مكانة العقل في حياتنا الفكرية
على الرغم من أن الفلسفة تواجه هجوماً عليها طوال تاريخها، من حيث مدى الضرورة والأهمية لحياة الإنسان، فإنها تواجه في عصرنا الحاضر من صور النقد والهجوم ما هو أقوى وأشد خطراً مما واجهته طوال قرون ماضية، ولعل ما نعيشه منذ عقود عدة، مما يسمى بالعالم الافتراضي، والعالم الرقمي، وهذا السيل الذي يتزايد تدفقه واتساعه يوماً بعد يوم من المعارف الإلكترونية، وما أصبحت شعوب العالم تعيشه من لهث دائم نحو توسيع الخيارات، كمّاً وكيفاً، أمام الإنسان، وركض تتزايد سرعته ساعة بعد ساعة نحو مزيد من التنمية، قد أصبح يرسم علامات استفهام ملحة أمام جدوى استمرار الفلسفة والتفلسف.
لعل ما يؤكد إلحاح هذه القضية على العقل العربي أن المفكر الكبير الراحل محمود أمين العالم قد انتقد منذ عقود عدة - في أواسط الستينيات من القرن الماضي تقريباً - الداعين إلى شطب الفلسفة من قائمة المجالات الثقافية، التي يجب أن ينشغل بها الإنسان، وذلك خلال مقال شهير له بعنوان «بلاش فلسفة»، على سبيل السخرية!
وعاود توفيق الحكيم إثارة القضية على صفحات «الأهرام» في 18 يناير 1980 بعنوان «هل انتهى عصر الفلسفة؟»، راجعاً بأصل القضية إلى عصور كان الانفصال فيها يتزايد شيئاً فشيئاً بين الفلسفة والعلم، إلى أن انتفض في القرن التاسع عشر بقوة، ووثب في القرن العشرين وثبته الكبرى، وبعد أن كانت الفلسفة وحدة مكتملة، تفتتت إلى عناصر منفصلة، ارتبط كل عنصر منها بفرع من فروع المعرفة، فأصبح هناك ما يسمى بفلسفة العلم، وفلسفة التاريخ، وفلسفة الفن، وفلسفة الاجتماع، وما سار على هذا النهج نفسه.
وطرح الحكيم تساؤلاته الموحية - إلى حد ما - بموقفه من الإجابة عنها، مثل: هل الفلسفة بمعناها القديم، باعتبارها وحدة قائمة بذاتها، يمكن أن توجد مرة أخرى بهذا الوصف والكيان في عصر العلم الكبير، كما وجدت من قبل ومهدت للعلم؟ وهل العلوم اليوم في حاجة إلى الفلسفة؟ وهل العلماء اليوم يطلعون على الفلسفة ويعتبرونها مصدراً للمعرفة؟ أم أن الفلسفة مجرد تنشيط ذهني، كما أن الألعاب الرياضية مجرد تنشيط جسمي؟ فالذهن هو الآخر في حاجة إلى منشط، فهل الفلسفة اليوم قد تغير وجه الانتفاع بها، فلم تصبح كافية لتزويدنا بما يزودنا به العلم من الحقائق، واقتصرت مهمتها على تنشيط الذهن إلى جانب الألعاب الرياضية التي تنشط الجسم، ولذلك قد تكون مهمتها أكبر عند الشباب وعامة الناس ممن هم في حاجة إلى تدريبات لتكوين العضلات المفكرة؟ أو أن الفلسفة لم تزل ضرورية، لأن مجالها مختلف عن مجال العلم؟ وعندئذٍ يجب علينا أن ننظر في مجال كل منهما، وقد نهتدي إلى ذلك بتحديد المهمة وتوجيه السؤال، فالسؤال عند العلم هو: كيف؟ والسؤال عند الفلسفة هو: لماذا؟
الفلسفة والعلم
وتوضيحاً لهذا الارتباط بين الفلسفة والعلم نجد أن العلم إذا كان معنيّاً بأن نبين عن طريقه: كيف نعيش؟ فإن السؤال الذي ينفرد به الإنسان عن سائر الكائنات يسبق السؤال بـ «كيف»، ليكون: لماذا؟ وإذا كان هذا السؤال يتقدم السؤال بـ «كيف»، فيسأل الإنسان: لماذا يعيش؟ فلابد أن يعاود التساؤل بعد أن يحدد العلم له الكيفية للعيش، لماذا هذا الوجه من المعيشة، وليس وجهاً آخر؟
وهذا وذاك يكشف لنا أن المهمة الفلسفية، إذ يختص بها الإنسان وحده، وإذ نعلم أن الإنسان وحده هو الذي استطاع أن يبني حضارة، فعلينا أن نعي أن جزءاً مهمّاً من هذه المهارة في بناء الحضارة يعتمد على التساؤل المستمر: «لماذا؟»، حيث إنه يفرض البحث والتفكير والنقد والمراجعة، وهذه سبل أساسية للتحسين والتطوير والتجديد.
