الشاعر محمد إبراهيم أبو سنّة: لابدّ من عودة الشعراء إلى منابعهم الشعريّة الأصيلة

الشاعر محمد إبراهيم أبو سنّة: لابدّ من عودة الشعراء  إلى منابعهم الشعريّة الأصيلة

شاعرٌ  وجدَ في الشعرِ دليلهُ ومنقذَهُ واستراحتهُ في الزّمنِ الخانق والمراوغ، لذلكَ هوَ يعيشُ شعرياً، ولا يشعرُ  أنّهُ يلعبُ بالوقتِ مع الشعر، يلوي عنق الكلماتِ ولا تستطيع أن تُراوغهُ... الحقيقة أنّهُ هو الذي يُراوغُ الكلمات، كما تراوغ ريحٌ عاصفةٌ شجرةً وفيةً لأوراقها وثمارها وعصافيرها، وينتصرُ عليها، بل يشعرُ بأنّها ملكٌ لهُ وحدهُ، حينَ ينتصرُ  للشعرِ- شمسهُ ودليله، ويُراهنُ عليه، ولا شيء يفصلُ بينَه وبينَ الشعر إلاّ الموت. 

هذا الشاعر العربيّ الكبير يُولدُ معَ كلّ قصيدة، أعني معَ كلّ لحظةِ عشقٍ، وينتصرُ على زمنهِ حينَ ترتاحُ القصيدة وتكتملُ على شاطئ كفيّهِ الآمن. 
شاعرٌ وهبَ نفسه، ولآلئ وقته، وجميل لحظات حياته للشعر -الضرورة، ويسأل مع جان كوكتو: الشعر ضرورة ليتني أعرف لماذا؟ إذنْ، لهُ الحقُّ في الرهان عليه، لأنّهُ سيفهُ ومعشوقته ويوتوبياه معاً.. وها هوَ يحكي بعضَ حكايتهِ مع الشعر:
السؤال لماذا الشعر؟ يعني السؤال لماذا الحياة؟
< الشاعرُ الكبير محمّد إبراهيم أبوسنّة... لماذا الشعر؟ وهلْ تُراهنُ عليه؟ وإلى متى هذا الرِهان؟
- هذا السؤال مُعادلٌ لسؤالٍ آخر: لماذا الحياة؟ لماذا الحُبّ؟ لماذا الحُريّة؟ ولماذا الإنسان؟ ولماذا الوجود؟ 
إنّني أُراهنُ على الإنسان، لأنّ التاريخ يصعدُ ويهبطُ تحتَ صفعاتِ الطغاة، لكنّ الشعوب تنهضُ وتقومُ. أنا أُراهنُ على الشعر لأنّني أُراهنُ على الإنسان، فصورةُ الإنسان الحقيقية تتجلّى في الشعر وفي الإبداع، وأُراهنُ إلى أنْ يأتي أجلي، وأكتب حتى تقوم القيامة، وهذا دليلٌ على إيماني المُطلق بالكلمةِ - الإنسان، على الرغم من أنّ الكلمة صارت تُشوّه من خلال وسائل الإعلام، والفضائيات، لكنّ الفكرة ستنبعثُ مرّةً أخرى في قصائد المتنبّي، وأبي العلاء، وأحمد شوقي، والسيَّاب، وصلاح عبدالصبور... وطابور من الشعراء والمبدعين الأصيلين. 

الإنسانُ يُقاومُ بالقصيدة
< يقولُ الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس: القصيدة مثل انخطاف البرق، لابدّ للعالمِ من أنْ يشتعلَ في القصيدة، هلْ تعتقدُ أنّ هناكَ دوراً مهماً في حياتنا يُمكنُ أنْ تؤدّيه القصائد؟ هلْ القصيدة تقاوم؟ وكيف؟
- الإنسانُ يقاومُ بالقصيدة، لأنّ الهبوط الروحي والانهيار العاطفي يعودانُ إلى الاشتعال في برق القصائد، ولا يســـــتطيع الــشاعر أنْ يكتبَ قصيدة من دون أنْ يصيبه هذا الانخطاف الذي تجلّى في استقبال برد الشتاء، وقيظ الصيف، ونعومة الخريف.
يقول الشاعر الألماني هولدرلين: «الشعرُ هو أثمن الأشياء التي لا جدوى لها»، وهو يقصدُ الجدوى المادية، الحسّية، شكراً للشعر لأنّهُ تاريخنا الوحيد، وأنني أقصدُ الشعر الحقيقي الذي كُتِبَ لحظة انخطاف وسطوع البرق!

