قصبة الجزائر.. جدران بيضاء وأبواب مشرعة على التاريخ

قصبة الجزائر.. جدران بيضاء وأبواب مشرعة على التاريخ

تبقى صورة «القصبة» عالقة في الذاكرة، بسبب رمزيتها وما تحيل عليه كفضاء خصب من معانٍ عميقة، مرتبطة بالمخيال الثقافي والحضاري للمجتمع. تلك الصورة التي رسختها «معركة مدينة الجزائر» عام 1957م، إبان الثورة التحريرية من نير الاستعمار الفرنسي. صورة الثوار الشباب كعلي لابوانت ونضال النساء كحسيبة بن بوعلي، واحتضان قاطنيها للثورة من كل الفئات والأعمار كالطفل عمر  ياسف، من خلال دعمهم غير المشروط ومساندتهم للثوار معنوياً ومادياً بكل ما توافر لهم من إمكانات. أولئك الثوار الذين جعلوا منها نقطة انطلاق، ومركزاً لتخطيط وتنظيم وتنفيذ العمليات النوعية ضد المستعمر الفرنسي. 

لا تزال مشاهد فيلم «معركة الجزائر» الذي أخرجه المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو عام 1966م، ماثلة في الذاكرة، هذا الفيلم الذي نال أرقى الجوائز السينمائية في العالم؛ كجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عام 1966م، وجائزة النّقد في مهرجان كان السينمائي في العام ذاته، ورشح إلى مسابقة أفضل فيلم أجنبي في حفل الأوسكار عام 1967م. كما أن بريق هذا الفيلم لم يخفت بعد، فقد حقق عوائد ومداخيل مالية معتبرة بعد عرضه عام 2004م في قاعات السينما في أهم المدن الأمريكية، حيث تهافت على مشاهدته جمهور كبير.
القصبة التي استعصت على الإدارة الفرنسية وعلى الجيوش الإسبانية، القصبة المتمردة، المنذورة للحرية وللفرح في أحلام قاطنيها، الممتطية ربوة المكابرة وعدم الخضوع وهي تطل بخيلائها وبكل حضورها الطاغي من علٍ على مباني العاصمة وأحيائها الممتلئة بالناس والزحمة والضجيج والصراخ وعلى خليج العاصمة، الذي لم يعرف الهدوء بسبب الغزوات والحملات العسكرية الأوربية المتكررة على المدينة، الإسبانية والفرنسية على وجه الخصوص.
القصبة التي تحيل على الفتوة والشهامة والنبل وقيم الرجولة والبطولة، في حكايات الجدات وسلوكيات أهلها ونبلهم مع القريب/الجار والبعيد/الضيف. القصبة المليئة بالأسرار والخيبات التي تنام خلف الجدران وأبواب الذاكرة الموصدة.
  القصبة التي تحفظ الذاكرة صورة مبانيها العتيقة بأبوابها التاريخية ونوافذها المشرعة على الحياة، ودروبها الضيقة، وأدراجها التي تستهوي الأطفال، ورهبة الأمكنة وبهجتها.

في مقهى طانطونفيل
   تضج الذاكرة بكل هذه الصور في مقهى طانطونفيل TANTONVILLE القريب من المسرح الوطني، والمفتوح على «السكوار» وباعة العملات الأجنبية الذين يقبعون في كل زواياه، وطاولات بيع التذكارات ومنتجات الصناعات التقليدية التي جادت بها أنامل الحرفيين والفنانين، والآتية من الجنوب الجزائري ومنطقة القبائل على وجه الخصوص، وحركة المشاة في كل الاتجاهات بسحنات وجوههم الصارمة أحياناً والشاردة طوراً والمتعبة تارة أخرى، والعربات بضجيجها وأبواقها، تختلط كل تلك المشاهد المحيطة بالمقهى مع الصور المتتابعة التي يعرضها شريط الذاكرة مع فطور الصباح ورائحة البن التي تملأ المكان. ونحن نطرق باب القصبة للولوج في معالمها وعوالمها التي أعطاها الزمن بعدا آخر، ندخلها آمنين ومحملين بصورة مدركة، ينهشنا الفضول لسبر أغوارها، ومقارنة المتوقع/المتخيل مع الحقيقي/الواقعي.