وإذا كان توفيق الحكيم، الأديب الكبير، وصاحب الخلفية القانونية قد فتح الباب للتساؤل حول وجه الحاجة إلى الفلسفة في عصر المعرفة العلمية المتقدمة، والعالم الافتراضي الرقمي، فإن عملاقاً آخر من عمالقة الفكر، هو الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، قد وصّف القضية توصيفاً أوسع، وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية الكبير، وعضو مجلس الشيوخ في العهد الملكي، ورئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة في أواخر عمره، ما فتح الباب واسعاً أمام زمرة من أساتذة الفلسفة، وغيرهم ليدلوا بدلوهم في القضية.
أما هذا الأفق الجديد الواضح، فهو ما يتصل بالعقل العام، أو «القيادة الفكرية» ودورها في قيادة حركة النهوض الحضاري، على أن تتخلص من بعض صور العوار التي خلّفتها فيها سنوات طويلة من التخلف.
وفي عدد «الأهرام» نفسه، الصادر في 18 يناير من عام 1980، أكد مدكور أن القيادة الفكرية بالنسبة للمجتمع هي بمنزلة العقل بالنسبة للإنسان، صحيح أن جمهرة الناس قد تعودت على أن القيادة السياسية هي صاحبة الحول والطول، لكن هذا لا ينفي ضرورة القيادة الفكرية في الجماعة البشرية، ومثل هذا القطاع هو قطاع من قطاعات المجتمع، يوحي ويلهم، يوجه ويرشد، ويضطلع في اختصار بعبء قائد يعول على فكره ولسانه وقلمه، يدعو إلى الإصلاح، ويرسم سبل النهوض والتقدم، يأخذ بيد الضعيف، ويخفف من غلواء القوي، يؤثر الفهم والتفاهم على الخصومة والتنازع، ويعتمد أساسه على الإقناع والاقتناع. لكن مثل هذه القيادة الفكرية لا فاعلية لها إلا بقدر عال من التنسيق والتآزر بينها وبين القيادات الأخرى في المجتمع، السياسية والاقتصادية والدينية، مع التأكيد على أنه لا حياة لفكر أو ثقافة إلا في جو من الحرية المسؤولة والمساواة الرشيدة والعدالة الشاملة.
العقل سيد الموقف
وبعد أشهر قليلة، وفي الأول من أبريل من عام 1980، راح الدكتور زكي نـجيب محمود يبعث الحيوية في المقولة الأساسية، على اعتبار أن حياتنا الفكرية، لا سبيل لها لأن تنبت قيادة فكرية فعالة إلا بالقدر الذي تتيح فيه الفرصة للعقل أن يكون هو سيد الموقف.
والدكتور زكي، المُقَدِّر دائماً للحضارة الغربية، يذكرنا بأنه بينما يواجه الغرب الذي هو مصدر حضارة هذا العصر، حضارة واحدة هي حضارته الراهنة من دون أن يكون هناك إلى جانبها ما يشتت نظرته العلمية، فإننا نحن، وسائر البلاد ذات الحضارات القديمة، مثل الهند والصين واليابان، نواجه حضارتين: حضارتنا القديمة من جهة، وحضارة هذا العصر من جهة أخرى، ولا نحب أن نستغني عن إحداهما، لأن حضارتنا القديمة، وإن كان قد فات أوانها من بعض الوجوه، هويتنا مرتبطة بها إلى حد كبير، وأما الحضارة الأخرى التي هي حضارة العصر، فكذلك لا نستطيع أن نستغني عنها إذا شئنا، إذ إننا نحيا في عصرها، ولابد لنا أن نعيشها. ولم تكن هذه الـمشـكلة وليدة اليوم، فهي تعيش في عقولنا وثقافتنا منذ أن بدأت عملية التحديث في أوائل القرن التاسع عشر، حيث ورثنا اتجاهين شهيرين، أحدهما يرفض الحضارة الغربية، والآخر يراها السبيل الوحيد للتقدم، وبين الاتجاهين، كان هناك اتجاه ثالث سعى إلى التوفيق والتوسط بين الأمرين، وقصة هذا وذاك طويلة اتسعت لها عشرات الكتب، ومئات البحوث والدراسات.