الزمان اختلف
< هلْ تؤمنُ بالتقسيمات والأجيال الشعرية: شعراء السبعينيات، شعراء الثمانينيات... والتسعينيات، أمْ أنّ الأعمار تختفي في الشعر؟ وهل يصح القول إنّ الشعراء في عمر واحد؟
- يجبُ ألا نخدع أنفسَنا، لأنّ الزمنَ يتغير، ولي كلمة في قصيدتي «مرايا الزمان» تقولُ:
الزمانُ اختلفْ
فالبريءُ انتهى
واللبيبُ احترفْ
لمْ يَعُدْ ينقذ الآنَ من الموتِ
أنْ تلتزمَ المنتصَفْ
لمْ يَعدْ ينفعُ الآنَ أنْ تعتكفْ
والخيول التي كانَ وقع حوافرها
يصنع الحلم... تسقط في المنعطفْ
والحمام الّذي كانَ يهدلُ
فوقَ الغصون الطويلة... لمْ تعدْ تأتلفْ
والبلاد الّتي كنتَ تهوى منازلها 
كلّ هذي البلاد... رقابٌ وسيفْ
طاشَ بعدَ العناء الهدفْ
آنَ أنْ تعترفْ!
الزمانُ اختلف!

كلّ الأجيال الشعريّة تنبضُ بالرفض
< ما رأيك في شعرنا العربيّ اليوم؟ ومَن مازال يستحق حمل راية الشعر؟
- أعتقدُ أنّ هناكَ وفرةً إبداعية تُعبّرُ عن حيوية الأُمّة العربية في مواجهة الإخفاق والإحباط، فهناك العشرات من المبدعين، وشعر اليوم يتسمُ بالتلون الخارق، بعضهُ لا يُمكنُ فهمهُ، ولكننا - كمبدعين - قادرون على الصراخ، قادرونَ على الجنون، هناك تنوع هائل في الأشكال الفنية الجديدة، مازال الصراعُ دائراً حولَ الاتفاق على مفهومها. هذا الشكل الجديد الذي يُسمّى قصيدة النثر، مثلاً، لكنها تعبير عن حقّ الحرية في الاختلاف، والتنوع في شعرنا العربيّ المعاصر يُؤكّد أنّ كلَّ الأجيال الشعرية طوال خمسينَ عاماً مازالت تنبضُ بالرفض، ومناشدة الحريّة والاقتراب من أعتاب المستقبل.

 عودة الشعراء إلى منابعهم 
< هل مازالَ للشعر قراؤهُ وجمهورهُ؟ وإذا كانَ كذلكَ، فلماذا ترفضُ دورُ النّشر الاقتراب من هذا البركان العظيم - الشعر؟
- هناك تراجع مُثير للقراءة على مستوى الوطن العربي بأكملهِ، ومحاولة إفساد الوجدان العربي جعلتْ من القراءةِ شيئاً عسيراً، وخاصةً أنّ اللغة العربية تحاصرها اللغات الأجنبية في التعليم الخاص، فالموجة الجديدة في الشعر العربي عبرَ الترجمة الركيكة والتجارية، جعلت الشعراء يوجهون انتباههم إلى الشعر الأوربيّ.
لابدّ من عودة الشعراء إلى منابعهم الثقافية العربية الأصلية حتّى لا يصبح الشعر العربي في مواجهة طرق مسدودة. هناك مشكلات كثيرة. أتفق معكَ في أنّ الناشرين لا يقبلون عليه، ولا القُرّاء، فتلكَ مهمة النقد لتسيير المسيرة، وتصحيح ما هوَ خطأ... النقّاد همُ الّذينَ يتحملون هذا العبء، وليسَ الشعر، ولا الشعراء.

