كيف يسهم مقدمو الرعاية الصحية في ارتفاع ثمن العلاج؟

كيف يسهم مقدمو الرعاية الصحية في ارتفاع ثمن العلاج؟

بما أن معظم المهن الطبية لا تمارس بمعزل عن مظلة المؤسسة الطبية؛ فقد كان لابد أن تتشارك الاثنتان في مسؤولية الدخل والكلفة بنسب متفاوتة، فالمستشفى - مثلاً - يعيّن الطبيب ذا الكفاءة، ويوفر له ما قد يحتاج إليه ليؤدي عمله على وجه يرضي الطرفين، ليوظف علمه وخبراته لاستقطاب من يرى أن سبب العلاج بين يديه، مستخدماً تلك الموارد المتاحة له.

 

وفي المقابل؛ يقدم الطبيب وقته وفائدته المرجوة، ليستفيد الطرفان ويفيدا مرضاهما، وهذه العلاقة النفعية قد تأتي سلباً على مخرجات الرعاية الصحية، ولعل ارتفاع ثمن العلاج أهم هذه السلبيات.
قد يشكك أحدهم بدور العلاقة النفعية (المادية) بين موفري الرعاية الصحية وأصحاب المهن الطبية في خلق الرعاية الصحية المثلى، كيف لا ونحن نعلم جيداً أن المال - وإن استطاع أن يشتري «كل شيء» - إلا أنه يقف عاجزاً عن شراء القيم السوية والسلوكيات القويمة، فالطبيب الذي تحكم حرفته المهنية سلوكيات وقيم مستقاة من دوره الإنساني في تخفيف معاناة المرضى لابد أن يكون لضميره الحي دور يقف للحيلولة دون اتخاذ المال هدفاً، لا وسيلة، لطلب العيش، لكن في حقيقة الأمر؛ مطالبته بمردود مادي جراء عمله المخلص لا تعد مسوغاً لاتهامنا له بالسعي وراء جني الأموال، وأنا أختلف مع القول الذي يعتقد بأن هذه العلاقة تقوم على أساس من المصلحة المادية البحتة، خصوصاً إذا اعتبر الطرفان أن قيمة ما يقدمانه من خدمات تفوق مردودها المادي المجرد، فمن منظور موفري الخدمات الصحية؛ تحتل قيم «لا مادية» درجة أعلى من مجرد جمع الثروة، سواء كانت تلك القيم اجتماعية كنشر الوعي الصحي في المجتمع، أو سلوكية كالالتزام بمعايير طبية تضمن مستويات عالية من الخدمات، أو حتى مادية توفيرية (بمغلف اجتماعي) لتوافر كثير من التبعات المالية المستقبلية على النظام الصحي كالبرامج الصحية الوقائية، ونكاد نلمس هذا فيما توفره المستشفيات من خدمات لعلاج الحالات الطارئة - بشتى تعقيداتها - غاضّة الطرف عن القدرة المالية للمريض، وهذا كله يبين أن هناك كثيراً من الأطراف – سواء كانت مستشفيات أو أفراداً - لا تحتل القيمة المادية المراكز الأولى في قائمة أولوياتهم. 
أما عن جانب الأفراد، فنجد أن قيمة العائد المادي لا تحتل تصوراً أعلى من قيم أخرى معنوية عند كثير من أصحاب المهن الطبية، فإلى جانب الشغف برسم السعادة على وجوه مرضاهم والارتقاء بالرضا النفسي إلى الشعور بنفعية ما ينتجه جهدهم؛ هناك الرغبة الملحة في زيادة التعلم وكسب المعرفة والخبرات التخصصية، حتى يصل المرء منهم إلى حالة من التميز عن أقرانه يزداد عندها شعوره بأهميته في مجتمعه. 

