قراءة في «ابنة بونابرت المصرية» للكاتب اللبناني شربل داغر كل رواية هي معركة ضد الحدود

 قراءة في «ابنة بونابرت المصرية» للكاتب اللبناني شربل داغر  كل رواية هي معركة ضد الحدود

يعدّ شربل داغر من أبرز الكتاب العرب المعاصرين،  فقد كتب في نقد الشعر والنقد الفني، كما أنه شاعر كبير وروائي مبدع، ومترجم متمكن قدّم للمكتبة العربية أعمالاً تعد من عيون الثقافة العالمية.

 

حظيت تجربة شربل داغر الروائية التي انطلقت منذ روايته الأولى «وصية هابيل» (2008)، وتواصلت بأعماله اللاحقة، ومنها «بدل عن ضائع» (2014)، و«شهوة الترجمان» (20015)، ثم «ابنة بونابرت المصرية» (2016)، باهتمام النقاد والدارسين بحكم ما تنطوي عليه من ضروب الإضافة الجمالية التي ترتقي بالرواية إلى أفق اكتناه الحياة والتقاط أسئلتها الصعبة التي يواجهها الفرد في المجتمعات العربية. 
وإذا كان المجال لا يتسع للإحاطة بهذه النصوص كلها، فإن التركيز في هذه القراءة سينصبّ على روايته «ابنة بونابرت المصرية» الصادرة حديثاً، والتي يشقّ بها الكاتب ممراً إلى نمط من الكتابة يثري به منجزه السردي، هو الرواية التاريخية التي صار الاهتمام بها يتزايد في الحقلين الروائيين العربي والعالمي، حيث غدا لقاء السرد والتاريخ ثابتاً جوهرياً من ثوابت الرواية المعاصرة، ومصدراً غنياً من مصادر ثرائها وخصوبتها وقدرتها على سبر أغوار الرّاهن من خلال الحفر في تضاريس الماضي.
والملاحظ أن هذه المهمة الحفرية والتأويلية لم تعد حكراً على التاريخ، بعدما أضحى التعاطي مع المعرفة التي ينتجها المؤرخون يتسم بنوع من النسبية. لقد اكتسحت الرواية المشهد من منطلق أن لديها ما تقوله عن الماضي، وأن المعرفة التي تبلورها عبر وساطة التخييل والسرد قادرة على إغناء التفكير التاريخي. 

