الأغنية العربية في ظلال العولمة.. الإبهار المرئي والتراجع النوعي

الأغنية العربية في ظلال العولمة.. الإبهار المرئي والتراجع النوعي
        

          يشهد عصرنا الراهن أوسع ثورة في العلم والتكنولوجيا والاتصال، وقد انعكست تأثيرات هذا التطور المتسارع في إعادة تشكيل ملامح حياتنا وبمختلف جوانبها من حيث القيم والأفكار والذائقة والسلوك، الأمر الذي أدى إلى حدوث متغيرات كبيرة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لاسيما بعد انهيار حدود الزمان والمكان، وتحقق حالة الاختراق والتواصل بفعل وسائل التقنيات الحديثة والشبكات المعلوماتية الفائقة القدرة في التبادل والانتشار والسيطرة والتحكم فيما ينتج من قبل مالكي وسائل الاتصال وما يرغبون في إنتاجه وتسويقه إلى المستهلك.

          تعاظم دور الإعلام المرئي في صياغة الأبعاد الجديدة لعالمنا الحالي نتيجة الهيمنة لثقافة الصورة، وبمختلف أشكالها وأساليبها التي أعادت بناء الواقع عبر إمكاناتها الفائقة. وتشكل الفنون المرئية وفي صدارتها القنوات التلفازية الركيزة الأساسية في البنية الإعلامية المعاصرة نتيجة لدورها الفاعل في صياغة العقول وتوجيه السلوك البشري سلبا أو إيجابًا تبعًا للأهداف المنشودة فكريا وجماليا.

          لقد مر التطور الاتصالي بمراحل عديدة بدأ بالبث الإذاعي، وصارت الإذاعة المسموعة وسيلة اتصال جماهيرية، وقد كان فيها نصيب الأغنية والموسيقى الشيء الكبير من نسبة البث حيث الاعتماد الكلي على مصدر الصوت والاستماع، وبعد اختراع فن السينما مع بداية القرن الماضي حيث دخلت الموسيقى لتصاحب الصورة السينمائية وتمنحها أبعادا تعبيرية مضافة، لاسيما بعد تطور صناعة الفيلم وتحوله إلى المرحلة الناطقة، ثم تنوع الإنتاج السينمائي وانتشاره بفعل الإقبال الكبير من الجمهور وزيادة الإنتاجات الضخمة والمشوقة ومنها الأفلام الغنائية والموسيقية، حيث اجتاح الفيلم صالات السينما العالمية، وفرض حضوره على شاشاتها وترسخ هذا الفن وأصبح له تقاليده ومهرجاناته وجوائزه ونجومه ولايزال.

          وفي العقد الثالث ظهر التلفزيون بعد عدة تجارب تقنية، وبدأ الإرسال التلفزيوني عام 1939 لأول مرة.