أبواب مشرعة على التاريخ
الأبواب تحيط بالقصبة من مختلف الجهات، حتى أضحت علامات بارزة تسهم في رسم حماها وحدودها، فالقصبة كحصن كان الداي يسكنه فيما مضى، تمتد مساحتها من «باب عزون» جنوبا إلى «باب الوادي» شمالا ومن «الباب الجديد» و«سيدي رمضان» غرباً إلى البحر شرقاً؛ وقد كتب المؤرخون والرحالة عن دخول الفرنسيين من «الباب الجديد» للاستيلاء على المدينة التي كانت محمية من ناحية الأرض بقناة تحيط بها، وبسور واحد ذي شرفات. أما «باب الوادي» الذي يقع شمال الجزائر العاصمة، فقد كان فيما مضى يؤدي إلى ضاحية يمتد طولها إلى حد بعيد، وبالقرب منه على القطعة الأرضية المحاذية للبحر أقيمت ساحة كبيرة للعرض العسكري. وقد كان نقل البضائع التي تصل إلى أبواب المدينة يتم على متن الحمير والبغال والإبل. وعند الخروج من «باب عزون» كان يتمثل سوق رئيس كان يأتي إليه سكان الريف والقبائل المجاورة بالمؤن المخصصة لتلبية الحاجيات الاستهلاكية لسكان العاصمة. وقد تم في القرن السادس عشر تحصين أسوار المدينة التي كانت لها خمسة أبواب أساسية: باب الصيادين، باب الدزيرة، الباب الجديد، باب عزون، والأهم باب الوادي، من قبل عروج وخير الدين بربروس.
إلى باب عزون ودار عزيزة
نقصد «باب عزون»، أو «زنقة العرائس» كما تحلو للعاصميين تسميتها. مبانٍ ذات معمار فرنسي وطراز كولونيالي، إنها القصبة السفلية، حيث المسافات الضيقة بين العمارات، استحالت إلى طاولات بطول الحي، تعرض كل أصناف العجائن التقليدية التي تشتهر بها المنطقة و«الكسرة»، ومختلف أنواع الحلويات، والخضر والفواكه، والمشروبات، والتجهيزات المنزلية، والألعاب والمفرقعات التي يقصدها الأطفال والفتيان لإلهاب مدرجات الملاعب، تشجيعا لفرقهم المحلية، كاتحاد العاصمة، ومولودية العاصمة، وشبيبة بلكور، وغيرها من الفرق الرياضية العريقة، التي تعتبر جزءاً من تاريخ المدينة والمكان. واحتفالا بليلة المولد النبوي الشريف، وكل ما يمكن أن يعرض أو يطلب. 
لا نكاد نجد موطئا لأقدامنا من زحمة الناس في هذه الشوارع التي ضاقت على اتساعها بالسلع والمعروضات. العرائس في العاصمة يقصدن هذا المكان، لأجل اقتناء كل لوازمهن وتجهيزاتهن من المحلات التي تلتصق ببعضها البعض، على طول الطرق التي تفصل بين العمارات والمباني.
يذكرنا سوق «باب عزون»  بحادثة وثَّقها الرحالة الألماني موريتس فاغنر (1813 - 1887)، في كتابه الذي ألفه في عام 1841م عن الجزائر بعنوان «رحلات في ولاية الجزائر في سنوات 1836، 1837، 1838»؛ حيث تعرض الرحالة فاغنر إلى وصف عملية الإعدام التي نفذت من قبل الفرنسيين على شاب عربي جزائري بباب عزون في 20 يناير 1837م. ولنترك فاغنر يروي لنا: «وقد جعلت ساحة الإعدام في المكان المذكور بقصد إثارة الرعب في نفوس المواطنين الذين كانوا يجتمعون في السوق.  وكان قد وجهت إليه تهمة التجارة بالبارود والثورة ضد الحكومة. فتقدم الشاب، وكان قد تزوج حديثاً، إلى المقصلة، منتصب القامة، مرفوع الرأس، لم يكن في خطاه ما يدل على أنه خائف، وألقى نظرة متحدية على الشاوش إبراهيم. ولما انتهى الترجمان من قراءة الحكم الصادر فيه، أقسم الشاب أنه بريء، ثم توجه إلى القبلة وأحنى رأسه، وصعد بعد ذلك بخطى ثابتة... وتم إعدامه بثلاث ضربات».
