مقومات البناء الحضاري... العمل والعلم والثقافة والفن

مقومات البناء الحضاري... العمل والعلم والثقافة والفن

نحن في أواخر شهر كريم سيمضي، ويهلّ علينا هلال عيد الفطر السعيد، فنفرح به طاعة وعرفاناً وشكراً لله سبحانه وتعالى، وندعوه أن يعم الخير والحب والسلام جنبات العالم. في هذه الأيام يتألم الملايين في البلاد العربية المنكوبة من التشرد والجوع والخوف، فلنسأل العلي القدير أن يردهم إلى ديارهم سالمين ويطعمهم من جوع ويأمنهم من خوف. 

ولعل‭ ‬ثقافتنا‭ ‬الإسلامية،‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬دولة‭ ‬الكويت‭ ‬بكل‭ ‬فخر‭ ‬شعارها‭ ‬كعاصمة‭ ‬لهذا‭ ‬العام‭ ‬2016م،‭ ‬قد‭ ‬وضح‭ ‬أثرها‭ ‬على‭ ‬أفراد‭ ‬الشعب‭ ‬والجمعيات‭ ‬الخيرية‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الرسمية‭ ‬فيها،‭ ‬للمساهمة‭ ‬في‭ ‬إنقاذ‭ ‬أشقائهم‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬شتات‭ ‬الفُرقة‭ ‬ونكبات‭ ‬الحروب‭. ‬فبينما‭ ‬تجاهد‭ ‬الجمعيات‭ ‬الخيرية‭ ‬لتدعم‭ ‬الأحبة‭ ‬السوريين‭ ‬في‭ ‬المخيمات‭ ‬خارج‭ ‬بلادهم‭ ‬وتقدم‭ ‬لهم‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬تتحرك‭ ‬المؤسسات‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬لرأب‭ ‬صدع‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬طرفي‭ ‬النزاع‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬الشقيق‭. ‬لقد‭ ‬فتحت‭ ‬دولة‭ ‬الكويت‭ ‬ذراعيها‭ ‬واحتضنت‭ ‬طرفي‭ ‬النزاع‭ ‬اليمني‭ ‬في‭ ‬دارها،‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬الطرفان‭ ‬إلى‭ ‬حلٍ‭ ‬سلمي‭ ‬مُرضٍ‭ ‬يُسعد‭ ‬الطرفين،‭ ‬بأمل‭ ‬عودة‭ ‬ديارهم‭ ‬كما‭ ‬عهدناها‭ ‬االيمن‭ ‬السعيدب‭. ‬ولا‭ ‬نشكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬مشاعر‭ ‬الأخوة‭ ‬والحب‭ ‬العربية‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭ ‬جميعا،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬قبس‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬نعيم‭ ‬السلام‭ ‬يغمر‭ ‬الروح‭ ‬العربية‭.‬

وإذا‭ ‬تمعنّا‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬النزاعات‭ ‬والصراعات‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المنكوبة‭... ‬سورية‭ ‬والعراق‭ ‬وليبيا‭ ‬واليمن،‭ ‬لرأينا‭ ‬أنّ‭ ‬النزاعات‭ ‬الطائفية‭ ‬والمذهبية‭ ‬مطية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أغراض‭ ‬سياسية،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬الأطراف‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬صاحب‭ ‬حق‭ ‬وأنّ‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬باطل،‭ ‬فتزيد‭ ‬الفرقة‭ ‬ويلتهب‭ ‬النــــزاع‭. ‬تحت‭ ‬ظلّ‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬تنتشر‭ ‬سُحُب‭ ‬الظلام‭ ‬وتعلو‭ ‬صيحات‭ ‬الضلال،‭ ‬لتغرس‭ ‬أظفار‭ ‬الشر‭ ‬في‭ ‬قلــــوب‭ ‬النـــاس،‭ ‬فلا‭ ‬تزيدها‭ ‬إلا‭ ‬تعصباً‭ ‬وتطرفاً‭ ‬وانحرافاً،‭ ‬ليحل‭ ‬العنف‭ ‬محل‭ ‬العفو،‭ ‬ويجف‭ ‬من‭ ‬القلوب‭ ‬النفع‭ ‬ويغلفها‭ ‬العفن‭. ‬هناك،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الإحساس‭ ‬بالفرحة‭ ‬والسعادة‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬أو‭ ‬العيد‭ ‬كسابق‭ ‬عهده،‭ ‬فباتت‭ ‬تكدره‭ ‬الآلام‭ ‬والأحزان،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬الحزن‭ ‬عادة‭ ‬يومية،‭ ‬وتقهقرت‭ ‬السعادة‭ ‬فكانت‭ ‬نسياً‭ ‬منسياً‭. ‬

