نحو لغة تواصليّة في الحياة

نحو لغة تواصليّة في الحياة

أدرك البشر أهمية التّواصل منذ فجر التاريخ، ومع تتابع العصور زاد الإحساس بدوره البارز في استمرار حياتهم، وتحقيق مصالحهم المختلفة، وتوحيد جهودهم، وترابط مجموعاتهم، وتنظيم أنشطتهم، وتطوّر أنماط حياتهم. فالاتصال بين أفراد المجتمع، والمجموعات الاجتماعية المختلفة ضروري لتحقيق متطلّبات الاجتماع الإنساني، وهو شرط من شروط بقاء الكائن البشري، لذلك اعتبر التواصل المبنيّ أساساً على اللّغة، أحد أهم المفاهيم المرتبطة بالإنسان دون غيره من الكائنات، لدرجة يمكن معها القول: إنّ التّواصل هو الحياة، ولا يمكن أن يوجد حيّ من دون تواصل، فالإنسان يتواصل منذ أن يكون جنيناً في بطن أمّه مع الأصوات التي يسمعها من الخارج، وهو في الأصل ثمرة لتواصل والديه (جسدياً وعاطفياً ولغوياً).

كما أنّ التّواصـــل أســـاس الوجــــود الإنساني، كذلك لا سبيل للتنمية الشاملة في غياب التواصل الإيجابي، فهو يحقّق الرّقي والازدهار والتقدّم للبشرية والمجتمع الخارجي. 
   فكيف تحقّق الكلمة (اللّغة)، التّواصل؟ 
لكي نحقّق التواصل لابدّ لنا من تحديد مفهوم التواصل وأهدافه، وعناصره ومكوناته، وأنواعه، وشرط تحقّقه.

أولاً: مفهوم التواصل اللغوي وأهدافه
إنّ الاهتمام بظاهرة التّواصل لم يكن عبثاً لا ترجى نتائجه، بل فرضته حتميّة التّفاعل المعرفي مع الآخر، في عالم تقاربت أطرافه المترامية، ومن ثمّ بات علينا نحن الدّارسين طرق أبوابه، بوصفه أساساً من أساسيات اللّغة التي هي جلّ اهتمامنا، ننفذ بها إلى دروب الثقافات الأخرى في ظلّ التقدّم الذي أضحى سمة بارزة من سمات العصر الذي نعيش فيه ونتعايش مع مجتمعاته.
والتّواصل مصطلح يكتنفه بعض الغموض بسبب غناه المعجمي، نظراً لدخوله في علاقة ترادف واشتراك مع مجموعة من المصطلحات التي تشاركه في الدّلالة، سواء من حيث الجذر أو من حيث الحقل الدّلالي. وذلك من مثل: التّواصل، الإيصال، الوَصْل، الإبلاغ، الإخبار، التّخاطب، التّحاور... إلخ.