يظهر لنا السوق المغطى، الذي يرجع إلى العهد الاستعماري. نواصل مسيرنا إلى أن يقع نظرنا على «دار عزيزة»، وقد حولت إلى هيئة إدارية يقصدها المواطنون لقضاء مصالحهم. وهي الأشبه بالقصر، ويعود تاريخها إلى الفترة العثمانية في الجزائر، باحة كبيرة وسط الدار تلتحف السماء، تعلوها مجموعة طوابق، تطل عليها من خلال أقواس متلاصقة، يحيط بها الخشب من كل الزوايا، الفن والنقوش العثمانية تفيض من كل جوانبها، البلاط على ما اعتراه الزمن من حوادث، مازال يقاوم رغم إعادة ترميمه وتغييره في كثير من الأحيان، بسبب تلفه.
حاولنا اكتشاف بعض الغرف والصعود إلى السطح، لكن أعوان الإدارة رفضوا تلبية رغبتنا، بسبب التعليمات والأوامر الصارمة من قبل رؤسائهم في العمل. وفي سبيل تحقيق ذلك، يجب تجاوز جبل من البيروقراطية، لذلك اضطررنا للخروج من «دار عزيزة» بخيبة مؤلمة وبحسرة كبيرة على إهمال تراث إنساني عريق.

مسجد كِتْشَاوَة
في الطريق إلى «دار مصطفى باشا» وقع نظرنا على «جامع كتشاوة»، هذا الجامع المهيب المنظر، المثير للرهبة والاطمئنان في الوقت ذاته، والذي يعود بناؤه إلى الفترة العثمانية في تاريخ المدينة (بني بالضبط في عام 1794م)، وتؤكد أهم المراجع التاريخية أن مدينة الجزائر كانت تحوي أكثر من مائة مسجد في أواخر القرن الثامن عشر. الجامع حاليا يخضع إلى ترميمات حثيثة، لإعادة الحياة له كمعلم عريق، ولاستكشاف الزوار والسياح لماضيه العتيد، ولمحاولة بث الروح في كل الأمكنة والزوايا والفضاءات، وإحياء تراث تلك الأجواء والحركية التي كانت سائدة آنذاك. وهناك وصف مهم للمسجد من قبل المؤلفين  ليسور وويلد 
(E. Lessore and W. Wyld) في كتابهما النفيس «رحلة ظريفة في إيالة الجزائر»، الذي جمع بين النصوص والصور الحقيقية الموثقة للمعالم والمناظر التي رسمها المؤلفان في عين المكان في أثناء تنقلاتهما في عديد من المدن الجزائرية في عام 1933 ميلادي. وقد نقلا لنا في مؤلفهما عملية تحويل المسجد إلى كنيسة كاثوليكية، حين اغتصب من المسلمين عنوة سنة 1932 بأمر من القائد روفيغو (علماً بأنه استرجع في شهر نوفمبر من عام 1962م، بعد حصول الجزائر على استقلالها)، وحسب ما دوّناه في النص المرفق باللوحة التاسعة؛ فقد اعتبرا أن المسجد من أجمل مساجد الجزائر العاصمة، فالأعمدة التي ترتكز عليها القباب من رخام أبيض جميل، وكل قبة مزخرفة برسوم منقوشة في الجص نقشاً رائع الفن، وهناك آيات قرآنية مكتوبة بحروف منقوشة مذهبة بارزة من خلال خلفيات ذات ألوان مختلفة، تزخرف الجهات الأربع للقبة الرئيسة، والمحراب المخصص للإمام. وجوانب الجزء الأسفل من الجدار مكسوة بخزف مدهون. وتوجد كما هو الشأن في المساجد الأخرى حصائر وزرابي شرقية تكسو الأرضية كلها، والجزء الأسفل من الأعمدة والجدران التي يستند إليها المؤمن.

