إسرائيل ومبادرة السلام العربية

إسرائيل ومبادرة السلام العربية

يمكن القول إن مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز, ملك المملكة العربية السعودية, عام 2002, أمام القمة العربية في بيروت للاعتراف بإسرائيل في حدودها 1967 مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي العربية التي تم احتلالها في 1967, أفضل وصفة صدرت من الجانب العربي للوصول إلى الحل المقبول دولياً، فيها حكمة المجرب, وكفاءة مدقق الحسابات, والعالم بقواعد التوازنات, والمدرك لمخاطر استمرار الجمود, والمالك لنزعة المبادرات.

عشت ممثلاً للكويت في الأمم المتحدة مكرراً الخطب البليغة التي مارسها العرب منذ 1947, ولم يقدموا تصوراً واقعياً عن خطوط الحل الممكن، وإنما كرروا الديباجة المعروفة عن المؤامرة التي حاكها تجمع الغرب مع الحركة الصهيونية في إنشاء وطن يهودي وبمشاركة من لا يملك على حساب من يملك، مرددين قرارات الأمم المتحدة التي صدرت عن اللاجئين وعن العدوانية التوسعية والصهيونية وعجز الأمم المتحدة عن تطبيق قراراتها بسبب تواطؤ الدول الكبرى. 
كانت قضية فلسطين الملف الأول لي وللبعثة الكويتية خلال السنوات العشر التي قضيتها في الأمم المتحدة, لاسيما فترة عضوية الكويت في مجلس الأمن (1978-1979)، حيث كنت ممثلاً للدول العربية في مجلس الأمن في وقت عصيب تزامن مع مبادرة السادات وزيارته للقدس، ثم توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل, وما خلفته من استقطابات داخل المجموعة العربية في الأمم المتحدة، رافقتها إجراءات اتخذتها الدول العربية في بغداد بمقاطعة مصر ونقل الجامعة العربية إلى تونس.

أجواء مشحونة
سعينا كمجموعة عربية في الأمم المتحدة في التخفيف من اندفاع الوفود السورية والعراقية والليبية ومنظمة التحرير الفلسطينية في التشهير بالدولة المصرية وسياستها، إلا أن جهدنا تعثَّر، فقد كانت الأعصاب مشدودة، مصحوبة بالاندفاع والتحدي والغضب في تحركات هذه الوفود. 
ولا أنسى تلك المفردات التي كانت تصدر من هذه الوفود ضد الوفد المصري داخل اجتماعات لجان الأمم المتحدة، حيث اتسع التشهير ليمتد إلى اللجان التي تناقش القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ما تسبب في خلق أجواء مشحونة في قاعات الأمم المتحدة, أفرزت تذمراً شديداً من السلوك العصبي للمجموعة العربية.  كانت العقبة في مداولات الوفود العربية حول فلسطين عدم توافر صيغة عربية للحل يمكن تسويقها بين أعضاء الأسرة العالمية وشرحها داخل لجان الأمم المتحدة، صيغة تتمتع بالواقعية وتأخذ في الاعتبار حسابات الحقائق، وتملك المصداقية التي لا مفر منها في ممارسة التسويق والحصول على التقبل الجماعي العالمي. 
كان الرفض «الناشف» يتسيد الخطابات العربية التي كانت تكتب بحرفية في النقد والتحليل وتشرح الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني، وتأتي بنماذج من الأساليب غير الإنسانية التي وظفتها السلطات اليهودية لطرد الشعب الفلسطيني، ملوحين بمذبحة دير ياسين التي حدثت في أبريل 1948 قبل الانسحاب البريطاني وقبول إعلان الدولة اليهودية في 15 مايو 1948.  كانت الوفود الأوربية تستمع إلى كلمات الوفود العربية من دون اهتمام فلا جديد فيها سوى إدانة المؤامرة وترابطها مع الصهيونية وما أفرزته من إذلال للعرب.
كان العرب أسرى موقف حديدي اتخذته الجامعة العربية في قراراتها حول القضية الفلسطينية ابتداءً من عام 1946 حتى 1951, التي أكدت رفض التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947, ورفض الاعتراف النهائي بخطوط الهدنة التي وقَّعتها الدول المحيطة، ابتداء بالدولة المصرية في فبراير 1949، ثم تبعتها الدول العربية الأخرى, وكان آخرها سورية في يوليو من ذلك العام.

