دور الثقافة في البناء الاجتماعي

دور الثقافة في البناء الاجتماعي

لا يمكن لأي شعب أن يتطور من دون أن يستثمرَ في الثقافة، ويُنشئ المؤسسات الثقافية القادرة على تحقيق التنمية الثقافية، جنباً إلى جنب مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية. والاستثمار في الثقافة يعني الاستثمارَ في إنسان الثقافة، أي المُبدع، الذي يُفكّر مع أصحاب القرار في استشراف مستقبل مجتمعه، وتحليل واقع هذا المجتمع، واستخدام الثروة في تقدّم هذا المجتمع ورخائه.إن الأموال قد تخلق تنميةً أسمنتية في شهور، وقد تُنشئ المصانعَ وتمدّ الشوارع والجسور، وتُقيم البنايات العملاقة، لكن هذا لا ينطبق على التنمية الثقافية! 

صحيح أن مخرجات الثقافة تعتمدُ على التمويل، وهذا أمر مهم إذا ما أردنا أن نَطبع كتاباً جديداً، أو نُخرجَ مسرحية مؤثرة، أو نُؤسسَ فرقة موسيقية جيدة، لكن الأهم أن يتم تعزيز دورِ الثقافة في النسيج الاجتماعي، وألا تكون الثقافة موسميةً، أو حسب الظروف التي يمرُّ بها المجتمع، أو أن تُربط بشخصية من الشخصيات.إن الفِرق المسرحية لا تستطيع تمويل نفسها بنفسها، وإن كانت هنالك فرق تُقدّم أعمالاً تجارية في المواسم وتكسبُ من وراء ذلك، ولكن ليست كلُّ الفرق على هذه الشاكلة! ذلك أن جمهور المسرح الجاد عادة ما يكون محدوداً ونخبوياً، على الرغم من تكلفة المسرحية. تماماً كما هي الحال مع النشر أو التلحين أو الفنون التشكيلية أو الفيلم، وغيرها من المُخرجات الثقافية. لقد صرفت دولٌ عديدة على الحفاظ على ثقافاتها وفنونها، برغم ظروفها المادية الصعبة، وأيضاً برغم نمطِ أنظمتها الصارم والبوليسي، مثل الاتحاد السوفييتي سابقاً ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا. كما احتفت دولُ أمريكا الجنوبية برموز الثقافة لديها أيما احتفاء، ومازلنا نشاهد تماثيل الرموز الثقافية المُبدعة في الساحات العامة في أمريكا وأوربا ودول الكاريبي وآسيا، لذا، فإن صرفَ الدولة على الثقافة يأتي ضمن خططها التنموية، تماماً كما هي الحال مع الصرف على مناحي الحياة الأخرى. والاستثمار الأمثل في الثقافة يُحتّم أن تتم مأسَسة الثقافةُ وفق خطةٍ وعبر مشاريع مُستدامة، لا تتعلق بوجود مسؤول نَشط أو مُتحمس، ثم يأتي بعدهُ مسؤولٌ غير ذلك؛ وتموت تلك الخطط والمشاريع التي وضعها الأول. 
ومن نتائج الاستثمار الثقافي إيجادُ صفٍ ثانٍ للمبدعين الذين تقدَّم بهم العمر أو تُوفوا، وهذه مسؤولية كبيرة لابد أن تُناقش بصراحة وشفافية، ولابد من استشراف المستقبل، عبر ضمانات وشواهد رقمية، فمثلاً: كم من الكُتاب المسرحيين أحتاج؟ وكم من شعراء الأغنية، والروائيين، والموسيقيين، والمخرجين (الإذاعة، التلفزيون، المسرح)، والتشكيليين والمصورين، وكم من صالات العرض أحتاج إليها لخطة التنمية، سواء بعد عشرة أو عشرين عاماً؟! وماذا يتطلب ذلك من لوازم البنى التحتية، كي يعمل هؤلاءُ وفق أُسسٍ علمية وفنية، وبتفاهم مع المؤسسات أو الوزارات الأخرى المنوط بها وضع الخدمات الأساسية.. وليس على هوى الظروف أو الأشخاص؟ كما يتطلب الاستثمار في الثقافة الرجوع إلى المدرسة، وتخصيصُ فِرق عملٍ تبحث عن المواهب، وتُوجهُهم الوجهةَ الصحيحة، وهذا عمل مؤسَسي، يقوم على وضع الأهداف، وصوغ الوسائل، بما في ذلك تضمين المناهج بعض المقررات التي تسهم في اكتشاف المواهب وتوجيهها نحو الهوايات أو الأشكال التي من الممكن أن يُبدعوا فيها. إن الاستثمار الثقافي يعني إعدادَ الكوادر المؤهلة لإنتاج الثقافة، وهذه قضية مهمة، ضمن حالات «المقاربات الاجتماعية» في التوظيف، والتي تسهم في تكدُّس موظفين بعيدين عن الهَمِّ الثقافي، بل ولا توجد لديهم رؤية للخطط الثقافية! إن الشعوب تُقاس – على المستوى الدولي – بعطاءات وإنتاج أبنائها في الميادين المختلفة! صحيح أن أرقام الإنتاج المادي/ الاقتصادي مهمة، وتسهم في البناء المجتمعي من النواحي الصحية والتعليمية والاجتماعية، ولكن العالم ينظر بتقدير للعطاءات الإبداعية الثقافية والفنية، وعدم تركها رهينة المصادفة أو المزاج أو الظروف.
قد تستورد البلدانُ الصناعة والزراعة وكماليات الحياة، إلا أنها لا يُمكن أن تستورد الثقافة، لأن الإنتاج الثقافي ينبتُ في الأرض، ويقوى ويتفرع على الأرض!
لذا، فإن توطين الثقافة وإنسانها من الأمور المهمة التي تعود بالنفع على المجتمعات، والثقافة «المجلوبة» سوف ترحل يوماً، وإن ظلت فترة من الزمن، كما أن رموزها يرحلون من دون أن يؤسسوا شيئاً في المجتمع. وتوطين الثقافة يعني أن نؤسس لثقافة وطنية أصيلة، ونساعد المبدعين في التخصصات المختلفة، ونُجزل لهم العطاء، كما يحصل في المجالات الأخرى، بما في ذلك توفير أدوات الثقافة وحاضناتها. وعلينا أن نسأل أنفسنا - على صعيدنا المحلي مثلاً - كم نحتاج من فروع الثقافة، وما الوسائل التي تعيننا على تحقيق مستلزمات تلك الحاجة؟ لأن المبدعين البارزين اليوم هم في طريق الرحيل، وبعضهم لا يمكن تعويضه إلا بعمل جاد وشاق.إن الثقافة مرآة عاكسة لواقع حال المجتمعات، ولا يمكن التعبير بصدق عن أي مجتمع إلا عبر فنون وإبداعات أبناء الأرض. وإذا كان الإنسان هو أغلى الثروات، كما سمعنا في مناسبات عدة، فإن الإنسان المثقف يجب أن يكون ضمن هذه «الحِسبة» .