التعليم في ظل مفهوم الاقتصاد المعرفي

يعد التعليم من أهم قواعد صناعة التنمية الاقتصادية، ولذا فإن غياب الوعي نتيجة إهمال التعليم إلى جانب عديد من المشكلات السياسية والأمنية والاجتماعية أسهم في صناعة مفهوم اقتصاد اليأس في العالم العربي، كما أسهم في ذلك أيضاً تكريس ثقافة الانقسام والصراعات في كل المجالات، مع إهمال البحث العلمي، إلى جانب الإشكالية الخاصة بتطبيق العلم في العالم العربي وإمكانية التحول إلى مجتمع الاقتصاد المعرفي وتطبيق العلم في الحياة، ما يعد من أكبر التحديات العلمية. ببساطة لابد أن لكل شيء تتعلمه في الحياه تطبيقاً، وإلا فإن التعليم يفقد قيمته.
العلاقة بين العمل والتعليم علاقة طردية، أي كلما زاد التعليم زادت معه فرص العمل المناسبة، وأعتقد أن أهم مخرجات للتعليم تكمن في أكثر من محور وأهمها:
المحور الأول
الوضع الاجتماعي والتأثــــير في المجتمع، حيث إنه كلما زاد معدل التعليم والمعــــرفة انعكس ذلك على المهارات الاجتماعية الخاصة بالشخص مع المجتمع، مثل حل المشكلات وتوقعها وإدارة الأزمات وصناعة القرارات والتأثير في الغير، وغيرها من المهارات.
المحور الثاني
هو الانعكاس المادي، أي إنه كلما زاد التعليم زاد المقابل المادي، وخصوصاً في ظل نظرية الندرة النسبية، وكلما زادت ندرة التعليم وطلب سوق العمل لهذا التعليم زاد المقابل المادي، ما ينعكس على حياة الفرد الشخصية وعلاقته من حوله.
المحور الثالث
هو محور الرضا الداخلي والشعور بالتقدير الداخلي، وهو ما يسبب توازناً نفسياً للشخص، كما أنه كلما كانت نوعية وجودة التعليم ذات محتوى قيم كان لا بد أن تتزامن مع تدريب يسهم في اكتساب الخبرات سريعاً، وهذا بالطبع أفضل كثيراً من الاعتماد على الخبرة العملية فقط، فقياس التكلفة والعائد في التعليم مهم, فإذا أصبح التعليم تكلفة بلا عائد فلا قيمة له ولا هدف منه. هذا إضافة إلى أهمية امتلاك الموهبة الشخصية، لأنها أساس النجاح مع العمل والتعليم لخلق مكانة متميزة، سواء في سوق العمل أو حتى في الحياة الشخصية، فإن الموهبة إذا تمت إدارتها بالأسلوب المناسب، مع تعليم ذي جودة فإنها ستحقق نتائج باهرة على المجالات كافة.
من المهم أن يدل تعليم الفرد على موهبته وقدراته وإمكانيته، لأن التعليم مهما كانت قيمته إذا كان ضد مهارات ومواهب الفرد الشخصية فإنه يصبح عملية مدمرة، لأنه من جهة يبعد الفرد عن مواهبه ويكسبه تعليماً غير نافع، لأنه في الغالب لم يؤثر في الشخص، التعليم من دون موهبة نصف نجاح، والموهبة بلا تعليم أكثر من نصف النجاح والتعليم والموهبة النجاح بعينه.
ومن الضروري أيضا فهم العلاقة بين التعليم والموهبة والتأثير على سوق العمل.