قرارات وثيقة
ومع ذلك استمرت قرارات الجامعة العربية كوثيقة تسجل مواقف دولها، وكان من أغرب ما في هذه القرارات المتعلق منها بارتباط الضفة بإمارة شرق الأردن، وهو الارتباط الذي نشأ بعد توقيع اتفاقية الهدنة بين الأردن وإسرائيل 1949, وتوجه الأمير عبدالله بن الحسين بضم ما تبقى من فلسطين, لتكون الحصيلة «المملكة الأردنية الهاشمية» التي أعلنت في 1950, بعد اجتماع موسع ضم أعيان فلسطين وممثل الأردن في اجتماع حاشد في آخر عام 1949, تم الاتفاق خلاله على الانضمام إلى الأردن ومبايعة الملك عبدالله ملكاً للمملكة الأردنية الهاشمية الجديدة.
وكانت ردة الفعل في الجامعة العربية إصدار قرار يدين الأردن ويطالب بعدم الاعتراف به ورفض تبعاته، ويذكر أن الدولة الوحيدة التي اعترفت بالضم هي باكستان.
مرت العلاقات بين الجامعة العربية والملك عبدالله, ملك الأردن, بتشعبات، ولم تكن مريحة لأي طرف، لكنها مؤكدة في ضوء التباين الواسع بين ما تريده الجامعة العربية وبين قناعات الملك عبدالله بن الحسين.

صراع النفوذ 
كما لم تكن تلك العلاقات خالية من التنافس ومن صراع التميز والرغبة في احتكار قرار الجامعة العربية وتصدُّر النفوذ فيها, لاسيما من الملك فاروق في القاهرة, وكذلك لم يكن ممثلو المملكة العربية السعودية بعيدين عن ممارسة الآليات التي كانت سائدة في الأجواء العربية.
ومهما قيل عن تلك الصراعات، فالحقيقة أن الملك فاروق، وبمساعدة الأمين العام للجامعة العربية وقتها عبدالرحمن عزام باشا وحكومة النقراشي باشا، نجح في تأليب الرأي العام ضد الملك عبدالله، ساعده في ذلك الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، صاحب النفوذ في مدينة القدس، والمتزعم لحركة المقاومة والمعارضة، والرافض لكل مشروع لا يتفق مع منظوره وقناعاته، بما في ذلك قرار التقسيم الذي أصبح واقعاً بعد دعم الأمم المتحدة الذي وفَّر له الشرعية السياسية والقانونية والذي قبلته إسرائيل اعتماداً على رفض العرب، متحينة الفرص للتوسع وتجاوز الخطوط التي رسمها قرار التقسيم. 
ومن المتابعة والتمحص في سياسة إسرائيل ونهجها الاستراتيجي يمكن التوصل إلى استخلاص مقنع بأن المبادرة العربية الصادرة من قمة بيروت عام 2002, لم تكن مقنعة لإسرائيل ولا تنسجم مع الاستراتيجية الإسرائيلية التي شيدها بن جوريون, مؤسس الدولة اليهودية, منذ بداية الصراع حول إنشاء وطن يهودي في فلسطين.
كان بن جوريون معارضاً لاتفاق الهدنة الأولى التي تمت في 11 يوليو 1948, عندما كان الجيش اليهودي محتلاً معظم المناطق التي أخضعها التقسيم لدولته، ولم يكن راضياً بتلك الحدود، خاصة خطوط الهدنة في القدس التي حافظ الجيش الأردني على القسم الغربي منها, ولم يكن مهتماً، بعدما ظهر ضعف القوات العربية, بالاتصالات التي بدأت من الجانب العربي للاتفاق على وقف نهائي لإطلاق النار. 
لم يكترث بالاتصال الأول من مصر الذي تم في باريس في 21 سبتمبر 1948 عن طريق كمال رياض المفوض للاجتماع مع إليا ساسون, المفاوض الإسرائيلي, بدعم من الملك فاروق ومن النقراشي باشا بغرض وقف الاحتلال الإسرائيلي للنقب, لكن بن جوريون رفض كل المؤشرات السلمية, كما لم يكن بن جوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي, مقتنعاً بالاتصالات التي بدأت مع أمير شرق الأردن عبدالله بن الحسين منذ أبريل 1948 وتولتها السيدة جولدا مائير، التي استمرت حتى مقتل الملك في يناير 1951.
ومن يقرأ الوثائق التي خرجت عن تلك الاتصالات سيقف على برنامج بن جوريون في استحضار المهاجرين اليهود والتوسع في الحدود ورفض أي إشارة إلى ما كان يطالب به الملك عبدالله بن الحسين في الحصول على دلائل لحسن النية من جانب إسرائيل في عودة بعض اللاجئين الفلسطينيين، لاسيما أصحاب الأملاك, والانسحاب الجزئي، خاصة من اللد والرملة، لكنه أبقى قنوات الاتصال مع الأردن لأنه كان يعد تجهيزاته نحو احتلال كل النقب حتى يصل إلى خليج العقبة، واتخذ قراره بالاحتلال في 22 ديسمبر 1948، حيث تمكنت القوات الإسرائيلية في أسبوع واحد من احتلال كل فلسطين وترك الضفة الغربية لضمها للأردن، بدلاً من سيطرة المفتي الحاج أمين الحسيني عليها, مع ترك غزة للإدارة المصرية.