اضطهاد العقلانية
ولفت الدكتور توفيق الطويل الذي كان أستاذاً للفلسفة في آداب القاهرة، في مقاله بـ «الأهرام» في 2/4/1980، النظر إلى أنه منذ أمد طويل تعرض العقل في أمتنا لحملة ضارية من النقد والتجريح، واضطُهد الكثيرون من دعاته بغير حق، ونالهم عذاب أليم، وكان سبب ذلك أن العقل في سعيه الدائب إلى الكشف عن الحقيقة،
انحرف – في بعض الأحيان - وضل سبيلاً، وفي غمرة مطاردة الضالين والانتقام منهم، تعرض الكثيرون للاضطهاد زوراً وبهتاناً، ولعلنا لم ننس بعد ما أصاب هؤلاء منذ العصر العباسي الأول، في عهد المهدي والهادي والرشيد والمأمون والمعتصم، فكان ما كان من قتل وصلب وإحراق بالنار! وكان مقدراً للعقل الفلسفي في أمتنا أن يتصدى لمهاجمته طائفة من أهل الفكر الشامخ ممن قُدر لهم أن يكونوا في أمتنا أصحاب نفوذ واسع النطاق، ممدود الرحاب، في مقدمة هؤلاء منذ القرن العاشر الميلادي، ابن حزم، والغزالي، وكان ألذعهم نقداً وأقواهم تأثيراً، ومن تابعوه، حتى كان القرن الرابع عشر للميلاد، فكان ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، إلى أن جاء الشيخ محمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأ ينزع عن العقل الإسلامي بعض الأغطية التي كانت تحجب الرؤية الصحيحة عنه.
تعليم التفكير
وعلى قلة ما كان يكتبه الأديب الشهير نجيب محفوظ من مقالات، نظراً لأنه كان يعبر عن فكره عن طريق الأدب القصصي، فإنه شارك بمقال صغير على صفحة «الأهرام» في 8/4/1980 في القضية المثارة، وخاصة في جانبها التعليمي. فقد رأى محفوظ أن للعقل دوراً في الحياة التعليمية إذا ربينا الناشئة على التفكير، وهذا لم يكن – في رأيه – متوافراً إلا قديماً، ويقصد بالقدم هنا الفترة السابقة على ثورة يوليو 1952، حيث أصبحت المقررات تؤخذ باعتبارها حقائق أبدية، ودور الطالب منها هو التلقي والاستيعاب، وهذا الموقف يصير بعد ذلك عادة فكرية، ينتظر النظرة نفسها لما يقرأه في الصحف والمجلات أو القراءة الحرة. وأكد أديبنا الكبير أن جيله إذا كان قد صادفه شيء من الحظ واكتسب قدراً من إمكانية المناقشة الإيجابية في التفكير، فإن ذلك كان بفضل الدراسة الجامعية في العهد الليبرالي (قبل 1952)، حيث كانت الجامعة المصرية تزخر بكبار العلماء والمفكرين، محليين وأجانب.
أما أستاذ الطب النفسي الدكتور يحيى الرخاوي، فقد تقدم خطوة أكثر عملية وإجرائية، باقتراح مجموعة مقومات رأى أنها كفيلة – إلى حد كبير - بأن تبث دماء صحة وعافية في حياتنا العقلية، وذلك في مقال له بـ«الأهرام» في 13/4/1980، مثل:
- ضرورة زيادة مساحة «السماح»، لا من جانب السلطة بأنواعها فحسب، وإنما من جانب الاحتكارات العملاقة لأسواق الأفكار السابقة التجهيز، سواء المصنعة في المصانع السلفية المسلحة أو المستوردة من بلاد اليأس والغرور، مع التنبيه على أن أخطر أنواع القهر الآتي من هذه المصادر هو ما تغلغل في النفس ليصبح قهراً داخلياً يمنع إعادة التفكير أو حتى مجرد الحلم في ما هو مفروض أو مقرر، وبهذا يصبح الإنسان سجين ما وُضع حوله من أسوار خارجية.
- ضرورة أن يختفي الشعور بالنقص تدريجياً، بما يشمل تناقص نقيض النقص ومكافئه (وهو الشعور بالغرور أو الاستهانة)، وذلك من خلال استمرار فعل المعرفة منذ الولادة وحتى الموت (قبل وبعد المدرسة والجامعة والمعهد والمعمل... إلخ).
الإصرار على اسـتـمرار الاستقرار، مع أكبر درجة من التفاعل الحي الداخلي، فالاستقرار سوف يتيح الفرصة لاختيار الأفكار، إذ يمنع إجهاض أجنة الاجتهاد أولاً فأولاً، والحركة التفاعلية الصحية سوف تضمن ألا ينقلب الاستقرار إلى مجرد موت تسكيني هامد.
- تنمية القدرة على الخطأ، وقبول شجاعة التراجع بمسؤولية ومرونة.