مصطلح التعليم غير المكلف
وهو تعليم قليل التكاليف وقد يكون العائد الاقتصادي له قليلاً أو متوسطاً أو كبيراً، وغالباً ما يكون تعليماً نظرياً من دون تجارب أو تطبيق أو أبحاث أو تفاعل علمي، أو تنمية القدرات العلمية والشخصية، وينتشر التعليم غير المكلف في الوطن العربي، حيث الكليات النظرية ذات الأعداد الكبيرة، من دون النظر إلى جودة التعليم. فعلى سبيل المثال إحدى الكليات في إحدى الجامعات العربية العريقة لا يوجد فيها معامل للحاسب الآلي تغطي أعداد الطلاب، ما يؤدي إلى تعليم برامج الحاسب الآلي نظرياً على الورق، بدلاً من استخدام المعامل!! فتحول الهدف من إجادة مهارة للطالب إلى حفظ منهج ونسيانه بطبيعة الحال بعد الدراسة! التعليم الأمثل هو القائم على أركان (التعلم والبحث وتطوير المهارات الشخصية والمهنية). الفساد والروتين والمحسوبية وزيادة عدد الخريجين، أدت إلى زيادة المعروض من رأس المال البشري، فمهما زاد الطلب على العمالة فإن العرض يزيد على الطلب، بما يعني صعوبة في وجود فرص عمل حقيقية للشباب في الوطن العربي، وبالتالي فإن سوق العمل ليس مفتوحاً بما يعني أن العرض والطلب يواجهان تشويهاً في سوق العمل في الوطن العربي، وبما ينعكس سلباً على عديد من المشكلات والظواهر المجتمعية، وأهمها على الإطلاق البطالة، حيث إن البطالة ليست ظاهرة قاصرة على الاقتصاد الكلي ومؤشراته، بل هي ظاهرة في المجتمع تؤثر في ظواهر أخرى مثل نسب الجريمة والعنوسة. وقد ظهرت مفاهيم جديدة في التعليم للربط بين التعليم وسوق العمل، ومنها على سبيل المثال:
التعليم بالمحاكاة
وهو استخدام الطالب الأجواء الحقيقية التي سوف يمارس فيها مهمته أو مهنته بعد التخرج، ولكن في صورة تعليمية، سواء كان هذا باستخدام أجهزة، مثل استخدام جهاز محاكاة قيادة الطائرات والدبابات لطلاب الكليات العسكرية، أو محاكاة للمحاكم لطلاب الكليات القانونية على سبيل المثال، أو عقد مؤتمر للطلاب لمناقشة القضايا المطروحة لجامعة الدول العربية في نفس قاعة القمة العربية لطلاب العلوم السياسية. تسهم عملية المحاكاة Simulation في ربط التعليم بسوق العمل وتقليل الفجوة مع الواقع، وبالتالي عند التخرج تكون نسبة النجاح والتأقلم أعلى كثيراً ممن استخدموا النظريات فقط.
التعليم المرح
هو ذلك النوع من التعليم الذي يستخدم الألعاب، وخصوصاً للأطفال في بداية التعليم، ويعتمد على خلق ألعاب لها أهداف تعليمية، سواء كانت ألعاباً فكرية أو رياضية، وغير ذلك من ألعاب علمية وأناشيد ومسابقات، بالإضافة إلى اكتشاف الطفل وقدراته من خلال هذه الألعاب ووضعه في بيئة تخيلية (محاكاة صغيرة ومناسبة) للتركيز على إبداعاته، وهذا المفهوم تقريباً غائب في العالم العربي، فقد جاء في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عام 2014 أن نحو 43 في المائة من الأطفال في الدول العربية يفتقرون إلى المبادئ الأساسية للتعليم، سواء كانوا في المدارس أو خارجها. كما جاء فيه أيضاً أن 36 في المائة فقط من الفتيات في اليمن، على سبيل المثال، حصلن عن قدر من التعليم الأساسي!!
التعليم التفاعلي
هو التعليم القائم على المشاركة مثل الندوات والدورات التدريبية والمؤتمرات، وأبرز مثال على ذلك هو تدريب مجموعة من الطلاب على كورس تدريبي معين، ثم يدرب هؤلاء الطلاب بعد ذلك زملاءهم في الجامعة تحت إشراف أكاديمي، وبذلك يتم إعطاء الفرصة لصنع قيادات طلابية وتعظيم الاستفادة للطلاب وتشجيع البحث والتعليم التفاعلي.
ذكرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو» في تقرير لها عام 2011 أن أكثر من ربع سكان الوطن العربي مازالوا محرومين من التعليم ومواصلة التعلم، كما أشارت إلى أن معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في الدول العربية وصل إلى 72.9 في المائة، أي إن نسبة الأمية تصل إلى 27.1 في المائة. الأمل في التعليم والمعرفة في العالم العربي موجود، وبالطبع الصورة ليست قاسية هكذا، فهناك جهود كبيرة تبذل على أرض الواقع، على سبيل المثال تصنيف الجامعات العربية في تصنيف شانغهاي لعام 2014، وهو أحد أهم التصنيفات للجامعات في العالم، ويعتمد الأداء في ما يتعلق بالبحوث، ولاسيما البحث العلمي، من دون الأخذ بعين الاعتبار جودة التعليم، كما تشمل معاييره مرور الحائزين على جوائز نوبل، سواء من خلال الدراسة أو التدريس (20 في المائة من العلامة الممنوحة) ونجاح الخريجين (10 في المائة)، وحجم الدراسات والأبحاث المنشورة في مجلتي «ناتشر» و«ساينس» البريطانيتين (20 في المائة)، ونسبة الإشارة إلى تلك البحوث والجامعات في وسائل الإعلام والمجلات العلمية (20 في المائة)، ونسبة الإشارة إلى الباحثين في السنوات الخمس الأخيرة (20 في المائة) والأداء الأكاديمي (10 في المائة)، وجاءت جامعة الملك عبدالعزيز السعودية الأولى عربياً في المركز 156، متبوعة بجامعة الملك سعود في المركز 157. وحلت جامعة القاهرة ثالثة على المستوى العربي في المركز 410 عالمياً، ثم حلت جامعة العلوم والتكنولوجيا في الرياض بالمملكة العربية السعودية في المركز 426، متبوعة مباشرة بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المركز 427.