          وساعدت تقنيات الصناعة الإلكترونية التي تم تطويرها على تجاوز مشكلات إنتاج أجهزة الاستقبال المرئي إضافة إلى حالة الانتعاش الاقتصادي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مما زاد الرغبة في امتلاك هذا الجهاز من قبل ملايين البشر لاسيما بعد أن أصبح نطاق التغطية بالإشارات التلفزيونية يمتد في أنحاء العالم خلال مطلع الخمسينيات، وبهذا استمرت معدلات الزيادة والانتشار والاستخدام للجهاز المرئي بنسبة كبيرة بعد أن تحول إلى وسيلة ممكنة في متناول الناس، وتواصل هذا الانتشار في المراحل اللاحقة حتى بلغ أوج حضوره في خضم الثورة التقنية، وانتشار الأقمار الاصطناعية وازدياد عدد القنوات الفضائية بشكل لافت للنظر. كل هذا أدى إلى تطوير الإمكانات الفنية لهذا الجهاز، لاسيما بعد اندماج شركات الكابل التلفزيوني الكلرى التي تتحكم وتسيطر وتمتلك مفاتيح تقنية المعلومات والاتصال، فاندماج وسائل الإعلام ووسائل الاتصال وشركات الكمبيوتر في صناعة واحدة، أحدث ثورة حقيقية في عالم الصورة، وفعلا تحولت معظم التوقعات والأحلام التي كانت تراود الخبراء واصحاب الشركات والمنتجين إلى حقيقة ملموسة، فها هي الأجهزة الحديثة التي جاءت بها التكنولوجيا الرقمية والألياف البصرية والكابل التفاعلي والقنوات المزدوجة ذات الاتجاهين وغيرها من الاختراعات التي جعلت فضاءاتنا مفتوحة أمام هذا المد الصوري الذي بات يداهمنا في كل مكان وزمان، إننا نحيا عصر التلفزيون بجدارة، وهكذا استطاع التلفزيون بفضل إمكاناته الشامله أن يرسخ وجوده ويترك بصماته الواضحة على نوعية المادة التي يقدمها حيث استطاع وفي فترة قياسية أن يمتلك لغة تعبيرية خاصة به، وقدرة اتصالية عالمية واسعة، الأمر الذي جعل منه أن يكون في صدارة وسائل الاتصال التي استفاد من جميع إمكاناتها ليوظفها لمصلحته، ويحصد هذا التأثير والسحر على المشاهدين ويشدهم ليكون ضيفا دائما في كل بيت محققا بذلك الشعور الجمعي الذي يؤدي بدوره إلى التقبل العقلي والذهني، بما يقدم من برامج متنوعة ومنها الأغاني والموسيقى التي نالت الاهتمام الأكبر والإقبال الأوسع من جمهور المشاهدين.

منجز الأغنية العربية إلى اين؟

          لقد حققت الموسيقى والأغنية العربية منجزا كبيرا أصبح اليوم يشكل تراثا زاخرا بالعطاء والمواهب الخالدة التي استطاعت أن تثبت حضورها وتضيف إلى التراث الثقافي العربي شئيا ذا قيمة وإبداعا.

          فعلى صعيد الموسيقى نجد أن هناك العديد من المؤلفات والمقطوعات الموسيقية الكلاسيكية الرائعة التي توزعت على قوالب متنوعة منها التقاسيم، السماعيات، البشارف، تلك التي أبدع العرب والأتراك في انجازها تأليفا وأداء.

          وقد برز العديد من الفنانين الذين تركوا بصمات واضحة في نهر الإبداع الكبير وهم يشكلون جيلا متميزا، ونذكر على هذا الصعيد أسماء لامعة أمثال: إبراهيم سهلون، علي صالح، أمين بوزري، سامي الشوا، محمد العقاد، محمد عمر، عبدالحميد القصابي، مصطفى رضا، إبراهيم العريان، محمد سويسي، على الدرويش، توفيق الصباغ، شحادة سعادة، محمد القصبجي، أمين المهدي، علي الرشيدي، محمد عبده صالح، محمد عطية، ... وغيرهم وفي المرحلة اللاحقة توالت الأعمال الإبداعية وهي تقتفي أثر الجيل السابق لتؤكد استمرار هذا العطاء وتطوره جيلا بعد آخر، فتواصلت أسماء مثل محمد عبدالوهاب، رياض السنباطي، فريد غصن، فريد الأطرش، جميل عويس، فاضل الشوا، جورج ميشيل، محمود العجان، عبدالرحمن الجبقجي، أحمد فؤاد حسن وآخرين إن هذه الأسماء وغيرها تمكنت من إثراء الوسط الموسيقي بأعمال متميزة نتيجة امتلاكها الموهبة الحقيقية والخبرة والبحث المتواصل والجهد الدؤوب والاطلاع على التراث السابق، وما أنجزه الآخرون بغية التجديد والتجاوز والإضافة. ولو أردنا تفييم هذا المنجز خلال فترة القرن السابق وأوائل القرن الحالي لوجدنا أن هذا العطاء يتوزع على الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين، ويقف وراء ذلك عديد الفنانين الذين ستبقى أسماؤهم حاضرة في الذاكرة رغم تقادم الزمن أمثال: زكريا احمد، محمد عبدالوهاب، رياض السنباطي، محمد القصبجي، أم كلثوم، ماري جبران، فتحية أحمد، مدحت عاصم، أسمهان، فريد الاطرش، ليلى مراد، نور الهدى، عباس البليدي، محمود الشريف، كمال الطويل، كارم محمود، محمد الموجي، محمد فوزي، فائزة احمد، محمد عبدالمطلب، بليغ حمدي، عبدالحليم حافظ، أحمد عبدالقادر، نجاة الصغيرة، ناظم الغزالي، صباح فخري، سليم الحلو، سعاد محمد، فيروز، الأخوين رحباني، حليم الرومي، فيلمون وهبة، وديع الصافي، توفيق الباشا... وغيرهم.