دار مصطفى باشا وقصر خداوج العمياء
عندما اقتربنا من دار مصطفى باشا التي تقع في القصبة السفلى، لاحظنا أن القصر تم تحويله إلى مقر للمتحف العمومي الوطني للزخرفة والمنمنمات وفن الخط. وأول انطباع لمن يشاهد القصر هو الانبهار بفن العمارة الإسلامية الرائع، إذ يعود بناؤه إلى عهد الداي مصطفى باشا عام 1798م. وقد أقام فيه هو وعائلته إلى غاية اغتياله في عام 1805م. وبعدها أقام فيه الداي أحمد، وفي أثناء النزول الفرنسي بالجزائر، أقام فيه أحد قادة الجيش الفرنسي، كما أقام فيه فيما بعد كبير صيادلة الحملة الفرنسية بالجزائر ابتداء من عام 1835م. وبعد ذلك عام 1848م تم منحه للكاتب العام للحكومة الفرنسية، وفي عام 1863 حولته السلطات الفرنسية إلى متحف ومكتبة. وقد أدرج في ديسمبر عام  1992م ضمن قائمة التراث العالمي من قبل اليونسكو. 
واصلنا سيرنا صعوداً، بدأنا نقترب أكثر من مباني قصبة الجزائر العتيقة والعريقة بطرازها المعماري الأصيل وهندستها الفنية المتفردة، وواجهة جدرانها البيضاء وأبوابها الموغلة في التاريخ ونوافذها المسنودة بأعمدة خشبية من أسفل، مما أعطاها منظراً مائزاً ومتفرداً. ونحن نصعد الدرجات إلى الأعلى تكاد تنطبق علينا البنايات والبيوت، لضيق المسافة الفاصلة بينها وقربها إلى حد أنها تكاد تتعانق. نغالب أنفاسنا، ونمسح قطرات العرق على جباهنا، ونواصل الصعود، لا مسلك لنا إلا الأدراج، فهي منفذنا لاكتشاف أسرار وخبايا الأمكنة والأزقة، والأحياء الفرعية والعيون، وكل ما تحفل به القصبة من بهجة وحضور. 
الانتقال بين أزقة وأحياء القصبة الفرعية ممتع ويتطلب مجهوداً ونفساً طويلاً لأنك في حالة صعود متواصل. وصلنا إلى «قصر خداوج»، الذي يقع  بالضبط في شارع محمد أكلي مالك، وهذا الحي كان يسمى في القديم «سوق الجمعة»؛ نسبةً للسوق الذي كان ينظم آنذاك في نهاية كل أسبوع. والدار عبارة عن قصر يتربع على مساحة 595 متراً مربعاً، تم بناؤه في بداية النصف الثاني من القرن السادس عشر (حوالي 1560 - 1570)، من قبل يحي رايس، وهو ضابط في البحرية الجزائرية خلال الفترة العثمانية. وقد اشترى هذا القصر مصطفى باشا أمين الخزينة في زمن الداي محمد بن عثمان، ثم أهداه لابنته القريبة إلى قلبه خداوج، وفي هذا الصدد تروي الحكايات المنقولة والمتداولة بين الناس، أن نرجسية خداوج دفعتها إلى ألا تترك الوقوف أمام المرآة تحديقا في جمال مظهرها، حتى فقدت بصرها من جراء ذلك. ولهذا سمي القصر باسمها «قصر خداوج العمياء». 
