القرآنُ الكريم... وتحديثُ الخطابِ الدينيَّ

القرآنُ الكريم... وتحديثُ الخطابِ الدينيَّ

لا شك في أن كل ما يعانيه العالمان العربي والإسلامي اليوم من مشكلات وصراعات تكاد تفتك بالعرب والمسلمين وتعوق وحدتهم، بل تعوق الحد الأدنى من الاتفاق حول خط أحمر لا ينبغي أن تتجاوزه خلافاتهم حتى لا تتأثر مصالحهم ويفقدون الحد الأدنى من الهيبة أمام شعوب العالم الأخرى، لا شك في أن سبب كل ذلك هو تفاوت فهمهم وتفسيراتهم لأسس ونصوص شريعتهم الإسلامية التي هي في أصلها شريعة سمحة، ومعهم أصبحت بالفعل نقيضاً لذلك في نظر كل مَن لا يعرف الأصول العظيمة التي تقوم عليها، واكتفى بأن يأخذ انطباعه عنها من أتباعها المعاصرين وأفعالهم الشنيعة! ولعل السؤال الذي يلح الآن على كل مؤمن مخلص هو: متى وكيف يفيق المسلمون ويعودون إلى رشدهم وإلى صحيح دينهم، دين العقل والموعظة الحسنة والحوار بالتي هي أحسن، دين الاعتصام والوحدة وليس دين التناحر والفرقة؟!

في اعتقادي أن خير إجابة عن السؤال تكمن في قول الإمام محمد عبده: «إن القرآن هو الدوحة والأصل الذي يرجع إليه، وهو الذي لابد أن يرفع فوق كل خلاف». ولما كان اختلاف المجتهدين أصلاً من أصول الإسلام، فقد قال الإمام «إنهم لو اجتمعوا وتناصفوا لتفوّقوا وما اختلفوا».
ويا ليتهم اختلفوا في الأوجه التي توجب الاختلاف وابتعدوا عن الشقاق والصراع، تلك الأوجه التي كان جميلاً من أبي محمد عبدالله بن محمد البطليوسي الأندلسي أن يعددها لنا في كتابه «الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم»، ويحصرها في ثمانية أوجه هي:
1- الخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها التأويلات الكثيرة.
2- الخلاف العارض من جهة الحقيقة والمجاز.
3- الخلاف العارض من جهة الإفراد والتركيب.
4- الخلاف العارض من جهة العموم والخصوص.
5- الخلاف العارض من جهة الرواية، والمقصود من جهة رواة الحديث من حيث مدى صحة الإسناد أو فساده.
6- الخلاف العارض من قبل الاجتهاد والقياس.
7- الخلاف العارض من قبل النسخ، وهو يعرض بين من أنكر النسخ ومن أثبته.
8- الخلاف العارض من جهة الإباحة التي من قبل أشياء أوسع الله تعالى فيها على عباده  وأباحها لهم على لسان نبيه، كاختلاف الناس في الأذان ووجوه القراءات السبع ونحو ذلك.