          إن هذه الأسماء وغيرها ساهمت في ترسيخ أسس الأغنية العربية وجعلتها تتبوأ مكانة راقية في مصاف الفن الجاد والملتزم بقضايا الإنسان وتطلعاته، إلا أنه ومع نهايات الجيل الثالث الذي مر ذكر أصحابه، بدأت أزمة الموسيقى والأغنية العربية تلوح في الأفق رغم تضخم الوسط الفني بأعداد كبيرة من المغنين والشعراء والملحنين والمنتجين والموزعين وما إلى ذلك، ومع مرور الوقت أخذت الأغنية العربية تفقد ذلك البريق وتنحو باتجاه الاستسهال واستعجال الظهور والبحث عن منافذ الشهرة بأية وسيلة، وبهذا الوضع تسللت إلى الوسط الموسيقي والغنائي أعداد كبيرة من محدودي الموهبة وضعاف الثقافة والخبرة، إذ انحسر مجال المنافسة وتراجع مستوى الرقابة والدقة في الاختيار والبحث عن المواهب والطاقات الإبداعية، كما تم تجاوز تلك الشروط والقواعد التي كانت سائدة في اكتشاف الموهبة وصقلها وتطويرها لتكون فعلا قادرة على العطاء والإضافة والتمييز في وسط ثقافي ليس من السهولة الوجود فيه والتواصل معه دون فعل حقيقي ملموس.

          ومع الانفتاح على الثقافة الغربية بفعل ثورة التلفزيون، وتحت مبدأ مسايرة الجديد الوافد، بدأت مرحلة أخرى في منهج الغناء والموسيقى العربية، إذ أثرت بعض الصرعات الغربية التي اجتاحت أمريكا وأوربا مثل موسيقى البلوز و (الروك اند رول) وصولا إلى الراب أو الهيب هوب، وقد اعتمدت هذه الأنماط الإيقاعات السريعة والرقص والموسيقى المتقطعة التي يرافقها الكلام والتعبير، يساندها في ذلك شيوع الموسيقى الإلكترونية ومكبرات الصوت والضجيج الهائل. الأمر الذي انعكس على واقع الأغنية الجديدة وأدخلها في مسالك غريبة وهجينة أفقدتها هويتها وعمقت أزمتها، فأصبحت مجرد خلطة لاهي شرقية ولا غربية ولا رابط بين أجزائها سوى الشكل والتقليد، وسرعان ما انتشرت هذه الأغاني بفعل عوامل الترويج المتاحة والدعاية الكبيرة لإعلان ما أطلق عليه بالأغنية الشبابية التي امتدت إلى أنحاء الوطن العربي لتمارس سطوتها في إفساد الذوق وفرض قيم جديدة تنافي المبادى والأصالة والذوق والأخلاق والثقافة العامة، وتعمل بذلك قطيعة مع تراث الأغنية العربية ومنجزها الرائع الذي أدركه النسيان من قبل الأجيال الجديدة، وبات بحاجة إلى المراجعة وإعادة نظر من الجميع.