1- تعريف التّواصل
أ- في اللّغة: أصل التّواصل من «وَصَلَ»، وهو بخلاف الهجران والتّصارم، يقول ابن منظور (معجم لسان العرب): «وَصَلْتُ الشَّيءَ وَصْلاً وَصِلَةً، والوَصْلُ ضِدّ الهجْرانِ». أمّا في «المخصّص» لابن سيدة: فالوصْلُ خلافُ الفَصْلِ، وَصَلَ الشّيءَ بالشّيءِ يَصِلُهُ وَصْلاً وصِلَةً وصُلَةً... واتّصَلَ الشّيءُ بالشَّيءِ لم يَنْقطِعْ... ووَصَلَ الشّيءَ إلى الشّيءِ وَصُولاً، وتَوصّلَ إليه انتَهَى إليه وبَلَغَهُ... والتّواصُلُ ضدّ التّصارُم. وفي اللّغة العربية يفيد التّواصل الاقتران، والاتصال، والصّلة، والتّرابط، والالتئام، والجمع، والإبلاغ والانتهاء، والإعلام. إذن بحسب الدّلالات اللّغوية لكلمة الاتّصال، يتّضح لنا أنّ عملية الاتّصال تحدث بين طرفَين، كما أنّها تتمّ من خلال وسيلة، ويكون من آثارها حدوث ارتباط هذَين الطّرفين. 
ب- في الاصطلاح: يستقي التّواصل دلالاته من التّعريف اللّغوي، لبعض العلماء التربويين ومنهم شارل كوليي Charles Cooley 2008، الذي عرّف التّواصل بقوله: «التّواصل هو الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطوّر، إنّه يتضمّن كلّ رموز الذّهن مع وسائل تبليغها عبر المجال وتعزيزها في الزّمان، ويتضمّن تعابير الوجه وهيئات الجسم، والحركات ونبرة الصّوت والكلمات والكتابات والمطبوعات والقطارات و«التلغراف» والهاتف، وكلّ ما يشمله آخر ما تمّ من الاكتشافات في المكان والزّمان. فهو يعتبره جوهر العلاقات الإنسانية وأساسها الذي تبنى عليه. أمّا  صوفي موارون  Sophie Moirand فتنتقل بنا من العام إلى الخاصّ، حيث تحصر التّواصل في التفاعل بين طرفَي الاتصال بقولها: يعتبر التّواصل تبادلاً تفاعلياً بين شخصَين على الأقل، ويتمّ عبر استعمال علامات لفظية وغير لفظية، ويتناوب الأشخاص على إنتاج واستقبال الرّسائل. 
فالتواصل في نظرة الإنسان العادي، ليس سوى عمليات يومية معتادة، بينما هو في نظر العالم المتبصّر، عملية بالغة التعقيد، تتأثّر بالحيثيّات المحيطة بالوضعيّة التّواصلية، حيث تتداخل عوامل نفسية واجتماعية ومعرفية لتصوغ العملية التّواصلية وتتحكّم فيها. ويبقى جوهر الاتصال هو العمليّة، أو الطريقة التي ينتقل بها الفكر والمعلومات وغيرها بين من يقوم بإصدارها والتّعبير عنها وبين من يتلقّاها، وما ينتج عن ذلك من تفاعل وتواصل وتغيّرات تختلف باختلاف النّسق الذي تتمّ فيه العملية.

2- أهداف التّواصل اللّغوي
إنّ النّاس في محادثاتهم وتواصلهم اليومي يرومون من وراء ذلك تحقيق أغراض وقضاء حاجات تتنوّع تبعاً للوضعيّة التّواصلية وللأطراف المتواصلة. واللّغة هي التي تحقّق غايات التّواصل وأهدافه، ومن بين تلك الأهداف:
< الاكتشاف: حيث يكتشف الإنسان ذاته والعالم المحيط به، ولقد لخّص العالم كلينك Kleinke  هذا المفهوم وأهميته بقوله: إنّ الوعي بالذات هو قلب كلّ تواصل. 
< الاقتراب والتّقارب: ويتحقّق من خلال ربط علاقات حميمة مع الآخرين وصيانة هذه العلاقات وتقويتها.
< الإقناع والاقتناع: يقول رفيق لبوحسيني: «قد يتوهّم الواهم أنّ هذا الهدف يتحقّق خصوصاً في المجال التجاري أو الحقوقي، إلا أنّه مصاحب للسلوك الإنساني في كلّ تفاصيل حياته، القائمة على تبادل المصالح عبر قناة التفاوض، وتمارس عمليات الإقناع في المجالات التالية عالم الأفكار وعالم المعتقدات وعالم السلوكيات والحالات». 

