إيــران... من البيشدادية إلى الأشكانية

إيــران... من البيشدادية إلى الأشكانية

عاشت إيران تحت ظل حضارات عريقة قبل أن يسطع عليها نور الإسلام، وزحفت سيطرة حكامها إلى امتدادات فاقت بكثير مساحة الدولة، حيث قامت سياسة حكامها على التوسع في ضم أراضي الجوار، اعتقاداً منهم بأنّ ذلك يكرس للدولة الأمن والبقاء. وإذا أردنا أن نتحدث عن حضارة إيران، فسيكون هذا الحديث قد تجاوز الإسهاب، بسبب كثرة الدول التي تعاقبت في تلك المنطقة منذ الزمن البعيد، فمن الدولة البيشدادية: فالكيانية، ثم الميدية، بعدها أتت الدولة الأكمينية (الهخامنشية)، والدولة الأشكانية (البارثية) التي حكمتها الطوائف، وأخيرا الدولة الساسانية، وهي دولة الأكاسرة. لم تنج بداية التدوين للحضارة الإيرانية مما أصاب غيرها من الحضارات، حيث كانت الأساطير بداية للتأريخ وكانت الخرافة أصلاً لنشأة العظماء. 
وهذا ما حدث في المدونات البيشدادية، التي تروي بعض أقوال جيومرث، وهو أول ملك من ولد آدم حكم الأرض، وكانت إيران مستقر دولته. ثم جاء بعده ابنه هوشنج، الذي يذكره الفردوسي في «الشاهنامة» بأنه طرد إبليس وجنوده من الحواضر والمدن إلى الأماكن السحيقة ومنعهم من الاختلاط بالبشر، وهو من أقر العدل وحكم به بقوانين، فـــسمي الملك العادل (بيشداد). ويضيف الفردوسي، أنّ هوشنج هو أول من اكتشف النار من قدح الحجر، حين رمى الأفعى بحجر ولم يصبها، فاحتك بحجر قارها فاشتعلت من هذا الاحتكاك نار قتلت الأفعى. من هنا اعتُبرت النار عوناً من الله، فاحترمها الناس وقدروها بتخصيص يوم عيد لها (جشن سده) في العاشر من شهر بهمن، (30 يناير). وتشير المصادر إلى ارتقاء الحضارة البيشدادية وتطورها عن البدائية باستخدام أفرادها الصوف والشعر في صناعة الملابس، وتربية الدواجن والأنعام، واستخدام الحيوانات الأليفة، كالكلب في الحراسة والخيل في التنقل. كانت ديانة البيشداديين هي الوثنية، التي ابتدأت عندهم إثر إقامة تماثيل لرجال حكماء صالحين ماتوا إثر وباء اجتاح البلاد، وما لبثوا أن قدسوها ثم عبدوها. 
إلا أنّ حقيقة الإيمان واتباع الأديان تكمن دائماً في الإجابة عن سؤالين مهمين في عقل الإنسان: كيف بَدَأ الخَلْق؟ وماذا بعد الموت؟ وتقوم فلسفة الأديان أساساً على الإجابة عن هذين السؤالين المُحيرَين. ولا تقف الأساطير الإيرانية عند هذا الحدّ، بل تحدثنا عن عهد جمشيد، الملك الذي حكم بالعدل وعاش فترة طويلة. هذا الملك الذي كان يملك مرآة «جام جمشيد»، التي يرى فيها كل أحداث الدنيا، كما أمر الإنس والجنّ بأن يصنعوا له عجلة يحملها الجن لينقلوه لأي مكان في الدنيا، وقد كان له ذلك، فقطع مسافة كبيرة جداً في يوم واحد، اعتبروه عيدهم الأكبر «النوروز».
ثم جاءت بعد ذلك فترة يحكمها ملوك وُصفوا بالحكمة والعدل، كان يُطلق على الواحد منهم لقب «كي»، لذلك سميت حقبة هؤلاء الملوك بالدولة الكيانية، وكان أشهر أولئك الملوك هو «كي قباذ» و«كي كاوس» و«كي خسرو» و«كي لهراسب». تلك الفترة من الزمان تصادف أن تكون فترة السبي البابلي الذي قام به نبوخذ نصر لليهود، وأن تزامن أيضاً ظهور زرادشت، الذي من خلاله انتقلت الدولة. كان زرادشت من أصل ميدي لطائفة يُطلَق عليها «مُج» التي يسميها اليونانيون «مُجُوس»، الاسم الذي يطلقه العرب على القوم الذين يدينون بالزرادشتية. كان الإيرانيون قبل زرادشت يقدسون قوى الطبيعة المتنازعة من كيان واحد: الخير والشر، النور والظلمة، النار والماء، الشمس والقمر، الريح والعواصف، فجاء زرادشت بدين جديد يوحِّد عبادة ما أسماه الإله الواحد «أهورا مزدا». وفي عقيدة الزرادشتيين أن أهورا مزدا قبل أن يخلق الأكوان كان قد فكّر: ماذا لو زامن ذلك الخلق الجديد شرّ؟ ولأنّ فكرة الإله خَلْق، خُلِقَ عند الفكرة الشر. وأصبح الشرُّ يهدد الخير، كما يهدد الظلمُ العدْلَ أو كما يهدد الظلامُ النورَ.