فقدت‭ ‬الخطابات‭ ‬السياســــية‭ ‬صدقيتها،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬المحاكم‭ ‬الدولية‭ ‬العالمية‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬حلولاً‭ ‬جذرية‭ ‬لمعاناة‭ ‬الشعوب‭. ‬أما‭ ‬الخطابات‭ ‬الدينية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الإنسان‭ ‬والحياة،‭ ‬فقد‭ ‬ارتدَت‭ ‬رداء‭ ‬السواد‭ ‬والموت،‭ ‬واندفعت‭ ‬لترفع‭ ‬رايات‭ ‬الجهل‭ ‬وتهميش‭ ‬العقل،‭ ‬ولتُبَشِّر‭ ‬وتُحذِّر‭ ‬وتزدري‭ ‬وتُحَقِّر،‭ ‬وأكثر‭ ‬تلك‭ ‬الرايات‭ ‬تعكس‭ ‬أطروحات‭ ‬هامشية‭ ‬ركيكة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭. ‬ولا‭ ‬ندري‭ ‬لماذا‭ ‬تنادي‭ ‬تلك‭ ‬الخطابات‭ ‬الدينية‭ ‬بالعذاب‭ ‬والنقمة‭ ‬والألم‭ ‬والشقاء،‭ ‬لدين‭ ‬سلام‭ ‬يُبشِّر‭ ‬بالثواب‭ ‬والرحمة‭ ‬والأمل‭ ‬والهناء،‭ ‬لينقلب‭ ‬بذلك‭ ‬الإحساس‭ ‬بالأمن‭ ‬إلى‭ ‬وسواس‭ ‬مِحَن،‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬دماء‭ ‬الغلاة‭ ‬ملوثاً‭ ‬بالعنف‭ ‬والسبّ‭ ‬واللعن؟‭ ‬كثيرون‭ ‬يشتكون‭ ‬بأنّ‭ ‬أعياد‭ ‬اليوم‭ ‬والمناسبات‭ ‬والاحتفالات‭ ‬تغيرت‭ ‬عما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬وبأنها‭ ‬أصبحت‭ ‬مملة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حُجبَت‭ ‬السعادة‭ ‬وتبرقع‭ ‬وجه‭ ‬الفرح‭ ‬عنها‭! ‬وأصبح‭ ‬الكلّ‭ ‬في‭ ‬العيد‭ ‬بعيداً،‭ ‬فإما‭ ‬مواطن‭ ‬مسافر‭ ‬وإما‭ ‬مشرد‭ ‬مهاجر‭. ‬أي‭ ‬أمل‭ ‬وأي‭ ‬عمل‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬البائس‭ ‬الباكي؟‭! ‬وأي‭ ‬ثقافة‭ ‬أو‭ ‬إبداع‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يُقدّمه‭ ‬اليائس‭ ‬الشاكي؟‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أملنا‭ ‬امَوْتب‭ ‬وعملنا‭ ‬افَوْتب‭ ‬وثقافتنا‭ ‬اصَوْتب‭. ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬تتقدم‭ ‬حتى‭ ‬تبني‭ ‬لها‭ ‬منزلا‭ ‬وتكون‭ ‬لها‭ ‬منزلة‭ ‬في‭ ‬سُلّم‭ ‬الحضارات،‭ ‬ونحن‭ ‬نتراجع‭ ‬ونُكسّر‭ ‬أعمدة‭ ‬ثقافتنا‭ ‬ونهدم‭ ‬أطلال‭ ‬إنجازات‭ ‬حضارتنا،‭ ‬لكي‭ ‬نبكي‭ ‬ويضحك‭ ‬على‭ ‬بكائنا‭ ‬الآخرون‭. ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬العلم‭ ‬وحده‭ ‬طريقا‭ ‬للتقدم‭... ‬

