المتنبي «اللبناني»

المتنبي «اللبناني»

 إذا كان للمتنبي تاريخ في أكثر من بلد عربي زاره أو عاش فيه، فإن لبنان هو من جملة هذه البلدان. فقد عاش فترة من عمره في قرية من قرى بعلبك مازالت قائمة إلى اليوم تدعى «نحلة»، ترد في شعره باسم «نخلة» وهو خطأ، فاسمها الصحيح هو «نحلة». 

عاش المتنبي فترة أخرى في سوق الغرب عاصمة بني تنوخ، وهي مدينة محاذية لمدينة عاليه، ومازالت قائمة إلى اليوم أيضاً. 
ومرّ أكثر من مرة بمدينة طرابلس وهو في طريقه إلى اللاذقية أو عند عودته منها. ويرد «لبنان» بالاسم في قصيدة له من شعر الصبا، كما يقول محرّرو ديوانه، ويبدو أنه نظمها إبان إقامته في «نحلة»، في ضيافة أو بصحبة صديقه أبي علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي «الكاتب الذي كان يذهب إلى التصوف» كما يقول ديوانه، والذي مدحه المتنبي في قصيدة أخرى. كان للمتنبي من العمر عندما أقام في «نحلة» بضعة عشر عاماً، أي إنه كان في ميعة الصبا. فإذا كان قد ولد في الكوفة سنة 303 للهجرة، فإن زيارته إلى «نحلة» وإلى صديقه الأوراجي كانت في سنة 319 للهجرة. ويبدو أنه أقام فترة من الوقت في «نحلة»، بدليل أنه يتحدث عن «مقام» له فيها، فهو يقول:
ما مقامي بأرض نحلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
مفرشي صهوة الحصان ولكنّ
قميصي مسرودة من حديدِ
وفي هذه القصيدة أبيات في الفخر مشهورة، هي:
لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي
وبنفسي فخرتُ لا بجدودي
وبهم فخرُ كل من نطق الضادَ
وعوذُ الجاني وغوثُ الطريدِ
إن أكن معجباً فعجبُ عجيبٍ
لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا تربُ الندى وربُّ القوافي
وسمامُ العدى وغيظُ الحسود
أنا في أمة تداركها الله
غريبٌ كصالح في ثمود
قوله «تداركها الله»، أي لحقها برحمته، و«ثمود» قبيلة من العرب الأولى وهم قوم صالح، وقيل إنه بهذا البيت لقب بالمتنبي. ولا يفارق الفخر قصيدتين لبنانيتين أخريين قالهما في «نحلة»: الأولى في مدح صديقه الأوراجي ومنها:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت
وإذا نطقتُ فإنني الجوزاءُ
وإذا خليتُ على الغبيّ فعاذرٌ
أن لا تراني مقلة عمياءُ
بيني وبين أبي عليّ مثلُهُ
شمُّ الجبالِ ومثلهنّ رجاءُ
وعقاب لبنان وكيف بقطعها
وهو الشتاءُ وصيفهن شتاءُ
لبس الثلوج بها عليّ مسالكي
فكأنها ببياضها سوداءُ
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ
سال النضارُ بها وقام الماءُ
«عقاب لبنان»: المرتقى الصعب من الجبل، وعقاب جمع عقبة، ويبدو أنه عرف لبنان في صيفه كما عرفه في شتائه، كما يظهر من حديثه عن «ثلوجه». فقد ضلّ في تلك الجبال بسبب الثلوج كما يضل السالك في سواد الليل. ويلفت النظر استخدامه لعبارة «لبنان»، وذلك يستدعي تحقيقاً يتصل بالتاريخ والجغرافيا، وذلك أن لبنان كان يومها جزءاً من بلاد الشام، ولم يكن له أي «شخصية» وطنية مستقلة عن محيطه، وإنما كان في واقع أمره عبارة عن «جهة» أو «ناحية» من بلاد الشام لا أكثر. القصيدة الثانية قصيدة عجيبة تدل على كفاءة المتنبي الشعرية وهو لايزال في الصبا. 
ويمهّد الدارسون لهذه القصيدة بالأسطر التالية: دخل عليه الأوراجي يوماً فقال له: وددنا يا أبا الطيب لو كنت اليوم معنا، فقد ركبنا ومعنا كلب لابن ملك، فطردنا به ظبياً ولم يكن لنا صقر فاستحسنت صيده. فقال: أنا قليل الرغبة في مثل هذا. فقال أبو علي: إنما اشتهيت أن تراه فتستحسنه فتقول فيه شيئاً من الشعر. 