ثانياً: عناصر الاتصال اللغوي ومكوّناته
من الأساسيّات المهمّة لفهم الاتصال معرفة أنّه عملية مستمرة، فالنّاس لا يفكّـــرون في ما كانوا يتّصلون بشأنه بعد انتهائه فحسب، بل إنّهم يفكّرون فيه أثناء الاتصال وقبل الاتصال. 
    وتتألف عملية التّواصل من مجموعة من المكوّنات نذكر منها: 
< المرسل/ المتّصل (Source): وهو الفرد الذي يؤثّر في الآخرين بشكل معيّن، وهذا التأثير ينصبّ على معلومات أو اتجاهات أو سلوك الآخرين.
<  الرّسالة (Messag): وهي المعلومات أو الأفكار أو الاتجاهات التي يهدف المرسل إلى نقلها إلى المستقبل والتأثير فيه.
< المستقبل (Receiver): يمثّل الجهة أو الشّخص الذي يقع عليه فعل الإرسال. وفي أغلب الحالات يكون الشّخص مستقبلاً ومرسلاً في الوقت نفسه.
< بيئة الاتصال والسّياق الذي يتمّ فيه communicacional environment and context: تشمل كلّ الظروف المحيطة بعملية التّواصل، ظروف الزّمان والمكان، والعوامل الثقافية والاجتماعية والنفسية. 
< عناصر التّشويش noise or interference: يدخل في هذا الإطار كلّ ما يعوق عملية التّواصل، وكـــــلّ ما يحــــول دون أن تتمّ هذه العملية في أحسن الظروف، كالضّجيج أو الارتباك النّفسي الذي قد يحصل لدى المرسل أو المستقبل أو التأويل المختلف لمعاني الإشارات الواردة في الرّسالة. 
< قناة الاتصال الحاملة للرّسالة (channel ormedium): هي الوسيلة المعتمدة لنقل الرسالة وقد تكون تلفزة أو إذاعة أو هاتفاً أو شخصاً. 
< رجــــع الـــصّدى، التّـغــــذية الــراجـــعة (Feedback): ويقصد به ردّ الفعل الذي يقوم به المستقبل. ففي الحالة التي لا يسجّل فيها أيّ ردّ فعل نتحدّث عن عملية إعلام فقط وليس عن عملية تواصل.
< الصّياغة: تتمثّل في الكلمات المستعملة في الرّسالة، ونوعيّة الأسلوب، وشكل الرّسالة، وتتميّز عملية التواصل بكونها ذات طابع أخلاقي، وأنّ الفعل التّواصلي لا يمكن التّراجع عنه، إذ بمجرد أن ننطق بكلمة فإنّ الفعل يكون قد انتهى. غير أنّه يمكن التّخفيف من آثار ذلك كالاعتذار عن إصدار كلمة جارحة في حقّ الآخرين.

ثالثاً: أنواع التّواصل اللّغوي
يتحدّد نوع الاتّصال بناء على عدد الأشخاص الذين يشتركون فيه، والعلاقة ما بين هؤلاء الأشخاص، والوسيلة المستخدمة وسرعة التّجاوب. وتبعاً لذلك فإنّ هناك خمسة أنواع من الاتصال: (الذّاتي- الشّخصي- العام- الجماهيري- الثّقافي). 
< الاتّصال الذّاتي (Intrapersonal Communication): يرجّح بعض العلماء اعتبار هذا النّوع من الاتصال تفكيراً ذاتياً يسبق الاتّصال، ومال آخرون إلى اعتباره اتصالاً ذاتياً بين الإنسان وذاته، وفي كلّ الأحوال يحدث هذا النوع من الاتّصال لكلّ منّا حينما نتحدّث مع أنفسنا، أو نخزّن معلومات جديدة، أو نحلّ مشكلة، أو نقيِّم. وبما أنّ الاتّصال يتركّز في داخل الإنسان وحده، فإنّه هو المرسل والمستقبل في الوقت نفسه. وتتكوّن الرّسالة من الفِكَر والمشاعر والأحاسيس، أمّا وسيلة الاتصال فهي الجهاز العصبيّ الذي ينقل الرّسائل إلى المخّ، الذي بدوره يترجم الفكر والمشاعر ويفسّرها، والذي يصدر رجع الصّدى، عندما يقلّب المرء الفِكَر والمشاعر فيقبل بعضها ويرفض البعض الآخر أو يستبدل غيرها بها. 
ويترجم هذا من خلال الاتصال الذاتي بالتّفكير في ما حدث من لحظات سعيدة، أو مشكلات نتج عنها خصام، أو توتّر في العلاقة مع الآخرين.
< الاتّصال الشّخصي (Interpersonal Communication): يحدث الاتصال الشّخصيّ حينما يتّصل اثنان أو أكثر مع بعضهم بعضاً عادة في جوّ غير رسمي، لتبادل المعلومات ولحلّ المشكلات ولتحديد التّصورات عن النّفس والآخرين وبدء علاقات جديدة مع زملاء أو أصدقاء جُدُد. 
ويشمل نوعَين رئيسَين، هما: الاتصال الثنائي، والاتصال في مجموعات صغيرة. 
< الاتصال العام (الجمعي)  Communication Public: في الاتصال الجمعي تنتقل الرّسالة من شخص واحد (متحدّث) إلى عدد من الأفراد (مستمعين)، وهو ما نسمّيه بالمحاضرة أو الحديث العام أو الخطبة أو الكلمة العامة. ويحدث هذا عادة من خلال المحاضرات الدّينية أو التوجيهيّة أو الحشود الجماهيريّة وكلمات التّرحيب والتّأبين. ويتميّز الاتّصـال الجمعي بالصّبغة الرّسمية والالتزام بقواعـد اللّغة ووضوح الصـّوت. ولا يمكن للمستمعين أن يقاطعوا المتحـدّث، وإنما يمكنهم التّعبير عن موافقتهم أو عـدم موافقتهم (بالتّصفيق أو هزّ الرّأس، أو بالإعراض عنه، أو إصدار أصوات تعبّر عن عدم الرّضا عن حديثه).
< الاتصال الجماهيري (Mass Media Communication): يحدث من خلال الوسائل الإلكترونية، مثل: المذياع والتلفاز والأفلام والأشرطة المسموعة والشّابكة (الإنترنت) والصّحف والمجلات والكتب. وتشمل وسائل الاتصال الجماهيري كذلك وسائط الاتصال المتعدّدة، كالأقراص المضغوطة والأقراص المرئية ونحوهما. 
وهذا يعني أنّ الرّسالــــة يقصــــد فيها الوصول إلى عدد غير محدود من النّاس. وبرغم كثرة استخدامنا لوسائل الاتّصال الجماهيري فإن فرص التّفاعل بين المرسل والمستقبل قليلة أو منعدمة في بعض الأحيان. وقد مكّنت الوسائل الإلكترونية الحديثة، مثل: آلات التّصوير الرّقمية ووسائل البريد الإلكتروني والهاتف المرئي ونحوها، من التّواصل بين النّاس على نطاق واسع، متجاوزة الحدود الجغرافية والسياسية وموصلة بين الثقافات المختلفة.
< الاتصال الثقافي (Intercultural Communication): الثقافة هي مجموع القيم والعادات والرّموز الكلامية وغير الكلامية التي يشترك فيها جمع من النّاس. وتتفاوت الثقافات في ما بينها في هذه القيم والعادات والرّموز وفق تاريخ الشّعوب وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما أنّ الثقافة الواحدة قد تكون في داخلها ثقافات صغرى. ويحدث الاتّصال الثقافي حينما يتّصل شخص أو أكثر من ثقــافة معيّنة بشخص أو أكثر من ثقافة أخرى. وحينئذٍ لابدّ أن يعي المتّصل اختلاف العادات والقيم والأعراف وطرائق التصرّف المناسب. وإذا غاب هذا الوعي، فقد يؤدي الاتّصال إلى نتائج سلبيّة.