وإنّما‭ ‬الأمم‭ ‬الأخلاق‭ ‬ما‭ ‬بَقِيَت

فإنْ‭ ‬هُمُ‭ ‬ذهبت‭ ‬أخلاقهم‭ ‬ذهبوا

وأخلاق‭ ‬الأمم‭ ‬تُقاس‭ ‬بمنهجها‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬قِيَم‭ ‬وسلوكيات،‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬إتقان‭ ‬العمل‭ ‬وحُسْن‭ ‬التعامل‭. ‬والعمل‭ ‬إنتاج‭ ‬المفيد‭ ‬فكرة‭ ‬وحرفة،‭ ‬صناعة‭ ‬وزراعة،‭ ‬أما‭ ‬التعامل،‭ ‬فهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬دوائر‭ ‬تتسع‭ ‬حلقاتها‭ ‬باتساع‭ ‬علاقات‭ ‬الذات‭ ‬بالمحيط‭: ‬النفس،‭ ‬الأسرة،‭ ‬ذوي‭ ‬القربى،‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬الزملاء،‭ ‬المجتمع،‭ ‬الدولة،‭ ‬الجوار،‭ ‬الإقليم،‭ ‬العالم‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬دائرة‭ ‬العالم‭ ‬هي‭ ‬الإطار‭ ‬الأكبر،‭ ‬فالعالم‭ ‬الصغير‭ ‬إطاره‭ ‬النفس،‭ ‬كمثل‭ ‬الموجات‭ ‬الصوتية،‭ ‬كلما‭ ‬صَغُرت‭ ‬كانت‭ ‬الأقرب‭ ‬مكاناً‭ ‬والأقوى‭ ‬أثراً‭. ‬ولا‭ ‬تستقيم‭ ‬حركة‭ ‬هذه‭ ‬الدوائر‭ ‬إلا‭ ‬بالتراتب‭ ‬والحبّ،‭ ‬ولا‭ ‬ينجح‭ ‬الحب‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطرفين،‭ ‬وإلا‭ ‬أصبح‭ ‬غراماً،‭ ‬يغرم‭ ‬فيه‭ ‬طرف‭ ‬عن‭ ‬طرف،‭ ‬شعوراً‭ ‬ووقتاً‭ ‬ومالاً‭ ‬وحالاً‭. ‬ولا‭ ‬مجال‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬العشق،‭ ‬فإنه‭ ‬انجذاب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬طرفٍ‭ ‬إيجابي‭ ‬إلى‭ ‬طرفٍ‭ ‬سلبي،‭ ‬دون‭ ‬الاكتراث‭ ‬إلى‭ ‬معرفــــة‭ ‬شعـــور‭ ‬الآخر‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬نذكر‭ ‬االهوىب،‭ ‬الذي‭ ‬اشتق‭ ‬اسمه‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬هواء،‭ ‬وهو‭ ‬متغير‭ ‬باتجاهاته،‭ ‬متغير‭ ‬بنوعــــه،‭ ‬ساخن‭ ‬أو‭ ‬بارد،‭ ‬عاصف‭ ‬أو‭ ‬ساكن‭. ‬ودائرة‭ ‬النفس‭ ‬تعشق‭ ‬الفنّ،‭ ‬صوتا‭ ‬وصورة‭ ‬وحركة،‭ ‬بالسمع‭ ‬والبصر‭ ‬والفؤاد،‭ ‬ولا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬بلا‭ ‬إفراط‭ ‬أو‭ ‬تفريط،‭ ‬لقوله‭ ‬عزّ‭ ‬وجل‭: ‬‭{‬إِنَّ‭ ‬السَّمْعَ‭ ‬وَالْبَصَرَ‭ ‬وَالْفُؤَادَ‭ ‬كُلُّ‭ ‬أُولَئِكَ‭ ‬كَانَ‭ ‬عَنْهُ‭ ‬مَسْئُولًا‭}‬‭ (‬الإسراء‭ - ‬الآية‭ ‬36‭). ‬