الأغنية والشاشة الصغيرة

          لقد أخذ التلفزيون الكثير من تقاليد الإذاعة المسموعة، وكذلك فن السينما، وقد استحوذت الأغنية على جانب كبير من البرامج التي يقدمها، بحيث انفردت بذاتها لتصبح إنتاجا مستقلا بعد أن كانت متضمنة في بنية الحدث السينمائي، وتشكل نسيجا مع حبكة الحكاية ومضمون الفيلم.

          ومع تطور التلفزيون ازداد الطلب على الإنتاج الموسيقي والغنائي لاسيما أن معظم البرامج تستند في مادتها إلى توظيف الموسيقى والأغنية، إلى جانب البرامج التي تختص بتقديم الأغاني وتلبي طلبات المشاهدين، وأحيانا كان التلفزيون يقوم بنقل الحفلات الغنائية مباشرة من أماكن تقديمها بطريقة النقل الخارجي أو يتم تسجيلها داخل الاستوديوهات المخصصة لذلك، ومع مرور الوقت تضاعف الطلب وازداد الإقبال على الأغاني المقدمة عبر الشاشة، لاسيما بعد ظهور ما يسمى بـ (الفيديو كليب) الذي يعد أحدث أساليب إنتاج الأغنية الجديدة، وما طرأ عليها من تغيرات على مستوى الشكل والمضمون والوظيفة وانتهاء بالعلاقة مع المتلقي. إذ بدأت الأغنية العربية تعاني الأمرين، فقد تراجعت من الناحية الموسيقية ولم نعد نسمع تلك الأعمال الكبيرة إلا ماندر من الموسيقيين ممن يعتمدون التكنيك والبراعة والتجديد في العزف، وكذلك الحال بالنسبة للألحان السائدة، وكذلك تراجع مستوى الأداء الغنائي إثر عملية الاستسهال التي باتت تمارس وتنشط من قبل العديد من المنتجين وأصحاب الشركات والمتطفلين على الوسط الموسيقي والغنائي تحت ظل مايسمى بأغنية الفيديو كليب. سنحاول هنا إلقاء الضوء على دور الفيديو كليب وأنواعه وأساليب إنتاجه وترويجه وأثره على الأغنية العربية ومستوى جودتها كفن إبداعي واتصالي.

بدايات أغنية الفيديو كليب

          كانت أولى مراحل ظهور الفيديو كليب في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، إذ دخلت الأغنية التلفزيونية مسارًا جديدًا بعد أن كانت فنا قائما بذاته، وكان إنتاج الأغنية يعتمد على تضافر جهود أقطابها الأساسية الشاعر، الملحن، المطرب، وقد أثمرت هذه الجهود عن إنجاز عديد الأغاني التي تتوافر على الشروط التي تجعلها فنا يرتقي بذائقة المستمع، وكانت تقدم هذه الأغاني في الحفلات على المسارح وبحضور الجمهور أو عبر الإذاعة المسموعة، وحين جاء التلفزيون اختلفت طرق الإنتاج الغنائي، وأصبح التحكم يتم من داخل الاستوديو بفعل القفزة التقنية التي وظفت للتلاعب بدرجة الصوت وفلترته والتصوير بحضور المطرب والفرقة الموسيقية، حيث أتاحت التقنية إمكانات التصوير والتقاط الصورة من زوايا مختلفة وبلقطات متنوعة من شأنها أن تبرز دور اللحن من خلال العازف الموسيقي، إلى جانب أداء المطرب وتفاعل الجمهور لاسيما في الحفلات العامة, ولكن النقلة الكبرى والتطور اللافت جاء بفعل دخول الفيديو كليب وانتشاره بسرعة في مجال الإنتاج الغنائي، إذ دخلت الأغنية ضمن مفاهيم جديدة ومختلفة وأصبح التأكيد على الشكل البصري أهم من عناصر الغناء الأساسية، وما ساعد على ذلك هو الأجهزة التقنية والكاميرات الحديثة وتطور وسائط العرض المتعددة الأغراض (الملتيميديا) وإمكاناتها الكبيرة للتحكم والسيطرة على مجمل مراحل الإنتاج، وبذلك تراجع دور أقطاب الأغنية التقليدية وانتقل زمام الأمور إلى الشركات المنتجة التي بدأت تفرض شروطها وفقا لمفاهيمها وأهدافها، وبذلك وظفت الإمكانات والوسائل لمزيد من أعمال الفيديو كليب التي أضحت ظاهرة شائعة انتقلت إلينا من خلال التقليد للإنتاج الغربي الذي صرنا نستهلكه ونجاريه عبر الانغماس في تجاربه المختلفة، بما فيها تلك التي لاتمت بصلة لتقاليدنا وهويتنا وأصالتنا.