قال: أنا أفعل، أفتحبّ أن يكون الآن؟ قال: أيمكن مثل هذا؟ قال: نعم، وقد حكّمتك في الوزن والقافية. قال: لا، بل الأمر فيهما إليك. فأخذ أبوالطيب درجاً وأخذ أبو علي درجاً آخر يكتب فيه كتاباً، فقطع عليه أبوالطيب الكتاب وأنشد.في قصيدة مؤلفة من 28 بيتاً، «يفعل» المتنبي من الذاكرة، أو من المخيلة، وصفاً لواقعة الطرد أو الصيد التي تمنى الأوراجي أن يحضرها المتنبي ليقول فيها شعراً، ولكن المتنبي قال هذا الشعر عن الواقعة دون أن يراها، وكان له من العمر 16 سنة. فإذا كان المتنبي قد ولد في الكوفة سنة 303 للهجرة، فإنه أقام في «نحلة» اللبنانية سنة 319 هـ، وكل هذا يدل على أنه كان مستكملاً لكل لياقته الشعرية وهو في سن المراهقة. لماذا «نحلة» ولماذا «لبنان» في تلك المرحلة من حياته؟ بل لماذا يظهر عند الكاتب المتصوف الأوراجي؟ 
يصمت التاريخ عن كل ذلك ليستنتج الباحثون أن نحلة، على الأرجح، كانت مجرد «محطة» من محطات المتنبي الذي لم يتنقل شاعر عربي أو غير عربي كما تنقل هو. «على قلق كأن الريح تحتي» يقول في قصيدة له، ولم يبالغ. 
ولعله قصد منطقة بعلبك لأسباب لها صلة بتشيّعه، ذلك أنه يُفهم من الأخبار القليلة التي يوردها ديوانه، أن أبا عليّ الأوراجي شيعي ومتصوف معاً. وإذا كان الباحثون قد لحظوا وفرة من مصطلحات وتعابير وصور المتصوفة في شعر المتنبي، فلا شك في أن سبب ذلك يعود إلى ثقافته التي حصّلها زمن دراسته في مدرسة أشراف العلويين في الكوفة، كما في دكاكين الورّاقين التي كانت بمنزلة قاعات مطالعة تستقطب الأدباء والمثقفين، ولم يملك المتنبي المال لشرائها، ولكنه كان يملك ذاكرة قوية حفظتها. 
تابع المتنبي في نحلة، وبصحبة الأوراجي، ثقافة المتصـــــوفة التـــــي حصل عليـــها في الكوفة، التي ظهر لها أثر كبير في شعره طوال حياته. 
وقد ظهر في القاهرة قبل سنوات قليلة، وعن مكتبة الآداب فيها، كتاب عنوانه «آثار صوفية في شعر المتنبي» للدكتور محمد أبوالمجد علي البسيوني، يرصد فيه تأثر المتنبي في لغته الشعرية بلغة المتصوفة. طبعاً لم يكن المتنبي صوفياً، وليس في ما يعرف عنه من الصوفية في شيء، ولكن الأثر الصوفي في شعره، وهو ما يفترضه البسيوني، لا يقل بحال عن الآثار الأخرى التي التفت إليها الدارسون كالتشيع والفكر الفلسفي، وأولوها جلّ اهتمامهم. وهذا الأثر لا يقف عند المضمون فحسب، وإنما يمتدّ ليشمل، فيما يشمل، كل جوانب التجربة الإبداعية لديه. هذا الأثر الصوفي في شعر المتنبي تسرّب إليه، في نظرنا، من ثقافته الشيــعية، وهي ثقافة ارتبطت، أو اختلطت، عبر التاريخ بثقافة التشيّع. ومع أن المتــــنبي لم يؤثــــر عنه أي نــــزعة مذهبية، أو انحياز لهذا المذهب الإسلامي أو ذاك، إلا أنه كان من الطبيعي أن يتأثر في لغته الشعرية بروافد ثقافية مختـــلفة كالفلسفة والتصوّف، ومحطة «نحلة» كانت واحدة من محطات فكرية أمدّت المتنبي بزاد كان قد نهل من مثله من قبل، وكانـــــت بيــنه وبين ابن نحلة (الأوراجي) مودة عميقة كما رأينا.
ولد المتنبي ونشأ ودرس في الكوفة بالعراق، ولكنه عاش قسماً كبيراً من عمره في بلاد الشام، في بلاطات أمرائها، كما في سجونها معاً، إذ قيل إنه عند ادعائه النبوة قبض عليه لؤلؤ أمير حمص وأودعه سجنه، ولم يطلق سراحه إلا عندما استتابته. 
وما عدا 4 أو 5 سنوات قضاها عند كافور في مصر، وعدة أشهر قضاها في فارس عند عضد الدولة، ومثلها في الكوفة عندما كان يأتي لزيارة أقاربه، فإن المتنبي أمضى عمره في بلاد الشام: في حلب واللاذقية وأنطاكية وطرطوس وحمص وخناصرة وطرابلس ونحلة وسوق الغرب، وأكثر هذه المدن والأماكن يتردد لها ذكر في شعره. 
وكان من الطبيعي ألا يأخذ لبنان أكثر مما أخذ من وقت المتنبي أو من شعره لسبب جوهري، هو أنه لم يكن في دائرة الضوء، أي إنه لم يكن مقراً لإمارة أو لدولة ذات شأن تجذب المتنبي بنضارها أو بأهميتها السياسية على غرار حلب أو مصر أو الرملة في فلسطين. ولكنه لفت نظر هذا الشاعر العظيم فحطّ فيه برهةً، كما يحطّ الطير، ثم طار إلى بقع أو بقاع أخرى أكثر جاذبية له.