هناك لافتة معلقة عند مدخل القصر، نقرأ ما كتب عليها: «المتحف الوطني للفنون والتقاليد الشعبية». عند دخولنا استقبلنا شاب ظريف وملم جداً بكل أركان القصر وبتاريخه، أين جال بنا في كل غرفه وزواياه، حيث أخبرنا أن القصر حُوّل إلى مركز للصناعات التقليدية، كما تعرض في قاعاته أعمال الحرفيين الجزائريين ابتداء من عام 1947م، في حين تم افتتاحه كمتحف في عام 1961م. وقد أكد لنا المرشد وهو يشير إلى المعروضات التي أمامنا، أن المتحف يحافظ على مجموعة مهمة من التحف التي تعتبر حلقة وصل بين الصناعات التقليدية للقرنين التاسع عشر والعشرين، وهي بمنزلة شاهد على النشاطات والصناعات الحرفية التي كانت تمارس من طرف الأسر والعائلات التي تتوارث أسرارها جيلاً بعد آخر. وقد شاهدنا عديداً من التحف والمعروضات في الفن الشعبي والصناعات التقليدية لحرفيين مشهورين من مختلف القطر الجزائري، كالفنان والرسام بوعكاز وإنجازاته المتميزة على الخشب، والحرفي والفنان زولو المختص في فن النقش على النحاس، بالإضافة إلى الحرفي والنساج المعروف صيد بخوش، وغيرهم.
بعد أن عشنا مع المرشد لحظات من المتعة والمعرفة، صعدنا معه إلى سطح القصر الذي منحنا إطلالة بانورامية ساحرة على المباني القديمة والعريقة وعلى خليج الجزائر العاصمة المدهش.

عيون مُسخّرة للعامة
صادفنا في مرات عديدة مجموعة من المساجد وأماكن العبادة والصلاة، المنتشرة في أركان وزوايا الدروب والأحياء، على صغر حجمها، وبراعة هندستها، وجمالية تصاميمها، وعبق تاريخها، وقداستها التي تضفيها على المكان/الفضاء، وحالة الخشوع التي تمنحها لروادها ومرتاديها. 
ما لفت انتباهنا كذلك وشد تركيزنا، تلك العيون المائية الموزعة على أمكنة متفرقة، كعين حومة سيدي مْحَمَّد الشريف والعين المزوَّقة، بأشكالها المتنوعة وتصاميمها المتميزة، والتي لها حضورها وأهميتها الفعلية والرمزية - على حد سواء - في حياة الناس هنا؛ حيث كانت مدينة الجزائر في القرن العاشر مزوّدة بالمياه من مصادر مختلفة، من أهمها «العين المزوّقة»، «عين الأحج»، وهو رقيق مسيحي اعتنق الإسلام فيما بعد، «عين العطش»، «عين الصباط» و«العين الحمراء». كما كانت هذه المصادر كعناصر تزود بمياهها بقية العيون العمومية للمدينة كـ «عين الأزرق» التي بنيت في عام 1765م، و«عين سي محند الشريف» التي بنيت في عام 1541م، و«عين الحامة» (1759م)، وعين بئر خادم (1797م). هذا باستثناء ما يربو على ألف بئر وخزان كانت تزود دور المدينة بالمياه في عام 1830. 
وهناك عين بناها المغاربة تشرف على موقع سوق «باب عزون»، وهذه العين كانت معدة إعداداً بارعاً كما هو شأن معظم العيون، ففي وسط العين هناك نتوء صغير، يسقط منه الماء في صهريج ثم ينصب من جانبيه في صهريجين أكبر حجماً، كانا يستعملان كمورد للحيوانات. وفوق هذا النتوء نقشت بالحروف العربية مجموعة توصيات للملازمين بصيانة العين والمحافظة عليها كما يحافظ المؤمنون على دينهم. ولذلك كان يضمر العرب آنذاك نوعاً من الإجلال لهذه الأبنية الأثرية، وفي وصاياهم يهبون عادة قسماً من أملاكهم لإدارة العيون.

بيتشينيو الإيطالي وبنت السلطان
على مشارف القصبة يقبع جامع صغير بُني في عام 1622 على النمط المعماري للقصبة، لهذا الجامع العريق المسمى «جامع علي بتشين» حكاية غريبة ومشوقة في الوقت ذاته، وهي الحكاية التي التقطتها مصادفة أذن الكاتب والباحث الإيطالي ريكاردو نيكولاي على هامش نشاط ثقافي نُظِّمَ قبل سنوات في إحدى المدن الإيطالية (مدينة روكا)، ومن حينها وهو يحفر في الماضي ويبحث وينقب في المراجع والكتب والمصادر التاريخية، ثم سافر للجزائر واكتشف بنفسه الجامع وكل الفضاءات المرتبطة بتلك الحكاية، إلى أن أصدر رواية في نهاية العام قبل الماضي (2015) بعنوان:  «علي بتشين؛ أميرال إيطالي في الجزائر».