رابعاً: شرط التّواصل اللّغوي – التّفاعل
تلعب البنية المادية للبيت أو الصّف الدراسي دوراً أساسياً في عملية التّواصل وتوقّعات الطفل، والمظهر البنائي للبيت أو للصفّ، وتعدّ من العوامل التي تؤثّر سلباً أو إيجاباً في العلاقة القائمة بين الأهل/المعلّم، وأطفالهم/ تلاميذهم، حيث نتوخّى من خلالها إكسابهم قدرات وكفايات لتمكينهم من تحقيق ذواتهم والانخراط في محيطهم وبلوغ الأهداف المطلوبة.
ولتحقيق التّواصل الفاعل يتطلّب توفير مبادئ، أهمها:
<  مبدأ الانسجام: ويتجلّى في رغــــبة الأهل/ المعلّم في جعل الطــفل/ التلميــــذ يشارك في الحوار والمناقشة في موضوعات محدّدة.
< مبدأ التّبــــادل المستمر: ويتجلّى في تصحيح الفارق بين الهدف والنتيجة التي حصل عليها في تحديد الهدف من النّظام أو المناهج بعد تحليل الحاجات والمنطلقات، وتنفيذ العمليات والمهمّات، وتقويم سير التنفيذ وآثاره ونتائجه.
< مبدأ الإدراك الشّامل: ينبغي الانتباه إلى ما يمكن أن يحسّ به كلّ طرف من أطراف العمليّة التّواصلية في خلق شموليّة تامة في التّواصل.
وأخيراً، التّواصل الفاعل يتطلّب ديناميّة الكلام والكتابة بتوافر عناصر رئيسة، تتلخّص في استعمال أسلوب متين ومنــــسّق يــــتميّز بحوار مفهوم وحيويّ، يمنح الفرصة للأطفال للمشاركة من دون الإحساس بالملل، ويمكّنهم من كسر الحواجز في ما بينهم، وبالتّالي يكسبهم مهارات الإنصات، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا باستعمال العلاقات والرّوابط المنطقية. ولإنجاح هذا التّواصل يستلزم استعمال لغات متعدّدة سمعــية وبصرية وحرفــــية تتكامل في ما بينها.