الأم... أصابع البيانو

الأم هي الوالدة، وهي سرسوب اللبن الأسطوري الذي لا يجف، (السرسوب هو اللبن الأول بعد ولادة البقر والجاموس)، وهي الكف المربتة في المحن والشدائد، وهي السلطة اللينة بعد شدة الأب، وهي المكحلة التي تحدد وتخطط العيون وتضع أسس الحياة، وهي عصا غلية الغسيل التي تؤدبنا لشقاوتنا (كانت الأمهات قديماً يقلِّبن غسيلهن الموضوع في إناء يغلي بعصا)، وهي قرصة الأذن لعدم قيامنا بأداء الواجبات المدرسية، وهي حبل الغسيل الممدود الذي نلقي عليه أوساخنا وملابسنا ومشكلاتنا، وهي الحضن الدافئ خوفاً واطمئناناً.
لو تأملنا كلمة «أم» فسنجد الألف يقف شامخاً وحارساً، كإبرة حانية تحيك بها ملابس أطفالها أو ترتق ما قطع في جلباب زوجها، مع أنه من النادر أن نراها الآن في يد الفتيات اللاتي هن أمهات المستقبل، وسنجد الميم تستقبلنا كميناء للراحة، نرسو عليه من طوفان الأيام المتقلبة، وملح يضبط طعم حياتنا، ومحيط مياه للاستحمام والتنظيف لا يجف، وماجور عجين (إناء من الفخار لصنع العجين) لمشكلات حياتنا التي لا تنتهي. ومقطورة حنان لا تنفد.
أما الأم ذ كتعبير مطلق ذ فهي الرحمة بلا حدود، وطاقــــة حنان لا مرادف لها، فإذا كان التحديد دون الإطلاق: فالأم كتاب للإمام الشافعي ذ رضي الله عنه، والأم روايـــة للـــــروسي ماكسيم جوركـــــي، و«الأم شجاعة» مسرحية لبريخـــــت من ألمانيا التي كانت شرقية، و«أم الولد» هي الأم التي حملت من سيدها وأتت بولد.
والأم بالتأكيد لفظ مؤنث لكنها حين تزداد أنوثة تصبح: أمّة، والأُمَّة جمع من البشر يتفاعل في المصالح والتقاليد داخل الوطن، فإذا خفضت تشديد الميم مع فتحها تتحول إلى (أمَة) أي الجارية، وبين الأمّة المشددة والأمة المحررة تقع المرأة الشرقية، وتثور، وتناضل أيضاً.
وأم كل شيء: أصله وما يجتمع إليه غيره، لذا نجد: أمّ البشرِ حوّاء، وأم الكتاب سورة الفاتحة، وأم القرى مكة، ويقال عنها أيضاً أم الرحمات، وأم أبيها السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وكان الرسول يناديها بـ«أم أبيها»، لأنها كانت تراعيه كما تراعي الأم ولدها.
ولأن أم كل شيء أصله فعليه يقال إن فاطمة هي أصل شجرة النبوة. وأم المؤمنين لقب يطلق على جميع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أكثر من أطلق عليهن كانت زوجته السيدة عائشة بنت أبي بكر، وأم معبد وهي واصفة الرسول الكريم ، وهي صحابية استضافت النبي في خيمتها أثناء رحلة هجرته من مكة إلى المدينة. وقد سألها شراء شيء يأكلونه، ولم يكن عندها شيء. فرأى النبي شاة لها هزيلة، فاستأذنها في حلبها، فلم تمانع، فوضع يده الشريفة على ظهرها وسمى الله ثم دعا بالبركة، فامتلأ ضرعها لبناً، فشرب هو وصاحبه ثم رحل.
وأم هاشم، وأم العواجز، من الألقاب التي تطلق على السيدة زينب الطاهرة الشريفة رضي الله عنها حفيدة النبي ، صاحبة المقام الشهير بالقاهرة.
ويظل الدين الإسلامي أكثر دين سماوي أوصى بالأم ومكانتها، وكرر تلك الوصية، فقال سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (سورة لقمان - آية 14).