فشل السلام
وقد فشلت جميع المحاولات التي جرت لتحقيق سلام مع إسرائيل خلال الفترة منذ اتفاق الهدنة في النصف الأول من عام 1949, التي وقعت مع دول الجوار حتى اتفاق السادات مع بيجن في كامب ديفيد في مارس 1979, بما فيها المحاولات الجماعية في لوزان، وحتى اتفاق التفاهم «الجنتلمان» الصامت بين الملك عبدالله بن الحسين وبن جوريون كان اتفاقاً مفتوحاً وفق قرارات رئيس الوزراء الإسرائيلي، حيث يستطيع استفزاز الأردن في الوقت الذي يراه مناسباً لتحقيق مكاسب جغرافية، فالصلح لا يعني شيئاً لإسرائيل وإنما يقيدها ويفرض عليها التزامات لا تريدها. 
كان بن جوريون يؤمن بنظرية الترويض والقضاء على الإرادة السياسية والعسكرية العربية بتطبيق مبدأ الانتقام المؤذي، ويؤمن بمبدأ الاستباقية بضرب القوة العسكرية العربية قبل أن تكبر, ويؤمن بالحدود المفتوحة لإسرائيل لكي تتوسع عندما تشعر بالاسترخاء الدولي. 
فعندما قتل الملك عبدالله في يناير 1951, طلب بن جوريون إعداد خطة لضم الضفة الغربية إذا ما تحركت القيادة الهاشمية في العراق تجاه الأردن, كما أن موافقة إسرائيل على خطوط الهدنة وسيلة للحصول على الاعتراف الدولي، ونيل شرعية عالمية والتقاط النفَس استعداداً لجولات توسعية. 