ابتكار أساليب جديدة
من هذا المنظور يمكن الدخول إلى العالم الذي تعرضه رواية «ابنة بونابرت المصرية»، والتقصّي في التمثيلات التي تقدمها لمرحلة مفصلية من مراحل التاريخ العربي الحديث. فالرواية إذ تستعيد حدثاً إشكالياً يتعلق بحملة بونابرت على مصر التي تضارب الجدل بخصوصها بين المؤرخين والباحثين المهتمين بنشأة الثقافة العربية الحديثة، تفتح باباً واسعاً على الحياة الاجتماعية لهذه الفترة بشكل لا يذعن لأي شروط سوى شروط المتخيل.
وبهذه المزاوجة بين التاريخ والسرد، الحقيقي والتخييلي، تتحرّك الكتابة صوب اللامفكّر فيه، وما لا يسمح به التاريخ الرّسمي بهدف تنويع أسئلتها حول الواقع. وهذا الولع بابتكار أساليب جديدة في تمثيل الواقع لا يعكس فقط وعياً مختلفاً بوظيفة الرواية ودورها في التعبير عن موضوعات جديدة، وإنما يفيد كذلك في إغناء الخيال السوسيولوجي والتاريخي. 
تتميز الرواية ببناء فني يقوم على توزيع الأحداث على ثلاثة دفاتر لكل من جولي بييزوني 
(1811 - 1815)، وأنطونيو دو بالسكالينو (1815)، إضافة إلى الدفاتر التي تم تداولها بين نور المنصوري وجوزيف ميري (1815-1825). 
وتنتهي الرواية باستدراك يتوجه فيه المؤلف إلى القارئ ويبلور من خلاله وعياً ذاتياً بالرواية ومحتملها. إن هذا البناء السردي الذي ينطوي على تفريعات وهوامش يوفر مجالاً للشخصيات لاستدعاء ماضيها وتجاربها السّابقة. ويمكن القول إن تمثيل الرواية لهذه الحقبة التاريخية يتجلى منذ عتبة العنوان وصورة الغلاف، حيث تظهر في أعلى الصورة خمس شخصيات بأزياء عسكرية ومدنية وبونابرت من بينها، وفي المقابل امرأة تمنعه من الاقتراب من طفلها.
أما ديكور الصورة فيوحي بأن الأحداث تدور في مكان راق قد يكون قصر الجنرال. غير أن اللون الذي يظلل الديكور هو الرمادي، مما يوحي بأجواء الحزن والكآبة والموت. 
وبهذه الدلالات التي يوفرها عنوان الرواية، يتبين أننا إزاء نص يحفر في طيات الماضي من خلال استعمال الوثائق والمصادر الأدبية والتاريخية لتقديم صورة دقيقة عن اللحظة الاجتماعية التي تكتبها. وهذه سمة من سمات الرواية التاريخية التي استحكم بها هاجس القدرة على الكشف وتقديم رواية حقيقية
ونجد هذا التوجه مهيمناً منذ التجارب للرواية التاريخية مع ألكسندر دوما الأب وولتر سكوت، مروراً ببالزاك وزولا وجورجي زيدان وأمين الريحاني، وصولاً إلى الروائيين المعاصرين أمثال بارتيك موديانو، ولوكليزيو، وبارغاس يوسا، وربيع جابر، وواسيني الأعرج ويوسف فاضل.
يُظهِرُ الانتقال من عتبة العنوان إلى متن النص أن الروائي شربل داغر ينجز في هذا العمل الأدبي تقصياً عميقاً من خلال إمكانات السرد وجموح الخيال.
ويمكن أن نتلمّس العلامات المائزة لهذا الإنجاز من خلال وصف الأمكنة المتعددة التي تدور فيها أحداث الرواية (القاهرة بعد حملة بونابرت إلى الشرق) وباريس، والإسكندرية وعكا، ومرسيليا، فضلاً عن شواطئ صقلية وتونس والجزائر وبيروت وغيرها، وكذلك على مستوى التفاصيل والجزئيات ذات الصلة بأسلوب العيش خلال المرحلة الممتدة بين 1811 و1825. وهذا التمثيل الذي يقرّب قارئ الرواية من أجواء المرحلة التي تكتبها ما كان بالإمكان تحققه لو لم يطّلع الروائي على وثائق ومصادر أدبية وفنية وتاريخية متنوعة. 
فإذا كانت الرواية التاريخية تكتسب هذه الجدوى لأنها تصوغ تجارب الآخرين وتنقلها، خاصة أولئك الذين شقّ الزمن مسافات عميقة بيننا وبينهم، فإن ذلك لا يعني أنها تريد أن تؤرخ للمرحلة التي تكتبها، ولا أن تحتكر لنفسها حق التذكر أو الانتصار لذاكرة معينة على حساب ذاكرات أخرى مغايرة ومختلفة. 