          شأنه شأن العديد من الظواهر الاستهلاكية الأخرى التي صارت تحاصرنا بفعل استخدام وسائل الجذب والإشهار والصور المرئية التي ننفعل بها ونتأثر، لتكون ردود أفعالنا مزيدا من الانغماس في اتون السوق الاستهلاكية والتقليد للآخر والبحث عن الوافد والغريب تحت حجة التجديد والتحديث ومواكبة العصر.

الأغنية وأنواع الفيديو كليب

          لو نأتي أولا إلى دلالة التسمية ونتناول كلمة (كليب) التي تعني باللغة الإنجليزية أكثر من معنى، ولكن ما نحن بصدده هو عملية القص والتركيب للقطات المنفصلة التي يتم تصويرها ثم يعاد تجميعها عبر عملية التوليف أو (المونتاج)، وهناك عدة نماذج للفيديو كليب يمكن تقسيمها إلى مايلي:

          1- الفيديو كليب العادي، حيث يكون الجو العام عبارة عن وجود المغني منفردا أو مع فتاة جميلة، وفي الخلف هناك مجموعة من الراقصات أو الراقصين يشكلون خلفية المشهد، وهذا هو من الأنماط التفليدية المألوفة وسهلة التنفيذ.

          2- الفيديو كليب الدرامي: وهو النوع الذي يشتمل على وجود حدث لحبكة درامية أو حكاية تجسد عبر أحداث مصورة، يكون بطلها المغني، غالبا بصحبة شخوص وتكون إحدى الفتيات الجميلات هي الشخصية الرئيسية التي يرتكز عليها تطور الحدث الدرامي، ويتطلب هذا النوع مشاهد عديدة وانتقالات مكانية متنوعة، إضافة إلى تحضيرات واختيار لمواقع التصوير وأداء تمثيلي لإيصال أفكار الموضوع الذي يعالجه الفيديو كليب.

          3- الفيديو كليب المستقل: تكون اللقطات المصورة هي الركيزة الأساسية لهذا النوع، حيث يقوم المخرج باختيار لقطات مصورة وغالبا ما تكون وفق رؤيته وأحيانا تكون لقطات مجردة لاعلاقة لها بمضمون الأغنية وكلماتها سوى أنها تشكل إطارًا جماليا للمؤدي.

          ورغم هذا التنوع والانتشار لأغنية الفيديو كليب فإن السؤال الأهم والضروري حول ذلك، لابد من طرحه هنا لنقول: هل استطاعت أغنية الفيديو كليب أن تكون أداة ووسيلة للتعبير عن الواقع؟ وهل اتخذت مضامينها وألحانها وأداؤها سبيلا للوصول إلى جوهر الإنسان العادي؟ أم ظلت في برجها العاجي؟

