد بن سريج والغريض وسلامة القس وابن محرز، ثم إسحق الموصلي وزرياب الذي عاصر ذاك الزمان. لم أجد في صفحات التاريخ مَن سفَّهَ هؤلاء أو حتى قام بتعزيرهم أو انتقادهم على أقل تقدير، فهل خلت دنياهم من المُتّقين، أم كانت حياتهم حياة التسامح وقبول الآخر؟!
وعلى حدّ علمي المتواضع في تاريخ الحضارات، فإنه لم يخُض -بعد اليهود- أحد في موضوع «الغناء بين الإباحة والتحريم» كما خاض المسلمون، فلاسفة ومتكلمين وعلماء دين، من فقهاء وقرّاء ومُحَدِّثين ومفسرين، وأدباء وفنانين. لقد بدا واضحاً لدينا أننا إذا أردنا درباً إلى إباحة الغناء فسوف نجده في أدبياتنا وتراثنا وتاريخنا، وإذا أردنا طريقاً إلىالعفة والورع فلسوف نجد إلى ذلك سبيلاً مما يؤيد رأينا من فتاوى تستند إلى نصوص دينية واجتهادات فقهية على مرّ العصور الإسلامية. وكما نعلم بأنّ قمة الحضارات مكان لحصيلة إنجازاتها في العلم والأدب والفنّ، فكلما انفتحت الحضارة على العلم والأدب والفن، ثبتت كحلقة أساسية في سلسلة الحضارات العالمية, وعندما يُستهدَف العلم والأدب والفن، فلابد أن نتأكد من أن خطراً حضارياً قد حلّ في حياتنا الفكرية، ولن يكون اعتلاء سُلَّم النجاة للمجتمع المتحضّر إلا عندما يقوم هذا المجتمع بتأصيل المفاهيم الأخلاقية في العلوم والآداب والفنون. إنّ كل جديد ثورة، وكل قديم ثبات، وليست كل ثورة تعني تقدماً، كما أنّ ليس كل ثبات يعني رجعية. إنّ المفاهيم الأخلاقية تسمو بالعلوم فتجعلها لخير الإنسان، فمتى أريدَ منها شر صارت وبالاً، مثل ذلك التحضيرات المخبرية للمضادات الحيوية وتركيب الأمصال لتطعيم البشر بهدف إنقاذهم من الأمراض والأوبئة، وحين استخدمت تلك التحضيرات في الحروب البيولوجية نتج عنها طواعين فتكت بملايين البشر, كذلك القول في الآداب والفنون التي يؤثر الخلل فيها في النفس البشرية التي سرعان ما ينحط ذوقها العام عندما تُطْعَم عبث الكلام وغثّ الأداء وتُحشى به باسم الفنّ والأدب. إنّ الأخلاق أصل العلم والأدب والفن، فمن دونها لن نجد إلا الانحطاط. 
وقد رأى أغلب علماء الدين المسلمين، وخاصة علماء الفقه منهم، أنّ ترك الغناء والعزف على الآلات الموسيقية أوجب من فعلهما، وما كان ذلك منهم إلا تديناً وورعاً، إلا أنّ منهم من قال بجواز ذلك عندما غالى البعض الآخر فأفتى بالتحريم. والتحريم لا يكون إلا بنصٍّ قطعيّ الدلالة وقطعيّ الثبوت، ومَن يأتِ محرماً يُجَرّم، فيُقام عليه الحدّ أو يُعَزّر، حتى لو كان سفيهاً. أما ترك الغناء، فلا يَعني ترك السماع، فالغناء كلام وألحان، إنما حرّم الله من الكلام القذف والغِيبة والنميمة والسب واللعان، ولم يُحرّم كل الكلام. كذلك، لم يختلف العلماء على جواز الغناء حداءً ونشيداً ورجزاً أو حُجى، ولم تُنهَ الأم عن الغناء لوليدها أو المرضعة عند رضاعة الرضيع، ولم يستنكر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك، عندما استقبله أهل المدينة في هجرته منشدين: «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع»، ولا استنكر أحد من الصحابة رضي الله عنهم رَجز عبدالله بن رواحة في أكثر من موضع، ومن رَجَزِهِ:
يا نفس إلا تُقتلي تموتي
هذا حياض الموت قد صَلِيتِ
وما تمنيتِ فقد لقيتِ
إن تفعلي فعلها هديتِ
وإن تأخرتِ فقد شَقيتِ