إنّ‭ ‬تحريم‭ ‬الفنّ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صحيحا‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الضرر‭ ‬على‭ ‬دوائر‭ ‬التعامل‭ ‬المجتمعي‭ ‬التي‭ ‬ذكرناها‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر،‭ ‬فالتحريم‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬بنص؛‭ ‬قطعي‭ ‬الدلالة،‭ ‬قطعي‭ ‬الثبوت،‭ ‬لا‭ ‬ظنّ‭ ‬فيه‭. ‬وترانا‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬موسومون‭ ‬بالتخلف‭ ‬الحضاري‭ ‬بجريرة‭ ‬خطاب‭ ‬ديني‭ ‬يحرم‭ ‬الفنّ‭ ‬والذي‭ ‬ظنّ‭ ‬معتنقوه‭ ‬ومتداولوه‭ ‬أنّه‭ ‬مفسدة‭ ‬للإنسان‭ ‬والمجتمع،‭ ‬وأوّلوا‭ ‬نصوصاً‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬والسنّة‭ ‬الشريفة‭ ‬وطوّعوها‭ ‬لتتماشى‭ ‬مع‭ ‬ظنّهم‭ ‬وهوى‭ ‬رأيهم‭. ‬ولو‭ ‬تفحصنا‭ ‬مسيرة‭ ‬الحضارات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬للفت‭ ‬انتباهنا‭ ‬أنّ‭ ‬قمة‭ ‬الهرم‭ ‬الحضاري‭ ‬هي‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي،‭ ‬بما‭ ‬يحويه‭ ‬من‭ ‬إبداعات‭ ‬علمية‭ ‬وأدبية‭ ‬وفنية‭. ‬إنّ‭ ‬تحريم‭ ‬الحلال‭ ‬أمر‭ ‬خطير،‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬منه‭ ‬كثيرون‭ ‬ممن‭ ‬ظنوا‭ ‬أنّ‭ ‬الورع‭ ‬هو‭ ‬الوسطية،‭ ‬وخلطوا‭ ‬بين‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬وبين‭ ‬التشريع‭ ‬الديني‭ ‬ومقاصده،‭ ‬ورفعوا‭ ‬العادات‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬العبادات،‭ ‬واستغلوا‭ ‬التقاليد‭ ‬كمقاليد،‭ ‬توصلهم‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬التشريع‭ ‬في‭ ‬التحريم‭ ‬والتحليل،‭ ‬حتى‭ ‬عَدّوا‭ ‬كل‭ ‬إبداعٍ‭ ‬بدعة،‭ ‬وكل‭ ‬خطوة‭ ‬إلى‭ ‬الأمَامِ‭ ‬خطيئة،‭ ‬وفسروا‭ ‬أمور‭ ‬الدنيا‭ ‬بتفاسير‭ ‬أرجعوها‭ ‬لنصوص‭ ‬دينية،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬إلا‭ ‬لأنهم‭ ‬أرادوا‭ ‬أن‭ ‬يَحكموا‭ ‬ويتحكموا‭. ‬

لذا‭ ‬نرى‭ ‬أنّ‭ ‬مرجعية‭ ‬العلوم‭ ‬كلها‭ ‬قد‭ ‬آلــت‭ ‬إليهم،‭ ‬رغم‭ ‬عدم‭ ‬التخصص‭! ‬فكل‭ ‬مرض‭ ‬له‭ ‬عندهم‭ ‬دواء؛‭ ‬رقية‭ ‬أو‭ ‬عشبة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬بول‭ ‬بعير‭! ‬وإن‭ ‬تساءلت‭: ‬هل‭ ‬بالنجاسة‭ ‬شفاء؟‭ ‬أجابك‭ ‬بوجــــود‭ ‬نصّ‭ ‬ديني‭ ‬ليؤكد‭ ‬بذلك‭ ‬زعمه‭ ‬وادعائه،‭ ‬وبما‭ ‬أنّ‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬النص‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬للاجتهاد،‭ ‬فلا‭ ‬بدّ‭ ‬ألا‭ ‬تُكذِّب‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬بهذا‭ ‬النصّ‭ ‬وإلا‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬الإيمان‭ ‬والإسلام،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬حتــى‭ ‬يَسُدّ‭ ‬عليك‭ ‬طريق‭ ‬الحق‭ ‬ويقودك‭ ‬إلى‭ ‬درب‭ ‬الخنوع‭ ‬والخضوع‭ ‬والاستسلام‭ ‬لرأيه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مناقشـــة‭ ‬أو‭ ‬تفكــــير‭. ‬