          غالبا ما تكون أجواء أغاني الفيديو كليب أجواء خيالية مصطنعة وعوالمها متخمة بكل ما هو نادر وصعب المنال إلا لاؤلئك الذين أقبلت عليهم الحياة من أوسع أبوابها، فتشاهد السيارات الفارهة والمطاعم الفاخرة والتصوير في الأماكن السياحية، حيث الراحة والاستجمام وركوب الزوارق والحسناوات وكل أجواء الرفاهية، إضافة إلى مجاميع من الراقصين ممن يحيطون بالمغني وصديقته ليكونا مركز الأنظار وبؤرةالعدسة، فهل هذا يمت بصلة للواقع وللناس البسطاء وهمومهم؟

          وتنوع الفيديو كليب وصار أكثر انفتاحا، وبدلا من الاعتماد على الفرق المحلية تحول إلى استقطاب الفرق الأجنبية، تلك التي تتقن الحركات التعبيرية وتتوافر على وجوه أكثر جاذبية وجمالا، حيت إن هاتيك الجميلات لايترددن عن القيام بأداء الحركات والأفعال التي تكون أكثر جرأة في التعبير، وصرنا نشاهد لقطات ومواقف أكثر إيحاء وإباحية وإغراء، وصارت هذه الأعمال تصور في عواصم غربية وأماكن سياحية محتشدة بالناس، ليكون المغني مثلا في شواطىء الريقيرا الفرنسية، أو على جسر المسيسيبي أو فينيسيا أو في ساحات بك بن وشوارع لندن أو روما أو أمستردام. لقد أصبح الفيديو كليب أكثر أمانة للشكل الغربي ولكن بلا روح أو إحساس بهذا الواقع المغرب والمصطنع، والذي لايتلاءم مع مضمون الأغنية، وبالتالي يكون العمل مجرد مشاهد ولقطات لمناظر تشد الانتباه وتبعد التركيز عن الكلمة واللحن والأداء، ولم يتبق من الإنتاج الفني سوى مايشبه الريبورتاج السياحي الذي يصلح أن يقدم في برامج منوعة.

الفيديو كليب والإبهار البصري

          من خلال الأنماط السائدة للأعمال الغنائية المنفذة بأسلوب الفيديو كليب أصبح الجانب الشكلي يتخذ محورا مهما على حساب جميع العناصر الأساسية التي تشكل مقومات الأغنية في أي زمان ومكان، فانتشار نمط الفيديو كليب ودخوله عالم التجارة والربح مهد لظهور وتقديم أي نوع من الغناء، حيث إن الحالة السائدة باتت لاتحتاج إلى مزيد من التفكير والجهد، فالطبخة جاهزة وكل شيء مرتبط بالثمن المدفوع وإمكانات المغني أو جهة الإنتاج، لذا كل شيء ممكن التنفيذ، كالتصوير في غرفة صغيرة ومكان محدد أو في فضاءات مفتوحة، تحت الماء، أو في الأبراج العالية، المهم في كل ذلك هو صياغة الشكل أولا وتطعيم المشهد بالمقبلات اللازمة مثل: رقص وحركة وإغراء ثم يأتي دور التصوير والقطع والانتقالات السريعة تلك التي يؤكدها التوليف، لتكون سرعة عرض الصورة متوائمة مع الإيقاع السائد في الأغنية.

          إن القائمين على إنتاج الفيديو كليب وجدوا فيه وسيلة سهلة للربح لاسيما والطلب يزداد بإلحاح يوما بعد آخر مع وجود هذا الكم الهائل من الأصوات التي انضمت لقوافل انصاف المؤدين، والذين لاهم لهم سوى الظهور والانتشار بأي ثمن وأية طريقة، لقد بات إنتاج الفيديو كليب لايستغرق الوقت الكثير، فالأمر لم يعد إلا لحنا بإيقاع صاخب تتخلله نغمات من آلة الاورج والطبلة و اهتماما بالشكل العام لتعبئة فضاء الصورة بحشد من الراقصات واختيار إحدى الصبايا الجميلات لتكون الركيزة الأساسية في بنية المشهد وكي تقاسم المغني اقتناص العدسة.