الأم: أصابع البيانو، تلك التي تمتلك أصابع محددة، ولكنها تطلق كثيراً من الألحان التي لا تحصى في حياتنا، فهي الرقة القاسية، والحنان المشع، والقلب الكبير، والقلق الدائم، لذا يقول الإمام الشافعى فيها:
واخْـضعْ لأمّــك وارضها،
فعقوقها إِحْـدى الكِبرْ.
ويقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
الأمّ مدْرسةٌ إِذا أعْـددْتها
أعْـددْت شعْبـاً طيِّب الأعْـراقِ
ويوجد بعض النساء أطلق عليهن اسم الأم كصفة، مع أنهن لم ينجبن، كالسيدة صفية زغلول (أم المصريين) وهي زوجة الزعيم سعد زغلول، وابنه مصطفى فهمي باشا رئيس وزراء مصر الأسبق، لقّبت بـ«أم المصريين» إثر مشاركتها في التظاهرات النسائية إبان ثورة 1919. وقد عاشت مع الزعيم سعد زغلول في بيت الأمة بمنطقة المنيرة في وسط القاهرة.
وإذا ما تركنا بيت الأمة واتجهنا شرقاً ناحية مقام سيدنا الحسين فسنجد بجواره ضريح «أم الغلام»، وأم النور المدبرة المعالجة، صاحبة البركات والنفحات، وهي مريم بنت عمران، السيدة العذراء والدة سيدنا عيسى المسيح عليه السلام، ويقال عنها «أم النور تدبر الأمور»، لقدرتها على قضاء الحاجات وعلاج الأمراض، والأم تريزا راهبة ذات أصول ألبانية كانت تدعو إلى الصلاح والحب، برفقة مجموعة ضخمة من الأطفال المشردين والعجزة، وهي تكنى بهم وتراعيهم، حازت جائزة نوبل للسلام عام 1979، وتوفيت في كالكتا في 5 سبتمبر 1997م بعد مرض عضال. اسمها الأصلي آغنيس جونكزا بوجاكسيو.
وتشتهر مصر بلقب «أم الدنيا»، ويعتقد كثيرون أن السبب وراء هذه التسمية هو المزايا والخيرات التي منحها الله سبحانه وتعالى لمصر وتميزها عن غيرها من البلدان، ولكن هذا خطأ شائع، فتسميتها بذلك الاسم تعود إلى السيدة هاجر زوجة سيدنا إبراهيم، وأم سيدنا إسماعيل عليهما السلام، وكان يطلق عليها «أم العرب»، حيث إنها كانت مصرية ومن قرية اسمها الفرما في مصر.
وإذا تركنا حجر الأم وبدأنا في الانطلاق والمشاغبة، فسنجد أنواعاً مرعبة من حشرات وعناكب، مثل «أم أربعة وأربعين»: وهي دويبة سامة كثيرة الأرجل وهي مخيفة، لذا يطلقها البعض على بعض السيدات اللاتي يظهرن كثيراً من الحسد والخداع والمكر في حياتهن، وأم الحيط (تقال للعقرب ذ وهي في الأصل أم الحائط، في حين أن العقرب كان يطلق عليها قديماً: أم عريط وأم ساهرة)، وأم قويق وهي البومة، ذات رأس مستدير ورقبة مسطحة وسيقان طويلة.
وقد يقال عليها أم السهر، وهي تعيش في كثير من الأماكن، وقد تكنى بها المرأة التي تثير الكثير من المشكلات أينما حلت، حيث إن لسانها هو الذي يسبق تصرفاتها، ودائمة الشجار، و«أم أدراص» حيوان قاضم يشبه الفأر، وأكثر الحيوانات التي تحمل اسم «أم» هو الضبع، ويختلف اسمه وفق المنطقة، خاصة المناطق الصحراوية، فنجده يطلق عليه: أمّ رِمالٍ، وأم جعار، وأم عامر، وأم عمرو، وأم جابر.
بينما نجد أن أم هبيرة وهي أنثى الضفادع، وأم حلس وهي الأتان أي أنثى الحمار، وأشهر أتان في التاريخ تلك التي حملت سيدنا المسيح عيسى عليه السلام وأمه مريم بنت عمران وبرفقتهما سيدنا زكريا عليه السلام في رحلة هروبهم من هيرودس إلى مصر.