تعود بدايات الحكاية التي حَفَّزت الكاتب ريكاردو على خوض غمار هذه الرواية إلى البحار الإيطالي «بيتشينيو»، أصيل مدينة «ماسا» بمقاطعة توسكانا (تصادف أنها ذات المنطقة التي يتحدر منها الروائي)، الذي كان أسيراً لدى البحرية العثمانية في الجزائر وقتذاك. ليصبح فيما بعد من أشهر رجالات السياسة في البلد ومن بين أعظم أعلامها، حيث اعتنق الديانة الإسلامية وغيّر اسمه من بيتشينيو إلى علي بتشين، وعقد قرانه على الأميرة «لَلاَّهُم» بنت السلطان أحمد بلقاضي، التي ربطته بها قصة حب عظيمة. وقد صرف علي بتشين من ماله الخاص على تشييد هذا الجامع الذي يحمل اسمه حتى اليوم، كتعبير منه من جهة على درجة ارتباطه ومحبته لهذا البلد، ومن جهة أخرى كتخليد لذكرى قصته المثيرة.  
الرواية ترجمت العام الماضي من الإيطالية إلى الفرنسية، وسيعاد طبعها هذا العام في الجزائر باللغة الفرنسية، في انتظار أن تجد الجهة التي تتكفل بترجمتها للقارئ باللغة العربية. كما شهدت احتفاءً كبيراً في إيطاليا من قبل الميديا والإعلام ومختلف الجهات المهتمة بالفعل الثقافي، لأنها تناولت سيرة شخصية إيطالية - جزائرية مهمة، تروي تاريخاً مشتركاً بين البلدين. وهذا ما أهَّلها لأن تكون من بين النصوص المهمة التي اقتبس منها المسرح البلدي لمدينة ماسا الإيطالية.

الغوص في تاريخ القصبة
وأنت تتجول وتسبر أغوار التاريخ والماضي، ستتقاطع حتماً مع سكان وقاطني القصبة، إما جالسين في أحد أركانها وزواياها، أو يتبادلون الحكايات والدردشة مسندين ظهورهم إلى جدران المباني، أو مارين صعوداً/إياباً ونزولاً/ذهاباً. عندما تتقرب منهم وتسألهم عن معلم أو مبنى معين، يجيبونك بكل محبة، ويرشدونك لمقصدك بكل أريحية، ولا يبخلون عليك بالنصح. في لغتهم حكمة ومغزى كبير، تلك اللغة المتصالحة مع الحكم والرموز (كلامهم عبر ومعان كأنه قصيد شعبي).
كان الباحث والمؤرخ الجزائري فوزي سعدالله المقيم بفرنسا يجتهد في التقاط صور تذكارية أمام أهم معالم القصبة، فقد كان الرجل مولعاً بتراثها ومهتماً بتدوين تاريخها. وقد أخبرنا أن القصبة هي عاصمة الجزائر منذ نحو 5 قرون، وكانت أحد أكثر القوالب أهمية ونجاعة في صهر مختلف المكوِّنات الديموغرافية والثقافية للشعب الجزائري. و«القصبة» في الحقيقة ليس اسم المدينة، بل اسم للقلعة التي تطل عليها من أعاليها في حومة الباب الجديد المعروفة باسم «دار السلطان»، التي أقام فيها آخر حاكمين للجزائر العثمانية، وهما الداي علي خوجة الذي توفي عام 1818م ثم خليفته الداي حسين بن علي الذي، مثل سابقه، اتخذ هذه القلعة من هذه السنة إلى يوم 5 يوليو 1830م مقرا لحكمه وحِصنا له من المؤامرات السياسية والانقلابات العسكرية. لكن شيئاً فشيئاً أصبح اسم القصبة يشمل المدينة برمتها الممتدة من باب عزون جنوباً إلى باب الوادي شمالاً ومن الباب الجديد وسيدي رمضان غرباً إلى البحر شرقاً. 