          وفي هذا الصدد نحن لسنا ضد وجود المرأة أو توظيف حالة التعبير في الفيديو كليب ولكن اعتراضنا يكمن حول أسلوب توظيف جسد المرأة ليكون وسيلة وغاية، فهي غالبا ماتكون مجرد شيء تكميلي لرفاهية الرجل وتجميل الشكل العام للصورة. وهذا المشهد بات سائدا في كثير من الأعمال الغنائية في التلفزيون، والهدف المنشود هو تكوين مزيد من الإبهار المرئي والتركيز على كل مايمس الجانب الغرائزي للمشاهدين لاسيما الشياب والمراهقين وليس أفكارهم، وتقديم صورة مشوهة عن المرأة حيث لايتعدى وجودها سوى جسد يتلوى ورقص مبتذل وآهات تطلق وملابس فاضحة.

          إن هذا النمط من أعمال الفيديو كليب يساهم في إشاعة نوع من المفاهيم السلبية التي تندرج تحت عنوان الخداع وتجهيل المتلقي وإفساد الذوق وتوجيه إساءة بالغة للمرأة وقيمتها باعتبارها كائنا إنسانيا راقيا يقاسم الرجل جوهر الحياة، بل إنها باتت تشكل اعتداء صارخا ضد الفكر والوعي والثقافة والمشاعر.

          إن شركات إنتاج الفيديو كليب أصبحت اليوم هي مركز التحكم ببوصلة الموسيقى والغناء يساندها في ذلك هذا الكم الهائل من القنوات الفضائية العامة والمتخصصة، تلك التي تتنافس في عرض هذا النمط من الأعمال الهابطة بل صارت بعض القنوات الرسمية تروج هي الأخرى لهذه الأعمال، لقد تلاشت سلطة الفنان شاعرا كان أم ملحنا أم مغنيا، وأصبح هؤلاء مجرد أدوات تابعة لجهة الإنتاج يكتبون حسب الوصفة المطلوبة ويلحنون وفق المعايير السائدة، ويقوم المؤدي بمشاركة المجموعة تصوير المشاهد، كما تبتغي جهة الإنتاج والتي أصبحت تتحكم بالذوق والاختيار وفرض شروطها التي تتلاءم مع حاجات السوق والمتمثلة بإنتاج كمي وربح سريع، ومن أجل هذا صارت هذه الشركات لاتتوانى عن إظهار أغان هابطة بكلمات ركيكة وألحان ساذجة ومضامين سطحية بأشكال زخرفية ملونة على غرار أغنيات من نمط (الواوا، الدح، البرتقالة، ويمة عضتني العقرب... وغير ذلك).

          لقد ظلت الأغنية الأصيلة ولاتزال قائمة بعيدا عن هذا الشكل الإبهاري المضاف ولنا أكثر من دليل حيث ان هناك عددا من الفنانين لم ينجروا الى الفديو كليب لترويج أعمالهم ولكنها حافظت على جودتها وتأثيرها في أوساط الجمهور الذي انشد لها وتفاعل معها وراح يرددها وبحفظها، ولنا من أغاني السيدة فيروز أو صباح فخري أو وديع الصافي وعبدالوهاب الدوكالي ومحمد عبدة وعبدالله رويشد وغيرهم الكثير. ولكن لابد أن نكون منصفين ونستثني البعض من الأعمال التي نفذت بطريقة الفيديو كليب والتي توافرت على الجانبين حيث الجودة في الجانب الموسيقي والغنائي، وكذلك من ناحية الإخراج والمعالجة التلفزيونية وتضافرت فيها الجهود لتنتج عملا فنيا ناجحا، ولنا من أعمال الفنانة ماجدة الرومي وكاظم الساهر وصابر الرباعي وأخرين مثالا ونموذجا.