وأم عـــــوف تقال لأنثى الجراد، وأم حباحب: دويبة مثل الجندب مختلفة الألوان، تطير كالذباب فـــي الليل يضـــــيء ذنبها كالـــسراج، والأم الكاذبة هي حالة تظهر عند فقدان ملكة النحل لسبب من الأسباب، وتتطوع إحدى العاملات لتقوم مقام الملكة بوضع البيض ويكون غير مخصب، وأم قسطل تعني المنية، أي الموت والداهية التي تصيب القوم، وسموها هكذا لأنها تثير الغبار الكثير. والقسْطل أيضاً شجرٌ من الفصيلة البلّوطِيّة، له ثمرٌ كثير النّشاء يؤكل مشوِياً، ويعْرف في مصر بـأبي فرْوة.
وأم سحلول (كانت شخصية كاريكاتيرية في مجلة البعكوكة) وأم لبانة (تقال للأنثى المدللة التي تلوك اللبان - العلكة، في فمها دون عمل شيء)، وأم زغلول (الحمامة)، وأم شنب (الأنثى التي تهمل شؤون أنوثتها)، وأم غربال (التي تتكسب من تنظيف الحبوب في البيوت)، وأم كلّوب ذ بتشديد اللام ذ تكون المرأة ذات الفك البارز جداً بشكل يوحي بالافتراس.
وأم الصبيان قرينة تتخذ من المرأة موقف الإيذاء، وهي تظهر ليلاً مدفوعة بالحسد والغيرة، وأمنا الغولة، أسطورة شهيرة عن المرأة التي تخرج من الترعة ليلاً وتنادي على من يسير بها ثم تخطفه ولا يعود، وكانت الأمهات تذكرها لإخافة صغارها كي يناموا ولا يتمادوا في السهر، و«أم الشعور» امرأة اشتهرت بأداء الألعاب البهلوانية، وكانت تستطيع أن تسير فوق الحبل على ارتفاع كبير، وتحمل معها شاة صغيرة فتذبحها كأنها تسير فوق الأرض، عاشت في عصر الخديو إسماعيل بمصر.
والأمّ كاسم، هي العلم في مقدّمة الجيْش، لكن أحسن حالاتها عندما تصير فعلاً، حيث أمّتِ المرأة أمومة أي صارت أمًّا، وأمّ البيْت: قصده وتوجّه إليْهِ، وأمّ خصْمه أي أصاب أمّ رأْسِهِ، ويقال ضربه على أم رأسه، ويقال في الذّمّ والسّب، لا أمّ لك، وقد تكون للمدح أو التعجب.
وفي الأمثال يقال «أم الأخرس تعرف بلغي ابنها»، أي إن أم الأخرس الأصم تتعود على إشارة ابنها وتعرف لغته وتفهم ما يريد، و«الأم تعشش والأب يطفش»، والمراد أن الأم تحوط على صغارها وتحنو عليهم، وهو يضرب لحنان الأم، و«أم قويق عملت شاعرة في السنين الوعرة»، أي إن البومة لا تحسن إلا الصياح في الأماكن الخربة، فمن العجائب أن تدعي نظم الشعر!
وإذا ما اخترقنا عالم النباتات فسنجد، أمّ رميْل: نبات حرِّيف الرائحة ينمـــو بشكل أساسي في المناطق الدافئة ويتـــضمّن بعـــض نباتات الزينة، وأمّ غيلان من نباتـــات شجر السَّمُر، وهو من جنس السّنط من الفصيلة القرنيّة، وهو الطّلح، و«أمّ وجع الكبد»، وهو عشب مفترش أملس، أوراقه صغيرة بسيطة، يفيد في أمراض الكبد، وينبت في أوربا وبلاد البحر المتوسط.