اختراق الصمت
بهذا المعنى، يمكن القول إن ما تتقصد إليه الكتابة عند شربل داغر هو اختراق حجُب الصمت الذي ظل يلفّ هذه الحملة من خلال إعطاء الكلمة لشخصيات مهمشة تسلط ضوءاً كثيفاً على ما حدث خلال الثورة على الجنرال بفرنسا، والانتهاكات الجسيمة التي تعرّض لها المماليك، أي أولئك الذين عادوا ضمن الجيش الفرنسي عندما خرج بونابرت من مصر.
وبالتالي فإن الرواية على الرغم من القيود التاريخية التي تثقل كاهلها، سواء على مستوى الإشارة إلى سنوات بعينها، أو من خلال وصف أمكنة لها علاقة بالأحداث التي عرفتها فرنسا، أو استحضار شخصيات معروفة في التاريخ الحديث مثل محمد علي، عبدالرحمن الجبرتي، والجنرال فرانسوا مينو الذي اعتنق الإسلام وتزوج من سيدة مصرية تسمى زبيدة، فإنها تقرّب القارئ من الأبعاد الإنسانية لهذه الشخصيات التاريخية ومن أسئلتها الوجودية، كما تجعل من بعض الأحداث، خاصة الحدث المتعلق بالطفلة نور التي عُثر عليها أمام مدخل فندق القدّيس بطرس وروما، بعدما تخلّت عنها والدتها،  بؤرة لتوليد قيم إنسانية تلامس معاناة الشخصيات وتعثّر مصائرها.
وبهذا الشكل الفني تتموضع الرواية في مساحة تميزها عن التاريخ، برغم أن الزمن يجمعهما ويقيم روابط بينهما. فالرواية التاريخية عندما تضفي البعد الإنساني على الحدث، فهي تمنحنا إمكانات أوفر للتأويل وإعادة بناء الحقيقة التاريخية. وهذا بالتحديد ما حققته رواية «ابنة بونابرت» حينما قدمت بونابرت عاشقاً لامرأة مصرية أنجب منها طفلة اسمها نور. 
يتحدث تودوروف في سياق استعادة الرواية للماضي عن عمليات من الانتقاء والاختيار تظهر أن الرواية لا تتغيا البحث عن الحقيقة، وإنما استخلاص قيم ودلالات معينة من خلال تلك الأحداث المستعادة، مما يعني أن الرواية التاريخية لا تقاس أهميتها من خلال إخضاعها لمقياس الحقيقة والزيف، بل من خلال إسهامها في التوجه نحو المستقبل. 
ومن هذا المنظور تشارك رواية «ابنة بونابرت المصرية» في تمثيل الماضي وإنتاج معرفة متجددة به. وقد اختار داغر أن يغوص في أعماق هذه المرحلة من خلال بناء فني يستثمر سجلات مختلفة، خاصة المذكرات، حيث تستهل الرواية بدفاتر السيدة جولي بييزوني (1811 - 1815) زوجة أحد الضباط في جيش بونابرت المصري، التي كانت مقربة من الجنرال ومن شخصيات معروفة في عالم السياسة والفن والأدب، وانطلاقاً من دفاتر هذه السيدة تتعرض الرواية لبعض التفاصيل التي تتعلق بشخصيات وأمكنة ورموز متعددة تقرب القارئ من أجواء مرسيليا خلال مرحلة ما بعد خروج نابليون من القاهرة، خاصة الإطاحة بالجنرال بونابرت وعودة الملكية ودخول الحلفاء إلى فرنسا. 
وبرغم أن الدفاتر تسلط الضوء على التجربة الذاتية الخاصة بهذه السيدة التي انفصلت عن زوجها لتتخذ من التذكر أداة للنفاذ إلى أعماق الذات، حيث تلعب الدفاتر دور المرآة الكاشفة بالنسبة إليها، فإن قربها من أجواء المعارك والمؤامرات والخيانات الكامنة في صميم السلطوية، جعلها تقتنص سمات مختلفة من حيوات من انتموا إلى هذه المرحلة. 
إذن، بالإضافة إلى دفاتر السيدة جولي، تلفت الانتباه كذلك دفاتر السيد أنطونيو دو باسكالينو (1815)، وهو صحفي إيطالي حل بمرسيليا بعد الإطاحة بالجنرال من أجل التحقيق في المجزرة التي تعرض لها المماليك في «ميدان بوفيه» و«مرتفعات مازارك» في مرسيليا، إما بسبب اللون أو الهوية أو عدم القدرة على نطق اللغة الفرنسية.
يقوم هذا الصحفي الإيطالي بالتحقيق في هذه المجزرة، بعد تلقيه رسالة من مجهول يبدو على معرفة بالصحفي وباهتماماته، حيث يخبره بواقع الحياة اليومية للمهاجرين المصريين والشوام والإثيوبيين.
وتلعب الرسالة دوراً مهماً في وصل الرواية بهموم الشخصيات، من خلال استراتيجية التحقيق، حيث يجري التقاط آراء الشخصيات وتسجيل ملاحظاتهم التي يغلب عليها البوح والنفاذ إلى الأعماق، مما يضفي على كتابة الرواية سمات ذاتية تنبثق من ربط النص بالحياة والتجربة الشخصية الخاصة بالأبطال. وبهذا المعنى يحقق داغر للرواية تعدداً في الأصوات واللغات والمنظورات. فصوت السيدة جولي يختلف عن صوت السيد دو باسكالينو في المنظور والرؤية إزاء تلك الأحداث.