دخول غير المختصين
والحقيقة أن الخلافات والاختلافات بين المسلمين الآن قد خرجت عن هذه الصور المشروعة، وفي اعتقادي الشخصي أن كثرة الاختلافات والخلافات إنما ترتبت على دخول غير المختصين مجال الدعوة والتفسير. ولو التزم المسلمون بالشروط القرآنية للمجددين الموكل إليهم الإفتاء والتفسير لما وجدنا أنفسنا أمام كل هذه الشيع والفرق المتناحرة من التيارات الإسلامية والجماعات الإسلامية التي تتراوح بين الاعتدال والتطرف إلى حد كاد يضيع معه «الإسلام الصحيح»، وهذه الشروط حددتها في اعتقادي آيتان هما:
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون} (السجدة:24).
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين} (الأنبياء:73).
1- فالشرط الأول ورد في الآية الأولى في قوله {يهدون بأمرنا}، أي أن يكون منهجهم في الدعوة إلى الله مستمداً مما أنزل الله في كتبه وما أمر به رسله، وليس من خارج هذا أو ذاك أو على خلاف منهج القرآن الكريم والرسول .
2- أما الشرط الثاني فورد في الآية الأولى أيضاً في قوله {لما صبروا}، وهو يعني أنه لا إمامة في الدين لمن لم يصبر على الدعوة إلى الله ما بين تقصير وضعف في الاتباع، وخصومة وتجبُّر في الأعداء. إن الصبر هنا قد يكون دلالة على الصبر في تأمل الآيات والأحاديث قبل الإفتاء وقبل الخوض في أي حديث حول ما أتى به الله والرسول ، فالدعوة ليست موكولة أبداً لمن وقف على ظاهر الآيات دون باطنها أو على طريقة {لا تقربوا الصلاة} أو ببساطة ليست لمن اتّبع منهج «اخطف واجرِ» بلغة العامة، فالتعرض للحديث في الدين ينبغي أن يكون أساسه المعرفة العميقة بآياته سبحانه وتعالى والصبر على هذه المعرفة حتى يتقنها.
3- أما الشرط الثالث ففي قوله تعالى في الآية الأولى {وكانوا بآياتنا يوقنون}، وهو اليقين في نصر الله وقدرته على هداية خلقه ونصر دعوته وتأييد من يقوم بهذه الدعوة. إن التيقّن يعني فلسفياً الإيمان العميق مصحوباً بالحجة والدليل العقليين، وهذا اليقين هو سند صاحبه لأن يدعو إلى الله حق الدعوة، إذ لا يمكن أن يقنع الداعية أحداً بشيء هو متشكك إزاءه أو ليس على قناعة ويقين تام به. إن اليقين يورث اليقين ببساطة فلا يتعرض للدعوة إلا متيقن من عقيدته ومن نصر الله له. 
4- أما الشرط الرابع فقد ورد في قوله تعالى في الآية الثانية {فعل الخيرات}، إذ إن الدعوة إلى الله لا يكفي فيها القول دون الفعل وحتى لا تتناقض الأقوال مع الأفعال، فإن الدعوة إلى الله ينبغي أن تتوافق فيها أقوال الداعية المستندة إلى قال الله وقال الرسول  بفعل الخيرات والمشاركة في شتى مجالات الحياة بما يعود بالخير على الناس كافة.
5- أما الشرط الخامس فقد ورد في قوله تعالى {وإقام الصلاة}، فالمعروف أن عماد الدين الصلاة، ومَن أقامها فقد أقام الدين، وبها يمكن قيادة المجتمع المسلم إلى ربه في ليله ونهاره، وذلك في صورة عبادة منتظمة يراجع فيها الإنسان نفسه على منهج الله. وفيها اتصال بين العبد وربه إذا داوم عليها الإنسان ظل محافظاً على هذه الصلة.
6- أما الشرط السادس فقد ورد في قوله تعالى {وإيتاء الزكاة}، وهذا شرط عملي يتبين من خلاله مدى صدق المجدد في الدعوة إلى الله، فلا إمامة من دون إعمال أركان الدين ولا إمامة من دون بذل دائم وعطاء سخي من كل ما يملكه الإنسان فداء لمبادئه وإلا صارت هذه المبادئ مجردة لا وجود ولا معنى لها.
7- أما الشرط السابع فقد ورد في قوله تعالى {وكانوا لنا عابدين} إذ إن المداومة على العبادة هنا بمعناها العام لا تعني ركوعاً وسجوداً وقياماً في الصلاة، أو دفعاً للأموال في  الزكاة فحسب، وإنما كل قول أو فعل يصدر من الإنسان ابتغاء وجه الله وطلباً لمرضاته هو عبادة أو بتعبير آخر، كل حركة في حياة الإنسان وفي حياة الأمة إذا توجهت بهذه الحركة إلى الله.

العلم واليقين
وهذه الشروط السبعة تدور حول أمرين اثنين ينبغي أن يتوافرا فيمن يتعرض لأمر الدعوة والتفسير، أولهما: العلم الدقيق واليقين بآيات القرآن وأحاديث النبي ، والثاني: أن يكون قدوة في القول والفعل، وألا تنفصل لديه الدعوة إلى الله عن التمسك بأركان الدين وفعل الخيرات، وأن تكون كل حركة في حياته لوجه الله وليس لوجه أي شيء دنيوي (شهرة كان أو منصباً، أو غير ذلك). والحقيقة أنني أعجب من كثرة الخلافات والشقاق بين المسلمين الذين يدّعي كل فريق منهم بأنه الأكثر فهماً ومعرفة بحقيقة الدين من غيره، ويصل في غيّه حد تكفير الآخرين، بينما الأمر عند أعدى أعداء الإسلام لم يصل إلى ذلك الحد من الاستهانة بالدين الإسلامي والتعصب ضده!
وكم كان لوفيكو مراكشي (1612- 1700م) صاحب كتاب «مقدمة في دحض القرآن» موضوعياً وهو يكتب مقدمته للترجمة التي قام بها للقرآن الكريم تحت عنوان «القرآن نص عالمي»، حيث يقول: «إن الدين الإسلامي احتفظ بكل ما هو أكثر عقلانية واحتمالاً في المسيحية، وبكل ما يبدو في نظرنا موافقاً لقانون وسنَّة الطبيعة، وقد استبعد من عقيدته جميع ألوان الغموض الموجودة في الإنجيل، والتي تبدو لنا غير معقولة وغير مفهومة، كما أنه استبعد من الأخلاق كل المبادئ المتزمّتة التي يصعب على الناس تطبيقها، ما جعل الوثنيين اليوم يشعرون بأنهم أكثر ميلاً إلى التنكر لوثنيتهم واعتناق الإسلام بصدر رحب واعتناق الشريعة المحمدية أكثر من الشريعة الإنجيلية».
وفي كتابه «دحض القرآن» يقول مراكشي: «يجب ألا نشك في أن كتاب «محمد» لا يقدم أفكاراً يصعب على العقل فهمها، فمثلاً لا يوجد إلا إله واحد حكيم وقادر، خالق الأشياء كلها ومدبّرها، ويجب أن يُصلى له بخشوع وخضوع. وأن يكون الإنسان متسامحاً مع الفقراء، ويؤدي مناسك الحج، ويطهّر بدنه بالصيام، ويحافظ على العدل والوسطية وطيبة القلب والشفقة، وكذلك كل الفضائل السهلة الأخرى، فلا يجوز أن يُؤذى إنسان، بل يجب أن يُحمى من السرقة والزنا، وأي جريمة أخرى أيّا كانت، ويجب أن يُحتقر كل ما في الدنيا باعتباره عابراً وغير ثابت ويستمسك فقط بالأعمال الصالحة التي لن يضيع أجرها. وسيكون لنا في النهاية يوم نعود فيه إلى الله لنُجزى على ما فعلنا؛ فالطيبون سيجدون في السماء نعيماً مقيماً وما يشتهون، وسيذوق الأشرار في جهنم عذاباً لا نهاية له، كل هذه المبادئ وغيرها تنتشر في القرآن الكريم بطريقة مفهومة وواضحة أكثر من المبادئ الإنجيلية. ولكل ذلك فغير المؤمنين يفضلون محمداً  ويعتنقون دينه من كل قلوبهم». 
إن هذا الفهم البسيط والعميق في الوقت ذاته لجوهر الدين الإسلامي يكاد يكون غائباً عن دعاته من المسلمين الآن، نظرًا لانشغالهم بخطاب دعوي سياسي يدعو إلى الصراع مع الآخر وتكفيره بدلاً من محاولة احتوائه وجذبه عن طريق الحوار الهادئ والقدرة على المصالحة. 