ولما أخذنا الحديث إلى خصوصية القصبة وما يميزها عن بقية أحياء العاصمة، وخصوصاً أنها كانت إحدى أكبر وأجمل مدن البحر الأبيض المتوسط في أيام عزها خلال العهد العثماني من تاريخنا، أردف قائلا: إنها نموذج في العمارة الإسلامية يُقتَدى به، تتوحَّد فيه وتتداخل أساليب العمارة الأندلسية والمغاربية والمشرقية بلمسات أوربية جنوبية. وهي كذلك برأيه صانعة ثقافة وعادات وتقاليد ومخيالاً وسلوكاً فيه كثير من الاعتزاز بالذات الموروث، عن قرون جهاد رياس البحر ضد الغزوات العسكرية الأوربية، وما زلنا نرى ونسمع ونشتمُّ رائحة هذه الثقافة الأصيلة والعريقة كلما ترددنا على «بئر الجَبَّاح» أو «السُّور» و«السَّطَارَة» أو «حومة الباب الجديد» أو «سيدي رمضان» و«سيدي عبدالله» أو «حومة لَلاَّهُم» و«عيْن الشَّارع»، وغيرها من حوْمات هذه المدينة العتيقة التي تحتضننا منذ أن رست أولى السفن الفينينقية على شاطئها أسفل الجامع الكبير قبل آلاف السِّنين. القصبة إذن عمران وثقافة وجمال وتاريخ وتجربة بناء دولة وهوية.
ثم تناقشنا في بعض الأحداث التاريخية التي مرت بها «القصبة»، وأخذنا الحديث إلى أهم حدث تأسيسي في تاريخ هذه المدينة، وهو قدوم الأخوين العثمانيين من أصل يوناني عروج وخير الدين بربروس إلى المنطقة بدعوة من أهلها، ثم المعركة الكبيرة والخطيرة التي خاضتها المدينة في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر عام 1541م ضد الحملة العسكرية الإسبانية التي قادها الإمبراطور شارل الخامس وهزم فيها بشكل لم يتوقعه أحد، بمن فيهم الجزائريون، لضخامة أسطوله وضعف القوات الجزائرية آنذاك عددياً ولوجيستياً. وقد خرجت المدينة العثمانية الفتية من هذه المعركة أقوى بجميع المقاييس من أي وقت آخر في تاريخها، وأصبحت المدينة العاصمة المحترمة والمُهابة في المنطقة الغربية للبحر الأبيض المتوسط على مدى 3 قرون، والمدينة التي يُضرب بها المثل في أوربا والباب العالي وكامل شمال إفريقيا في الجمال الذي اشتهرت به قصورها وديارها وبساتينها في الضواحي المحيطة، كالأبيار وحيدرة والحامة وبئر الخادم... إلخ. وبلغت من الازدهار الاقتصادي والأمني والانفتاح على كل مَن يخدمها أنها تحولت إلى أرض هجرة ولجوء من جميع بقاع العالم، بما فيها من أوربا، توفِّر الفرص والحظ لكل مَن ليس له حظ.
كما يعتبر المؤرخ سعدالله أن وفود مئات الآلاف، على الأقل، من الأندلسيين وأحفادهم لجوءاً من اضطهاد إسبانيا محاكم التفتيش واستقرارهم الدائم بها، ثم انتشار أعداد منهم في بقية المدن والبلدات القريبة كالقليعة والبليدة وشرشال والمدية ومليانة وغيرها... هو بمنزلة الحدث الكبير والحاسم أيضا في تاريخها الاجتماعي والديموغرافي والثقافي. 