حضور البعد التاريخي
تنطوي الرواية على دينامية سردية يعمق أثرها التحقيق الذي قامت به نور الفتاة المصرية التي فقدت والدتها في ظروف غامضة من دون أن تتمكن من ترميم صورة واضحة عن الظروف التي جعلتها تأتي إلى فرنسا، مع أنها كانت أمية لا تعرف القراءة والكتابة. في الميتم تعلّمت نور القراءة والكتابة، وعندما كبرت بدأت تستشعر غياب والديها، خاصة أمها، فقررت بدء رحلة البحث عنها انطلاقاً من مرسيليا وتقصّي أخبارها من الأشخاص الذين كانوا قريبين منها، خاصة ريمون كوليت وحسين.
وبما أنها لم تجد في مرسيليا ما يشفي غليلها حول هوية والدها وظروف اختفاء أمها، فقد حرّك فيها كتاب بعنوان «مسار بونابرت» مجموعة من الشكوك حول هويتها، وهذا ما دفعها إلى الذهاب إلى مصر بحثاً عن والدتها. ها هنا تمثّل العودة إلى القاهرة مع حسين العامل في المرفأ، الذي مثّل دليلها في هذه الرحلة، فرصة لدخول شخصيات مهمة في التاريخ الحديث إلى عالم الرواية وأحداثها مثل المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي ومحمد علي وجنرالات كثيرين كانوا قريبين من بونابرت، إضافة إلى السيدة زبيدة زوجة الجنرال مينو التي ستزود الطفلة نور بمعلومات مهمة عن والدتها.
وعبر هذه الخيوط التي تنسجها الرواية تعيد نور ترميم صورة والدتها التي كانت خادمة في بيت السيدة زبيدة وقبلها في قصر الجنرال، وكانت تتميز بإتقانها إعداد الكنافة، كما ترمم هويتها باعتبارها ابنة للجنرال الذي كان يعشق والدتها التي كانت خادمة في قصره، وعندما أطيح ببونابرت انتقم منها مناصرو الملكية ومثّلوا بجثتها. 
يمكن القول إن هذه الرواية تشتمل على إمكانات واسعة يستمدها الكاتب من أحداث ونصوص وتجارب ماضية، مما يظهر قدرة الرواية على التقاط الحقائق العميقة حول الحياة والفكر المعاصرين. كما أن حضور البعد التاريخي فيها لا يعني أن الروائي يستعيد بكيفية مباشرة الأحداث والوقائع والشخصيات التي لها صلة بالمرحلة التاريخية التي يقوم بتمثيلها عبر وساطة اللغة والتخييل، لأن ذلك يتنافى مع مقتضيات الشكل الروائي الذي يشيد عالماً من خلال اللغات والشخصيات التي تعبّر عن مواقف وأفكار مختلفة.
إن هذه البنية المركبة التي يستوحيها الكاتب، ويستدخل عبر منافذها شخصيات وأحداث ولغات إلى عالم روايته، هي ما يضفي الحياة على الماضي، ليفصح عن مجهولاته من خلال نماذج من الشخصيات تحقق الاختلاف والتمايز على صعيد التجربة والموقف من الحياة. وبهذا المعنى تغني الرواية السرديات المنجزة حول هذه الحقبة بما تقدمه من ضروب الكشف عما هو قابع تحت السطح، لتقدمه بثقوبه وثغراته وضوضائه. وبسبب هذا البناء المفتوح والمركّب تتعين كل رواية باعتبارها معركة ضد الحدود.
وأعتقد أن استعمال الرواية التاريخية باعتبارها متناً لمجموعة من الوثائق هو استعمال اختزالي، لأنه لا يسمح بفهم أهمية تلك الرواية، وتقدير ما تنطوي عليه من قيمة باعتبارها مرآة لعصرنا. ففي نهاية الأمر، الرواية التاريخية الجيدة لا تحكي لنا عن الماضي الذي فات، بل إنها تتحدث عنا نحن اليوم ■