غياب اللغة السوية
لقد افتقد الخطاب الديني المعاصر اللغة السوية للخطاب، وجنح إلى لغة صراعية تنافسية بين جماعات وتيارات الإسلام السياسي المعاصر، وغاب صوت العقل والحكمة والدعوة إلى الله والدين بالموعظة الحسنة.
ولذا أرى أن إصلاح وتحديث هذا الخطاب وتطويره ينبغي أن تقوم على أسس خمسة هي:
1- العودة إلى الاستناد إلى صحيح الدين (القرآن والسنَّة) قبل ظهور الخلاف بين الفرق والتأكيد دائماً على أن خلافاتهم هي مجرد اختلاف في الرأي وليس فيما يخص جوهر العقيدة وإنما ما يخص بعض الفروع. 
2- مراعاة التدرج في الخطاب الديني بحيث يكون موافقاً للمخاطب، فمخاطبة عامة الناس غير مخاطبة خاصتهم، إذ ينبغي أن يقتصر الخطاب الموجه لعامة الناس على شؤون دينهم الحياتية.
3- الحرص على عقلانية الخطاب الديني والبعد به عن إشاعة الخرافات والخزعبلات، والبعد عن التقليد ومحاربة الجمود، مع الحرص على إبراز  القضايا المتجددة والتعبير عنها على أساس من صحيح الدين.
4- نبذ التعصب والتسامح مع أصحاب الآراء والمعتقدات الأخرى، إعمالاً لمبدأ «الحقيقة حمّالة أوجه» ولمبدأ الاستفادة من كل الطاقات والديانات لخدمة المجتمع المسلم في أي دولة من الدول الإسلامية.
5- استشراف المستقبل كضرورة من ضرورات تطوير الحاضر، ما يعني التقليل من قداسة الماضي لمصلحة أن بالمستقبل إمكانات ينبغي أن نستشرفها لنعمل من خلالها على نشر الدعوة الإسلامية وفق ضرورات الحاضر وإمكانات المستقبل والتنبؤ بمساراته المختلفة.
إن هذه الأسس يمكن من خلالها تطوير الدعوة الإسلامية بما يتوافق مع متطلبات العصر الحاضر، وممكناته المستقبلية، وليكن مرتكزنا الأساسي فيها جميعاً القرآن الكريم وسنة نبيّه ، دون الخوض في كل صور الخلاف والاختلاف بين المفسرين بفرقهم وتياراتهم المختلفة. وإنني لأطمح إلى أن تكون هذه الأسس نقطة مضيئة لبداية طريق نصل في نهايته إلى فهم إيجابي وبنّاء لخدمة القرآن الكريم كنص ديني ولخدمة أتباعه في أنحاء العالم، بما يجعلهم قادرين على النفاذ إلى المستقبل بقوة اليقين، ومن ثم قادرين: أولاً، على نبذ الخلافات في ما بينهم كمقدمة ضرورية للوحدة وتحقيق التقدم الذاتي، وثانياً، على التأثير في التقدم الإنساني بالدعوة الصالحة إلى الله الواحد الأحد، وبأن الدين الإسلامي هو دين العقل والعلم وليس دين الخرافة والتعصب، دين التسامح والمرونة الفكرية وليس دين الجمود والانغلاق.