- تشجيع التفكير المخالف, والتدريب على حق إعادة النظر في كل شيء، ما دام الحوار متصلاً، والبقاء للأصلح وما ينفع الناس.
وإذا كان العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس في ما ذهب الفيلسوف الفرنـسي ديكارت، فإن د.محمد علي ريان الذي كان رئيساً لقسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة الإسكندرية أكد على صفحات «الأهرام» في 20/4/1980 أن القول إنه إذا كان صحيحاً أن العقل واحد عند جميع البشر، فإن هذا يجب أن يُفهم في إطار القدرة العقلية العامة، لكن قدرها ونوعها ومداها وممارساتها والعمليات العقلية التي تمارسها، وعلاقتها بالعقول والأفكار المغايرة... كل هذا هو الذي يباين بين عقل هذا وذاك، لا بين الأفراد فحسب، بل بين الأمم.
ولا ينبغي الحديث عن مطلق العقل، بل لابد من النظر بعين الاعتبار إلى «موضوع العقل»، وهو المعاني والأفكار التي تظل في مجال التجريد أو تؤثر في السلوك، ولا ينطلق العقل أصلاً من فراغ أو في فراغ، بل لابد له من موضوع ينفتح على جملة من العلاقات، على تباين أنواعها، وهو يتخذ من هذا الموضوع «موقفاً» بعد الفهم الصحيح الذي يستند إلى التعليل المنطقي أو الحدس العقلي، حتى تتبدى الأفكار في جلاء ووضوح، فلا يثمر العقل إلا في مثل هذه التربة، بعيداً عن الأصنام والأوهام الخاصة أو العامة، كما قال فرنسيس بيكون الفيلسوف الإنجليزي.
وكان الدكتور عاطف العراقي، الذي كان أستاذاً للفلسفة بآداب القاهرة، من المعروفين بانحيازه الشديد للاتجاه العقلي، وهو ما تشير إليه عناوين بعض كتبه، مثل «النزعة العقلية عند ابن رشد»، وغيره، إلى الدرجة التي دفعته إلى رفض القول بـ«الفلسفة الإسلامية» مُصرّاً على تسميتها بـ «الفلسفة العربية»، وأكد في مقال له بـ «الأهرام» في 22/4/1980 أن حياتنا الفكرية التي نحياها يغلب الجانب اللاعقلاني على أكثر جوانبها، إن لم يكن كلها، وهي ظاهرة تبعث على الحزن حقّاً، لأننا إذا قلنا: اللاعقل، فهذا يعني الخرافة وغياب الجانب النقدي، وهو ما يعني كذلك التخلف والنكوص الحضاري، بينما يستلزم الأمر العزم على الأخذ بالأسباب المؤدية إلى التقدم، التي لا طريق إليها إلا بالعقل وبالنقد وحرية تداول المعلومات، وحرية مناقشة الأفكار والتحاور بشأنها، أياً كانت نتائج هذه المناقشة.
إن أهم غاية من غايات التعليم والتربية والثقافة تتمثل في إعداد الفرد للحياة في حاضرها ومستقبلها، وتنمية قدراته على مواجهة مشكلاتها، فكيف إذن يتحقق ذلك الهدف أو تلك الغاية، في الوقت الذي يقرأ فيه عن الخرافة أكثر مما يقرأ عن العلم وعن العقل؟!
ويطول بنا المقام لو حاولنا استقصاء جملة الآراء والأفكار التي طرحت على هذا الطريق، وغاية ما نود قوله هو أن المشكلة الرئيسة هنا هي وجود عالمين بالفعل، العالم كما تدركه أجهزة العقل والحواس الإنسانية، وعالم آخر يتصل بما عُرف بما وراء الطبيعة أو «الميتافيزيقا»، تعجز أجهزة الإدراك البشري عن الإحاطة به، ما دفع البعض إلى حل المسألة بإلغائه كلية، وسحب الاعتراف به، بينما سعى البعض إلى التعامل معه بأجهزة الإدراك البشري، فلم يصلوا إلى المأمول. وفي رأينا أن العالم الذي يعيشه الإنسان بالفعل، وتصل إليه أجهزة مدركاته يجب أن يتم التعامل معه وفقاً للنزعة العقلية، وما تتطلبه من وسائل وأساليب نقد وتحليل ومقارنة، ورفض أحياناً وقبول أحياناً أخرى، دون أن يعني هذا إنكار عالم ما وراء الطبيعة، فعجزنا عن إدراكه لا يعني أنه غير موجود، وإنما لا سبيل إليه إلا بما تخبرنا به الأديان السماوية، مع التأكيد في الوقت نفسه أن الفهم البشري لما تخبرنا به الأديان السماوية يجب أن يخضع نفسه إلى النقد والتحليل.