الأرض مقابل السلام
عانت الأمم المتحدة كثيراً مراوغة إسرائيل بعد احتلالها الأراضي العربية في حرب 1967, ولم تنجح المساعي الدولية في تحرك جدي نحو الانسحاب الإسرائيلي وتحقيق نظرية الأرض مقابل السلام، ومع تزايد الضغط على الدول الكبرى للتحرك, جاء الاتفاق على إطار نحو السلام, تمثل في قرار مجلس الأمن 242 الذي صدر في نوفمبر 1967, يدعو الأطراف إلى الالتزام بمبدأ عدم كسب أراض بالقوة والانسحاب من الأراضي المحتلة في إطار سلام شامل. 
وتم اختيار الدبلوماسي السويدي يارنج مبعوثاً خاصاً للتفاوض بين هذه الأطراف. 
وبعد جولات مكوكية بين العواصم المعنية قام بها يارنج, قرر المبعوث الخاص أن يوجه أسئلة مباشرة إلى الأطراف المعنية, سؤال إلى إسرائيل عن ضرورة الانسحاب من جميع الأراضي المحتلة, وسؤال إلى الجانب العربي لقبول شروط السلام الكامل، مقابل الانسحاب. وجاء الرد الإسرائيلي على السؤال المباشر الذي فيه الانسحاب إلى خط الرابع من يونيو 1967 بالرفض القاطع، وسجلته الأمم المتحدة على أنه موقف إسرائيل النهائي. كان ذلك في بداية 1970, ودفع قادة مصر إلى الاستعداد والمواجهة المستقبلية، بعد اليأس من المنظمة الدولية، فكانت حرب 1973.

المبادرة العربية
وتأتي المبادرة العربية التي صدرت من قمة بيروت, بالروح إن لم تكن بالنص, شبيهة بالسؤال الذي طرحه مبعوث الأمم المتحدة عام 1970, وفشل في الحصول على الرد الذي يحرك السلام، ما أدى إلى استقالته بعد أن قرأ المستحيلات في الموقف الإسرائيلي. 
ولاشك في أن إسرائيل وضعت الأمم المتحدة في حالة غير مسبوقة من العجز, وكشفت في حالة غير مسبوقة أيضاً عن التحالف الأمريكي - الإسرائيلي في إبعاد الأمم المتحدة عن أي دور مؤثر في تحقيق السلام بشأن قضية فلسطين والاكتفاء بدورها في الحفاظ على ما يتم الاتفاق عليه خارجها، بمعنى أن الأمم المتحدة صارت آلية لحفظ السلام، أي Peace- Keeping بدلا من صناعة السلام  Peace  Making.
لم تعط إسرائيل المبادرة العربية الاهتمام الذي تستحقه، فلا يعنيها اعتراف الجميع, العرب والمسلمين، بها كدولة, بحدود آمنة وبعلاقات كاملة، ولا ترى فيها ما يتناسب مع مكاسب الاحتلال الذي حوَّل الضفة الغربية إلى مستوطنات يقطنها نصف مليون مستورد من الخارج, مع ضم القدس موحدة وإعلانها العاصمة. 
لا يتحرك الرأي العام في إسرائيل ضاغطاً ودافعاً نحو التعبير العلني بالضغط على حكومته لقبول المبادرة.
ويردد المسؤولون فيها أن السلام مع مصر، الذي انسحبت بموجبه إسرائيل من كل سيناء، ظل سلاماً بارداً، لم يحقق الأمل الذي تطمح إليه إسرائيل في انفتاح كامل بعلاقات كاملة, وانسحبت من غزة بقرار فردي، ولم تكن الحصيلة سوى صواريخ تطلقها «حماس» التي استولت على القطاع وتمكنت من التحكم فيه، متبنية سياسة راديكالية لا تعترف بالقرارات الموقَّعة مع منظمة التحرير الفلسطينية التي جاءت من رحم «أوسلو», ولم تستفد إسرائيل كثيراً من هذه التنازلات.
ومهما كان التجاهل الإسرائيلي، فإن بقاء المبادرة قاعدة للمفاوضات هو خيار استراتيجي فيه مكاسب سياسية وإعلامية، وفيه قرار تاريخي لابد من الإبقاء عليه، وهو الوثيقة التي يحملها العرب أينما كانوا في محاصرة النزعة التوسعية التي رافقت قيادة إسرائيل منذ بدء الحركة الصهيونية في آخر فصول القرن التاسع عشر.