لا أرى رواجاً حقيقياً للروايةِ
< وما رأيك فيمَنْ يقولُ إنّهُ عصرُ الرواية، أو الرواية ديوانُ العرب؟! هلْ تعتقد أنّ الشعرَ يتنازلُ بهذهِ السهولة عن كرسيّه الوثير، ويرمي بأسلحته السلمية أمامَ فنّ كتابي آخر؟
- هذه الدعوة التي يطلقها بعض النقّاد على أنّ العصر عصر الرواية، هي محاولة ترويج نوع أدبي على حساب نوع آخر، لأنّ النيّات الكامنة وراء هذهِ الدعوات تضمرُ السوء بالنسبةِ للشعر.
 إنني لا أرى رواجاً حقيقياً للرواية، وإنْ كنتُ أعتقد أنّ الرواية قدّمت إنجازاً هائلاً بالنسبةِ إلى التكنيك، ولدينا كمٌّ من الروائيين جبهتهم أكثر تماسكاً، رُبّما لأنّهم يكتبون في سياق أُوربي، متأثرين بنسقِ الرواية الأمريكية أيضاً، ولم تدب الفوضى في شكل الرواية لعدم استيراد أشكال أجنبية، بينما الشعر لجأ إلى ذلك، وأثرت فيه الاتجاهات، ولذلك عمّت الفوضى في الشعر، ورأينا نوعاً من البلبلة في استقبال النماذج الشعرية الجديدة. ورأيت بعض الشعراء يحسّون أنّ الشعرَ بدأ يتراجع، وأنّ الاستجابة أصبحت فاترة، لكنني مؤمن بأنّ هذا التوقف الطارئ ينتظرُ هزّة ثقافية على المستوى النقديّ.
 إنّ قراءة الأدب بشكلٍ عامٍ تعاني فتوراً وعدم استجابة، وليست القضية في مواجهة الشعر للرواية، أو الرواية في مواجهة الشعر، إنما نحنُ في مأزقٍ يتعلقُ بالأدبِ كلّه، وهذا المأزق مُتعلق بالمؤسّسات الإعلامية على وجه الخصوص.

غموضُ الخطاب النقديّ
< هل تؤمنُ بالنقد؟ وهل أنصفك كشاعر رائد وكبير؟ وهل استطاع النقدُ أن يواكب تطور القصيدة العربيّة؟
- لنعترف بأنّ جيل الرواد من شعراء الموجة الأولى مدينون للنقّاد بسطوع أسمائهم في الخمسينيات والستينيات، وقد لعبَ النقّاد دوراً في فتح الطريق أمام الشعر الجديد (الحديث)، ولكن هذا الدور في بدايته كانَ تشجيعاً، حتّى تكتمل صورة الإبداع الشعريّ للشعراء الروّاد، وأعتقد أنّ هذا التشجيع، بل لنقل التلميع، منحَ كثيراً من الشعراء أكثر ممّا يستحقون!
واجهَ شعراء الستينيات نوعاً من الخذلان النقديّ لسنوات طويلة قبلَ تفتح النقد الجامعي والأكاديمي، والإسهام بجدية في تنشيط حركة الإبداع الشعريّ، وخاصةً بعدَ صدور مجلة «فصول». المشكلة الآن هي أنّ النقد لا يتجه إلى القارئ، أو إلى الرأي العام، بل إلى الوسط الأكاديمي، والتركيز على الرسائل الجامعية، والمقرّرات الدراسية، والسبب الأساس أنّ كثيراً من هذه الدراسات متشبعة بالمناهج النقدية الأجنبية مثل الأسلوبية والحداثية، وما بعد الحداثية (البنيوية) و(السيميائية)، ما أدى إلى غموض الخطاب النقديّ، بل إنّ هذا الخطاب قدْ نافسَ النموذج الشعري.
 وعلى الرغم من ذلكَ، فإنّ إنجازاً نقدياً لا يُمكن تجاهله، بعدَ أنْ أصبح التراث الشعريّ - الذي ساهمَت فيه كلّ الأجيال - كمّاً هائلاً الآنَ ويستفز المواهب النقديّة، ولكنّ هذا النوع من الدراسات - مع الأسف الشديد - شديد الجدية، وعميق الرؤية، لا يكادُ يصلُ إلى الرأي العام، لأنّ الوسيط النقديّ يختفي وراء أسوار الجامعات! .