نموذج للأمل العربي في التعليم وتطبيقه «مشروع مسبار الأمل في الإمارات»، ففي مايو 2015 أعلن نائب رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إطلاق اسم «مسبار الأمل» على مسبار المريخ الإماراتي. وينطلق المسبار الإماراتي في رحلة تستغرق 9 أشهر يقطع خلالها أكثر من 60 مليون كيلومتر، وستكون دولة الإمارات ضمن 9 دول في العالم فقط، لها برامج فضائية لاستكشاف الكوكب الأحمر. ومن المقرر أن يصل المسبار لكوكب المريخ في عام 2021، تزامنا مع الذكرى الخمسين لقيام دولة الإمارات. وتهدف وكالة الإمارات للفضاء إلى تنظيم القطاع الفضائي الوطني ودعمه ورعايته ودعم الاقتصاد المستدام المبني على المعرفة، والإسهام في تنوع الاقتصاد الوطني. وشدد نائب رئيس دولة الإمارات على أن «شباب الإمارات هم أمل للشباب العربي والمسلم، ونحن لا نعرف اليأس ولا المستحيل، واخترنا إطلاق اسم مسبار الأمل»، وهو المسبار الذي يقترب حجمه ووزنه من حجم ووزن سيارة صغيرة، سيحلق بسرعة 126 ألف كيلومتر في الساعة في رحلته الكونية التي يبلغ طولها 600 مليون كيلومتر، والتي ستستغرق 200 يوم. كما أنه سيدور حول كوكب المريخ حتى عام 2023، ويقوم في هذه الفترة بإرسال معلومات إلى الأرض ليحللها المختصون في دولة الإمارات ويتبادلوها مع أكثر من 200 مؤسسة في كل أرجاء العالم، ويتم المشروع بسواعد إماراتية، وهو نموذج لبناء الكوادر وربط التعليم بسوق العمل، فهناك عديد من الأفكار والمقترحات لتطوير التعليم وربطه بسوق العمل في العالم العربي، ومنها على سبيل المثال، ربط التعليم الأكاديمي في الجامعات بسوق العمل من خلال وحدات للتوظيف والتدريب وتنمية المهارات في الجامعات والمدارس العربية، وتطوير التعليم الفني والصناعي، والعمل على مكافأة الخريجين الأوائل والمتميزين، سواء للجامعات أو التعليم الفني من خلال قروض حسنة ومكافآت مالية لائقة، والتشجيع على فتح مشروعات وتشجيعهم على ريادة الأعمال والمساندة في مرحلة ما بعد فتح المشروع من خلال التدريب والاستشارات الفنية والمالية، وتشجيع ثقافة العمل الحر، والتعاون مع المجتمع المدني والجامعات لنشر ثقافة العمل التطوعي في المجالات كافة، وبالتالي ينعكس ذلك على الخبرة وكفاءة الطلاب في سوق العمل في المستقبل بعد التخرج، ودمج الأنشطة الطلابية في المقررات الدراسية، مع تصميم أنشطة طلابية تتناسب مع كل مرحلة من مراحل التعليم، سواء الجامعي أو ما قبل الجامعي.
وفي النهاية يحتاج الوطن العربي إلى مجهود ضخم وكبير من أجل التنمية الاقتصادية، وهناك كثير من العلامات المضيئة للتحول إلى الاقتصاد المعرفي والتنمية الاقتصادية، فالتعليم هو رأس المال الحقيقي للدول وأساس أي تنمية اقتصادية، وهي الحقيقة التي يعمل من أجلها دول العالم، وحتى إن كانت كل المؤشرات الدولية والإحصاءات تؤكد أن التعليم في الوطن العربي في حالة سيئة، إلا أن هناك أملاً وجهوداً قد تنعكس في المستقبل على التعليم، ولم لا؟ فقد نستطيع يوماً أن نغزو الفضاء أو نستحوذ على جوائز نوبل، فلن يتغير مفهوم اقتصاد اليأس إلا من خلال التعليم، ليصبح التعليم هو وقود التنمية بالعالم العربي في المستقبل ■