لقد خشينا الغناء وأدرنا ظهورنا للموسيقى حتى بتنا لا نفقه للسعادة معنى، وطغت الأحزان ونسينا الضحك والابتسام، حتى ساد الهمّ والغمّ حياتنا مع الأيام، وقست النفوس وتحجّرت القلوب، وما أجرمنا على أحد من الناس، فكيف إليهم نتوب؟! إنما نحاول أن نُطَهِّر أرواحنا، فاتهمونا بقولهم: «إنهم أناس يتطهرون»! وكما قال إخوان الصفا وخلان الوفا إنّ في الغناء والموسيقى سبباً في ضبط النفس الشجاعة وتهذيب الحواس وترقيق الإحساس. ولعل طائفة من اليهود لايزالون حتى يومنا هذا يترنمون بالزبور ومزامير داود عليه السلام بما نعرفه الآن بالمقامات الموسيقية، فكل مزمار من تلك المزامير يرتل بمقام موسيقي ثابت. أما المسيحيون فيرتلون صلواتهم ترتيلاً، بمثل ما أمرنا الله تعالى أن نرتل به القرآن، لأنّ النفس الإنسانية تسمو أحاسيسها بالنغم، فنرى كبار مقرئي القرآن يرتلون كتاب الله وفق نظام المقامات الموسيقية.
ولن نفشي سراً إن قلنا إنّ «جارة الوادي» فيروز إنما دخلت قلوب جماهيرها لأدائها الغناء ترتيلاً، تلك التراتيل الكنسية الرقيقة الرائعة، وما أجمل غناءها حين صدحت بكلمات الراحل سعيد عقل، وكلاهما مسيحي، عن مكة وعيد المسلمين الأكبر، داعية للمحبة والسلام وتحاضن الأديان، فغنّت: 
غنيت مكة أهلها الصيدا
والعيد يملأ أضلعي عيدا
فرحوا فلألأ تحت كل سما
 بيت على بيت الهدى زِيدا
وعلى اسم ربِّ العالمين
علا بنيانه كالشهب ممدودا
من راكع ويداه آنستاه أن
ليس يبقى الباب موصودا
أنا أينما صلى الأنام رأت
عيني السماء تفتحت جودا

وبمثل ما غنت لمكة غنت للقدس:
لأجلكِ يا مدينة الصلاة أصلي لأجلكِ يا بهية المساكن 
يا زهرة المدائن
يا قدس 
يا مدينة الصلاة أصلي
عيوننا إليكِ ترحل كلّ يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء 
يا درب من مروا إلى السماء
عيوننا إليكِ ترحل كل يوم
***
كنا ونحن صغار ننشد أناشيد أقطار الوطن العربي، من المحيط إلى الخليج، وفي مدارسنا حين كنا صغاراً في أواخر الستينيات من القرن الماضي، لم يكن لدولة الكويت نشيد وطني رسمي، حينذاك أنشدنا للكويت «عيد بلادي» للشاعر أحمد عنبر من ألحان عبدالرؤوف إسماعيل:
ضجت الفرحة تجري في دمائي
وتغنى المجد من عليا سمائي
فانتشى الكون بأنفاس الضياء
***
عندما أشرقت يا عيد بلادي
رافعاً رايات نصري وجهادي
قصة تروي طريقي وتلادي
***
منذ كان البحر ميدان رجالي
يُخضِعون الموج في سود الليالي
يوم شعّ النور من فجر اللآلي
***
ينثر الآمال في درب الحياةِ
ومعي عزمي وصبري وثباتي
ذكرياتٌ يا لها من ذكرياتِ
***
منذ سال الخير من نبع الصحاري
نعمة تُسعد أهلي وجواري
فازدهى العمران في آفاق داري 

وفــــي عــام 1978م، نبعــــت فكرة عمــــل نـــشيد وطـــني رسمـــي لدولـــة الكويت ليحل محل السلام الأمــــيري المعمــول بـــه مــــنذ 1961م، وكللت الفكرة بالنجاح للنشيد الذي وضع كلماته الشاعر الأستاذ أحمد مشاري العدواني وقام بنسج ألحانه الموسيقار إبراهيم الصولة:
وطني الكويت سلمت للمجد
وعلى جبينك طالع السعدِ
يا مهد آباء الأُلى كتبوا
سِفْر الخلود فنادت الشهب
الله أكبر إنهم عرب
طلعت كواكب جنة الخُلْدِ
بوركت يا وطني الكويت لنا
سكناً وعشت على المدى وطناً
يفديك حرٌّ في حماك بنى
صرح الحياة بأكرم الأيدي
نحميك يا وطني وشاهدنا
شرع الهدى والحق رائدنا
وأميرنا للعزِّ قائدنا
ربُّ الحميّةِ صادق الوعدِ
وطني الكويت سلمت للمجد
وعلى جبينك طالع السعدِ
كنا نحتفل بالعيد الوطني، نغني فرحين سعداء، تغمرنا البهجة ويحدونا الأمل، حين غنى أعظم مطربي العالم العربي للكويت، فقد غنت أم كلثوم من كلمات أحمد العدواني وألحان رياض السنباطي:

وغنى عبدالوهاب من ألحانه وكلمات كامل الشناوي:
كــــل أرض عـــربيـة 
هي أرضي وامتدادي وطريقي
كل أحلامي الأبية 
هي حلمي وانتفاضات عروقي
فالكويت المستقل العربي بلدي
وهو روحي ودمي ووالدي وولدي
وله حبي وآمالي وعقلي ويدي

ولفريد الأطرش أغنية منها:
أرض الكويت يا بلادي
أفديك بروح أولادي
بتعيشي حرة أبية
منصورة بنصرة قوية

وغنى عبدالحليم حافظ للكويت:
من الجهراء للسالمية
رافعين علم الحرية
رايحة ألوف وجاية ألوف
تهني بعيد الحرية
كويتية كويتية
في الـ 25 والـ 26 مــــن هــــذا الشهر، شهر فبراير، تحتفل الكويـــت كل عام بعـــيـــدها الوطــــني وعيد التحرير، وفي هذا العام (2015م)، يأتي عيدها الوطني الرابع والخمسون وعيد التحرير الرابع والعشرون، ولسوف تُغني الكويت وشعبها للعالم كله فرحاً وحباً وسلاماً.