في‭ ‬تاريخ‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬كل‭ ‬روّاد‭ ‬العلوم‭ ‬قد‭ ‬كُفِّروا‭ ‬أو‭ ‬فُسِّقوا،‭ ‬فمن‭ ‬الأطباء‭ ‬كُفِّر‭ ‬أبو‭ ‬بكر‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬زكريا‭ ‬الرازي‭ ‬وابن‭ ‬سينا‭ ‬وأبو‭ ‬القاسم‭ ‬الزهراوي‭ ‬وابن‭ ‬النفيس،‭ ‬وفي‭ ‬الفيزياء‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬الهيثم،‭ ‬وفي‭ ‬الفلسفة‭ ‬الكندي‭ ‬والفارابي‭ ‬وابن‭ ‬رشد،‭ ‬وفي‭ ‬علوم‭ ‬الفلك‭ ‬عمر‭ ‬الخيام‭. ‬وفي‭ ‬تاريخنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬حُرّم‭ ‬الراديو‭ ‬والهاتف‭ ‬والسينما‭ ‬والمسرح‭ ‬والتلفاز‭ ‬والفيديو‭ ‬وأجهزة‭ ‬البث‭ ‬والاستقبال‭ ‬الفضائي‭ ‬وأجهزة‭ ‬الهواتف‭ ‬المحمولة‭! ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬كيف‭ ‬أصبح‭ ‬الحرام‭ ‬حلالاً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دليل‭ ‬أو‭ ‬نصٍّ‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬قولٍ‭ ‬أو‭ ‬كتاب‭ ‬مبين‭. ‬

واليوم،‭ ‬أصبح‭ ‬الفنّ‭ ‬الهادف‭ ‬المحترف‭ ‬الرزين‭ ‬أشد‭ ‬أثراً‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مجالات‭ ‬التلقي‭ ‬الأخرى،‭ ‬ليكون‭ ‬أصدق‭ ‬إنباء‭ ‬من‭ ‬الكتبِ‭. ‬ولعل‭ ‬فيلما‭ ‬سينمائيا‭ ‬واحداً،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كُتِبَ‭ ‬وأُخرج‭ ‬بحرفية‭ ‬وموضوعية،‭ ‬يعطيك‭ ‬بساعات‭ ‬قليلة‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعطيك‭ ‬إياه‭ ‬مائة‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭ ‬نفسه‭. ‬ولعل‭ ‬فكرة‭ ‬تحارب‭ ‬الطائفية‭ ‬والعنف‭ ‬والإرهاب،‭ ‬تُعرض‭ ‬في‭ ‬حلقة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬لمدة‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬الساعة،‭ ‬تستحوذ‭ ‬على‭ ‬فِعْلٍ‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬المُتَلقي‭ ‬والمشاهد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬خطاب‭ ‬ديني‭ ‬أو‭ ‬سياسي‭. ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬نراه‭ ‬واضحاً‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬الأخرى،‭ ‬كالرسم‭ ‬والغناء‭. ‬

ولعل‭ ‬أغنية‭ ‬واحدة‭ ‬تحرّك‭ ‬جماهير‭ ‬غفيرة‭ ‬للعمل‭ ‬والبناء‭ ‬الجاد‭. ‬لقد‭ ‬أدرك‭ ‬المتحضرون‭ ‬أهمية‭ ‬الفن‭ ‬فاستخدموه‭ ‬كوسيلة‭ ‬ناجحة‭ ‬وفاعلة‭ ‬لمخاطبة‭ ‬الشــعوب‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وتحفيز‭ ‬نفوسهم‭ ‬إلى‭ ‬التقدم‭ ‬والبناء‭ ‬والإنتاج‭ ‬العملي‭ ‬والبحث‭ ‬العلمي،‭ ‬والارتقاء‭ ‬بمستواهم‭ ‬الثقافي‭ ‬والحضاري‭ >‬