أي نوع من الفيديو كليب نريد؟

          لاشك أن الفيديو كليب هو احد معطيات التقنيات الاتصالية الحديثة وإن أحسن استخدامه سيكون عاملا مهما في ترويج الموسيقى والأغاني الراقية ويساهم في تطوير الذائقة الجمالية للمتلقي، فأي نوع من الفيديو كليب نريد؟

          إن الأغنية العربية تشهد اليوم تراجعا واضحا وتعيش وضعا قلقا، إذ إن هناك كما إنتاجيا كبيرا مقابل انجازات نوعية قليلة إن لم تكن نادرة، إذ صارت الأغاني تظهر اليوم عبر الشاشة، وسرعان ما تختفي وتنسى لتحل محلها أغنية أخرى، وهكذا تتوالى العملية وفقا لخطة إملاء ساعات البث الطويلة وتعبئة البرامج للقنوات التلفزيونية، كل هذا يجري وسط جو مشحون بالصراخ والحرية المنفلتة وغياب لسلطة الرقيب الثقافي، وأقصد هنا أن القائمين على إنتاج اغاني الفيديو كليب يحتاج معظمهم إلى ثقافة موسيقية تؤهلهم لاختيار الأفضل والأجود من بين هذا الكم الهائل من الأعمال، ولابد في ذلك من الاستعانة بالفنانين والأساتذة والمختصين بشئون الموسيقى والغناء كي نعيد تلك التقاليد العلمية والموضوعية في الإنتاج الموسيقى والغنائي، ولابد أن ننظر لتراث الموسيقى والأغنية العربية نظرة احترام وتقديس لما انجز من عطاء ثر لابد أن نعترف منه ونعرف الأجيال به، لذا لابد من موازنة بين ما يعرض على شاشاتنا من أغنيات معاصرة وتلك التي أصبحت تشكل إرثا خالدا في الذاكرة والتعريف بالأسماء الكبيرة التي قدمت لنا عصارة جهودها وتأريخها، وحري بوسائل الإعلام أن تولي الخطاب النقدي للموسيقى والغناء مساحات أكبر وذلك لنشر الثقافة الموسيقية والتعريف بعلم الموسيقى وأصول الغناء والمقام وتأشير مواضع الخلل والتأكيد على العناصر الإيجابية ونقويم التجارب والإضافات الجديدة والدعوة إلى التطوير والتواصل باعتبار ان الموسيقى هي جزء مهم من هوية الشعوب وثقافتها.

          صحيح أننا نشهد عصر الفضائيات، ونعيش عالم الاتصال السمعبصري، وهذا يتطلب منا أن نحسن التعامل مع هذا المارد الضوئي وأن نجيد صناعة صورة معبرة ونقدم فنا يحترم الذوق دون السقوط في فخ التسطيح والرداءة والابتذال الرخيص.

          إننا لايمكن أن نقف ضد التيار ولكن يتوجب علينا أن نعرف كيف نسبح فيه دون الانجراف مع أمواج مده العالية ودون وعي بما يؤول إليه.

          إن ظاهرة الفيديو كليب باتت تحاصرنا وتفرض وجودها وامتلكت سلطتها بقوة، ولكن نأمل أن يكون لهذه الوسيلة دورها الإيجابي في رفد الوسط الفني والثقافي والإعلامي بكل ماهو مفيد ونافع، ومن شأنه أن يضيف الجديد. إننا ننشد أغنية فيديو كليب تراعي مقومات الفن الجاد حيث بلاغة الكلمة وجودة اللحن وحسن الأداء إلى جانب الصورةالمرئية المعبرة والمختزنة بالدلالة والتأويل.

          ومن أجل هذا نكون مطالبين جميعا فنانين ونقادا وباحثين وإعلاميين ومثقفين ومنتجين ومؤسسات للعمل على إعادة الاعتبار للأغنية العربية والحفاظ على أصالتها وأن تتضافر الجهود لمزيد من العطاء الإبداعي الذي يمتلك شروط البقاء والتجدد والحوار الحضاري انطلاقا من أن الفن الراقي هو الأكثر تأثيرا وخلودا.
------------------------------
* أكاديمي عراقي مقيم في السويد

 

 

 

حسين الأنصاري