كان لزاماً على المؤمن بهذه العقيدة أن يعمل بدأب لاستمرار الخير وديمومة النور بإشعال النار وإبقائها مستعرة دائماً لتبديد الظلام وتطهير النجاسة ونصرة إله النور على قوى الظلام.
أصبحت الفكرة الأساسية لدين زرادشت هي الثنائية أو «الثنوية» بين إله الخير «أهورا مزدا»، الذي يسميه المتكلمون المسلمون «يزدان»، وبين ملك الشر «أهرمن». ويأتي الرقم (7) العظيم ليشكل سراً كونياً مقدساً في هذه المنظومة، غير السماوات السبع والأراضي السبع، سبعة أيام، سبعة ثقوب في وجه الإنسان... وهناك سبعة ملائكة قدسيين يمثلون الفضائل السبع ويساندون قوى الخير: الحكمة والعفة والعدل والإخلاص والأمانة والحب والكرم. بينما يساند قوى الشر سبع رذائل: الخديعة والنفاق والخيانة والقتل والظلم والبخل والجبن.
وعندما أتى الميديون من السفوح المجاورة لقزوين جنوباً إلى فارس، وهم الذين شكلتهم بيئتهم وعاداتهم على الجَلد والصبر وضرورة الحرب، فأصبحوا باستيطانهم قوة هددت الحضارة العراقية في آشور، السبب الذي جعل العراقيين يكررون غاراتهم على الميديين حتى كادت حواضرهم تدمر، كان الميديون آنذاك لا يكادون يفقهون انكساراً، فجمعوا راياتهم تحت قيادة سباكزاروس الذي قام بغزو العراقيين ودمّر نينوى تدميراً. إلا أنّ مُلك الميديين لم يدم طويلاً، لما آثر الميديون النعيم بدلاً من الحرب وغرّتهم حياة الترف والبذخ، التي تُعَجِّل بسقوط الحضارات. كان دمار نينوى قد أدى إلى تحرر فارس وشعبها من وطأة السيطرة الآشورية. قوم من المزارعين من أصول آرية يُطلَق عليهم «الهخامنشية»، نسبة إلى جدهم الأكبر هخامنش، استطاعوا أن يشكلوا دولة لهم، أصبحت دولة عظمى بفضل حكامها الأقوياء، من كورش الأكبر, وبعده ابنه قمبيز إلى داريوش. وفي المدة التي حكم فيها هؤلاء، وجد الشعب الإيراني الآري فرصته لنشر ثقافته المتحضرة والقضاء على الهمجية والظلم بصورة عامة. ونتيجة لذلك نشأت إمبراطورية قائمة على قوانين عامة مدونة، تُطبق على جميع أرجاء الإمبراطورية وطبقات الشعب كافة.
كان من أهم مميزات الدولة الأكمينية (الهخامنشية) إطلاق الحريات واحترام العقائد والأديان ونصرة المظلوم، حتى ظنّ كثير من العلماء والمؤرخين المسلمين أنّ «ذا القرنين» الوارد ذكره في القرآن الكريم هو كورش الأكبر. لقد جال كورش الأكبر الدنيا شرقاً وغرباً، ناشراً السلام في طريقه، حتى وافته المنية مقتولاً، فاعتلى ابنه قمبيز سدة الحكم وعرش الدولة. ركز قمبيز دعائم حكم أبيه، ومدَّ نفوذ دولته حتى مصر، وفي عام 525 ق.م، سقطت عاصمتها ممفيس بيده. بلغت الإمبراطورية الإيرانية قمة توسعها في هذه المرحلة، فامتدت من وسط آسيا إلى هضبة الأناضول، فضمت شرقي المتوسط، من سورية إلى مصر، وسيطر داريوش على العراق بعد أن تولى الحكم عقب قمبيز. وقد قام داريوش بالحفاظ على الأراضي التي سيطر عليها قمبيز، خاصة مصر، التي زحف إليها لإخماد الثورة التي قامت ضد حكم إيران لمصر. لم تستمر الحال على ما هي عليه، فها هو الإسكندر المقدوني يزحف بجحافله شرقاً، ويأخذ تحت رايته كل مدينة غصباً، وكلّها مدن فارسية. وبعد أن قُتل داريوش عام 330 ق.م، تداعت الدولة الأكمينية وبدأت ولادة دولة جديدة، أُطلق عليها الدولة الأشكانية (البارثية)، نسبة إلى إقليم بارثا، الذي ظهرت الأسرة الأشكانية منه لتحكم المدائن وفارس ومعظم بلاد العراق. كان أولهم في سلطة الحكم هو أقفور شاه، وكان آخرهم هو أردوان بن بهرام، الذي قتله أردشير بن بابك، لتبدأ بذلك سلسلة جديدة عُرفت في التاريخ باسم الدولة الساسانية، وهي دولة الأكاسرة، التي سنتحدث عنها في العدد المقبل.