وقد ولد وعاش ومرّ بالقصبة شخصيات كثيرة لا تُعد ولا تُحصى من الجزائريين الأجانب ذات الأهمية الإقليمية والدولية. وقد استفاض معنا الباحث سعدالله في ذكرها؛ ومن بينها شخصيات منذ القرن السادس عشر، كخير الدين بربروس، وسِنان باشا، وحسان باشا، والعلج علي، وعلي بتشين الإيطاليْ الأصل، ومَامِي رايس الألباني الأصل، ومراد رايس الهولندي الأصل، والرايس حمِّيدو بن علي الأندلسي/العثماني الجذور، الذين كانوا جميعهم من كبار وعظماء رجال البحر وبُناة الدولة في العالم في تلك الفترة من التاريخ.
ومن أهل العلم والثقافة، حدثنا المؤرخ سعدالله عن كل من سيدي مْحمَّد الشريف الزهار القرطبي الذي مازال ضريحه ومسجده معروفاً بمحاذاة جامع سفير في القصبة العليا، وسيدي عبدالله صاحب الجامع والحي المعروف باسمه، «حوانيت سيدي عبدالله»، الجيجلي من أصل أندلسي، وعبدالرزاق بن حمادوش، وابن العنابي العالم والخبير العسكري/المجاهد صاحب مؤلفات إصلاح الجيوش الإسلامية، وابن المفتي، والعَمَّالي، وابن الحفَّاف، وقَدُّورة الذي استقرت فروع من عائلته في فلسطين وبقيت بها إلى اليوم، وحمدان بن عثمان خوجة، والعالم بن بريهمات الأندلسي الأصول، وغيرهم.
أما بخصوص المعاصرين، فقد جاء ذكر الرجل الثوري محمد بودية، وبطل «معركة الجزائر» علي لابوانت، والموسيقار العالمي محمد إقربوشن، والحاج مْحمّد العنقاء، وعمرو الزاهي، وبوجمعة العنقيس، والشيخ السعيدي الجلفاوي، والشاعر/المجاهد الميزابي مفدي زكرياء، والشيخ عبدالحميد بن باديس، والطيب العقبي، ووزير الخارجية والتربية الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي ووالده البشير الإبراهيمي، والقائمة طويلة.

حرف وعادات صامدة
وأنت في القصبة التي صنفتها اليونسكو في عام 1992 ميلادية ضمن قائمة التراث العالمي، ستقع عيناك حتما على «الحايك» الأبيض، اللباس أو الزي التقليدي الذي هجرته المرأة المعاصرة، فنادراً ما تجد النسوة يرتدينه أثناء خروجهن، باستثناء بعض العجائز. المار بأزقة ودروب القصبة، حتما سيقع بصره على ما بقي من تلك المحلات الحرفية، التي يتوارثها الأجيال أباً عن جد، ويكون شاهداً على عزوف الأبناء عن خط سير الآباء، في الحفاظ على الصناعات التقليدية والحرف اليدوية، كتراث يؤرشف لتاريخ المدينة وثقافتها وسلوكيات الناس ونمط حياتهم المتقدم حينذاك، تلك المسؤولية التي لا يتحملونها على عاتقهم وحدهم، بل يشاركهم فيها أطراف عدة.
قلة من الحرفيين اختارت مواجهة الظروف وتحدي كل التهديدات، من أجل زيادة فرص البقاء وضمان الاستمرار في هكذا مناخ غير مشجع أو داعم. بين الفينة والأخرى، ترى شيخاً منهمكاً  بإزميله في إعادة النضارة لنقوش تحفة خشبية في محله الصغير، وتشاهد كهلاً يجلس أمام مدخل محله والخشب العتيق خلفه، يسرق وقتاً للراحة، بعد أن أتم جزءاً مهما من طلبيات زبائنه. ويصادفك حرفي في دكانه، يعرض للبيع بعض الأواني والصينيات والألواح النحاسية المنقوشة بأنامل يده، وفي محل آخر يستقبل حرفي فناجين وأباريق وأواني من النحاس من قاطنة بالحي، لتصليحها وتنظيفها وإعادة البريق واللمعان لها، كعادة تكاد تندثر بين سكان القصبة والأحياء العتيقة الأخرى. فسكان القصبة اليوم يعانون بشدة فقدان جوانب مهمة من حياتهم وعاداتهم العريقة وأزيائهم التقليدية وعمارتهم الأصيلة .