وكل فتاة منذ مهدها تحلم بحلم الأمومة، نرى هذا واضحاً في كل فتاة وهي تلعب بعروسة صغيرة وتحتضــــنها وتطعمها، ما يظهـــر أن عاطفة الأمــــومة وفعلها مرتبطان ارتباطاً بيولوجياً بالأنثى ذ أي أنثى ذ وبالتالي فإنــنا نغضب ونثور عندما تلقي الأم أبناءها رغبة في زوج جديد أو حلم تحلم به بمــــفردها، ونتجــــنبها لــــهذا السبب ونخشاها لعدم فهمها تلك العاطفة الربانية.
ولأن حضن الأمومة وحجرها يتسعان للكثير، فقد جاء منه التأميم، وهو إخضاع عدد من الشركات والمؤسسات للدولة جبراً، وكان أشهر تأميم في التاريخ الحديث، تأميم البترول في عهد مصدق بإيران في منتصف أربعينيات القرن الماضي، وتأميم قناة السويس في مصر عام 1956، وبسببه تم العدوان الثلاثي على مصر.
وكثير من دول العالم لجأت للتأميم في فتراتها التاريخية الحرجة، وهو ما أتبعه أن صارت الحكومة أمّاً للشعب، إلا أن شعوبها لم تدرك هـــذا، وظـــلت عاشقة لهذه الأمـــــومة الحكومية، حيــــث يلــــجأ النـــاس في كل تصرفاتهم إلى حكوماتهم، حتى بعد أن صارت حكوماتهم أمهات عاجزة كسيحة لا تقدم لهم أي شيء.
وكثير من الناس يعتبر الحكومة هي الأم التي يلجأ إليها، وخاصة في منطقة الشرق الوسط، ولكنها أم لا ترعى أبناءها ولا تهتم بهم أو حتى تدللهم، وللدلالة على ذلك، أنه فور فطام كثير من الشعوب العربية، بدأت الاضطرابات، وإن كان الكثير يتمنون العودة إلى حضن الأم حتى لو كانت عاجزة لا تلبي أي طلبات وفقد حضنها الحنان والبر.
والأمومة حلم كل فـــــتاة منذ فهمها الحياة، ومهما ارتفع شأنها أو حصلت على مكاسب أو مناصب أو درجات تعليمية، ستظل الأمومة هي الحلم والأمل المنشود، لكن أخطر ما يواجه الأم في العصر الحديث التكنولوجيا، وهو ما جعل دورها يتمحور ويختلف ويبدو محدوداً وإن كانت الأعباء قد زادت عليها، وفي الحقيقة فإن التكنولوجيا تعيق توصيل حبها للبشرية.
فنجد علمياً ظهور لفظ الأم البديلة، وهي امرأة تحمل الجنين (أي يؤجّر رحمها لحمل جنين)، وهذا يكون بنقل البويضة المخصبة لرحمها من امرأة أخرى، وذلك لعدم مقدرة الأم الواهبة على الإنجاب بيولوجياً.
وبالتالي، فإنها تحـــمل وتلد طفــلاً وهي ليست الأم البيولوجــــية للطفل. لاحــــــظ أن هذا يختلف من امرأة تصـــبح حاملاً عبر الإخصاب.
وإذا ما استرحنا من تلك الرحلة، فسنعود ذ حتماً - إلى حضن الأم، حيث نحتفل بعيدها في بداية شهر الربيع من كل عام، وتحديداً في اليوم الحادي والعشرين من شهر مارس من كل عام، ويكون جميلاً أن نلتهم بعضاً من «أمّ الخلول» وهو حيوان بحريّ من الرخويات، عبارة عن محارة صغيرة الحجم بيضاء الصّدفة، تكثر في البحر المتوسِّط تملّح وتؤكل، وبه نسبة عالية من الفوسفور المفيد للرجال وللخصوبة، وبجواره طبق من «أم جابر»، وهو طعام شهي من الحَبّ المدقوق واللحم، بعدها سنختم تلك الوجبة العامرة بطبق «أم علي» الممتلئ بالرقاق والسكر والغارق في الزبدة واللبـــن الدافئ الشهي كلبن الأم، حيـــث يكون مناسباً أن نستمع لأم كلثوم وهي تشدو إحـــدى أغنياتها أو لفايزة أحمد وهي تغني أغنيتها الخالدة: «يا رب يخليكي يا أمي» ■