مفهوم رأسمالي
لا غرابة في أن هذه القيمة المعنوية – التي تتطلب من الوقت والجهد الكثير - تعود بالنفع على صاحبها مادياً، وهنا استغل المفهوم الرأسمالي هذه «الميزة» كمحفز أساس لتحريك السوق بين قوى العرض والطلب نحو الكفاءة المقصودة، متغافلاً - ربما - عن سلبيات تصاحبها قد تحول دون الوصول إلى الأهداف المطلوبة، إذ إن المتخصصين في أي مجال يمثلون الندرة في جانب العرض فيه، وإذا ازداد الطلب على الخدمات النادرة ازدادت قيمتها - على المدى القريب على الأقل - إلى حين دخول المزيد من العرض سوق العمل، وبهذا، تم استخدام «جزرة» المال لإغراء ذوي التخصصات النادرة كأداة لتنشيط حركة دوران سوق الرعاية الصحية، وتلاشت عندها أهمية تلك القيمة المعنوية الجميلة شيئاً فشيئاً، لتمثل المغريات المادية سبيلاً لكسب المزيد من الثروة، ولو على حساب ارتفاع تكاليف النظم الصحية.
ولو عرفنا أن نحو 60 إلى 70 في المائة من تكاليف الخدمات الصحية يتم صرفها على شكل مرتبات وبدلات لأصحاب المهن الطبية؛ لاستطعنا أن نصل إلى نتيجتين رئيستين تفسران زيادة أسعار فاتورة العلاج، أولاهما تكمن في زيادة نسبة الشريحة من أفراد المجتمع التي تتطلب المزيد من التدخل الطبي المتخصص (وهو، كما أوضحنا، ذو كلفة مرتفعة)، يكون ذلك لوجود شح في تدارك الأمراض المزمنة - على أقل تقدير- كتقديم برامج لتأخير الإصابة بالأمراض، أو انتشار ثقافة «اللامبالاة» في مجتمع ما ينتهج نمط حياة غير صحي أو سلوكاً يتجنب به طلب العلاج من علة يشكوها إلا عندما تسوء صحته بدرجة كبيرة، ويزيد ذلك الأمر من الطلب على الاختصاصيين الذين تزداد قائمة مرضاهم حتى يصل طلب موعد للكشف إلى أسابيع إن لم يكن لأشهر، مما يؤثر سلباً في كفاءة الخدمات المقدمة؛ إما بسرعة الكشف والتشخيص وما يصاحبه من زيادة الاحتمال في الوقوع بالأخطاء الطبية؛ أو في اتساع الفجوة بين الطلب والعرض، وبالتالي نقص الكفاءة بمفهومها الاقتصادي، متسببة في ارتفاع سعر المتخصصين إن لم ترفع من ثمن العلاج. 
أما النتيجة الثانية لزيادة العبء المالي، فهي نتاج كثرة التفرعات التخصصية في علم الطب، وهذه مسألة مطلوبة بلا شك، بل إن وجودها يكاد يكون حتمياً، فالبحوث الطبية التي تشير إلى مخرجات أفضل لعلاجات جديدة ترى النور، والطب بفحوصه وإجراءاته التشخيصية يتطور بمرور الزمان، الأمر الذي دفع شركات الأدوية والتكنولوجيا الطبية إلى «احتكار» هذه المنتجات طمعاً في مكاسبها المادية العالية، هذا الاحتكار وما يصاحبه من نفقات كبيرة للتسويق والدعاية، وما يرافقه من خلق مهارات متخصصة لإدارتها والإشراف عليها؛ يترجم في النهاية بارتفاع في كلفة العلاج، ولا غرابة في أن ترى بعضاً من هذه الشركات تروج لجهاز لا يتميز عن سابقه بشيء إلا في ثمنه، وإلا فما معنى أن يمتاز الجهاز فقط بتزويد المريض بصور بالألوان إذا كانت تكاليف استخدامه أضعاف تكاليف ما سبقه؟ وما فائدة الترويج لدواء مرتفع السعر في وجود بديل أقل سعراً لا أقل كفاءة؟.
وحتى يواكب أصحاب المهن الطبية هذا التطور العلمي؛ فقد كان لابد أن يتسابقوا في هذا المضمار ليظفروا بالسبق في تعلّم جديده، ويحصلوا بذلك لا على القيمة المعنوية التي يبتغونها فقط، بل ليزيدوا من «تكلفتهم»، وبالتالي تكلفة تقديم الخدمات الصحية.
ولما كانت المسؤولية مشتركة في توفير الدخل وتحمّل الكلفة بين المختص ومؤسسته الطبية؛ فإن الطبيب يضطر في أحيان كثيرة – وهذا غير مسوغ له بالتأكيد – إلى طلب فحوص وتحليلات زائدة عن حاجة المريض، لا ليقوم بدوره على أكمل وجه فقط (من ناحية قانونية)، بل ليسهم في توفير دخل لمؤسسته الطبية ■