وجهًا لوجه: الشاعر والروائي محمد الأشعري وعبد الرحيم العلام

وجهًا لوجه: الشاعر والروائي محمد الأشعري وعبد الرحيم العلام
        

 

  • تخلصت من أوهام الاعتراف بي ليس عن زهد، بل من قراءة نصوص باحث أقنعتني أننا نكتب كي نبقى على قيد الحياة
  • إذا لم تنجح الدول في تجديد نخبها فسوف تزيل الجماهير السدود التي تحيط بالبرك الأسنة كما حدث في مصر وتونس

          يعتبر محمد الأشعري واحدا من أبرز وجوه الثقافة والأدب والسياسة في المغرب وفي العالم العربي. بدأ مساره الإبداعي بكتابة الشعر والقصة القصيرة، قبل أن ينعطف نحو كتابة الرواية، وقد صدرت له في هذه الأجناس الأدبية مجموعة من الأعمال الأدبية التي عرفت طريقها إلى الترجمة إلى عديد اللغات الأجنبية. فضلا عن ذلك، عرف محمد الأشعري بكتاباته الصحفية المؤثرة، حيث حقق عموده الصحفي اليومي الشهير، على سبيل المثال، الذي كان ينشره في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، جريدة الحزب الاشتراكي التقدمي الذي ينتمي إليه محمد الأشعري، والمعنون بـ «عين العقل»، إقبالا كبيرا على قراءته وتلقيه على نطاق واسع، لما تتميز به كتابات الأشعري الصحفية عموما من بعد نظر، وعمق في التحليل، وجرأة في الكتابة والنقد. كما عرف الملحق الثقافي الأسبوعي للجريدة، إبان تحريره من قبل محمد الأشعري، تحولا ملحوظا وإقبالا كبيرا على قراءته وتداوله من لدن شريحة واسعة من قراء الجريدة ومتتبعي ملحقها الثقافي.

          عين محمد الأشعري وزيرا للثقافة والاتصال ثم وزيرا للثقافة، حيث عرفت وزارة الثقافة في عهده قفزة نوعية ومنعطفا جديدا، بفضل ما تمكن محمد الأشعري من إنجازه ووضع لبناته على مدى عشر سنوات قضاها على رأس هذه الوزارة، حيث تم، لأول مرة في المغرب، إطلاق مجموعة من المشاريع الثقافية والعمرانية التي عرفت طريقها نحو الإنجاز والتحقق والامتداد، من قبيل إطلاق تجربة «الأعمال الأدبية الكاملة»، وسلسلة «الكتاب الأول»، ووضع سياسة متوازنة للدعم، كدعم الكتاب والمسرح والجمعيات، وتقوية الشراكات والاتفاقيات الثقافية والاستثمارية مع شركاء ومؤسسات فاعلة داخل المغرب وخارجه.

          كما تم إبان تولي الأشعري لحقيبة وزارة الثقافة الشروع في تشييد بعض المعالم الثقافية والفنية الكبرى بالمغرب، من قبيل إنشاء «المكتبة الوطنية للمملكة المغربية» و»المتحف الوطني للفنون المعاصرة» و«المعهد الوطني للموسيقى والكوريجرافيا»، وغيرها من المنجزات والمشاريع الكبرى التي يرجع الفضل في إطلاقها، وفي إخراجها إلى حيز الوجود لوزير الثقافة الأسبق محمد الأشعري.

          وهو تقريبا الأثر نفسه الذي راكمه وخلفه محمد الأشعري إبان رئاسته لاتحاد كتاب المغرب لثلاث فترات متتالية، حيث عرفت هذه المنظمة الثقافية العريقة إبان رئاسة الأشعري لها تحولا وتطورا ملحوظين، كما شهدت قفزة نوعية مهمة، على مستوى التنشيط الثقافي، والانفتاح على الكتاب الشباب، وحركة النشر، وإنشاء جائزة الاتحاد للأدباء الشباب، وتطوير مجلة الاتحاد «آفاق»، وتوسيع علاقات الاتحاد وشراكاته الداخلية والخارجية.

          واللافت في هذا المسار السياسي والإداري والثقافي الحافل، هو أن محمد الأشعري وإن غادر وزارة الثقافة، فهو لم ينخرط كليا في متاهة تأمل طويلة، بل عاد مباشرة، وبشوق مشتهى، إلى صنعته الأصلية، وإلى عوالمه الإبداعية الأثيرة، فبقي بذلك وفيا لكيانه، مواصلا عطاءه للثقافة المغربية بصيغ أخرى، بل إنه حتى وهو يمارس السياسة بعمق، فإن خلفيته هي دائما خلفية ثقافية وإبداعية بالدرجة الأولى.

          إن الصورة التي يرتضيها اليوم محمد الأشعري لنفسه، هي صورة ذلك الشاعر الذي صاره منذ سبعينيات القرن الماضي، وبقي مدينا لها، كما بقي وفيا لكل ما هو نبيل وجميل في هذا الكون، بمثل وفائه وانتصاره للكتابة عموما.

          لقد توجت، هذه السنة، روايته «القوس والفراشة» بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، في الوقت الذي حققت فيه روايته الأولى «جنوب الروح» ترحيبا لافتا بها من قبل القراء والنقاد، منذ لحظة صدورها، بما راكمته هي أيضا من متابعات وقراءات ودراسات نقدية وتحليلية، اعتبارا لطابعها الحداثي المختلف، والمبشر آنذاك بولادة روائي مغربي جديد، ستكون له من دون شك كلمته في مشهدنا الروائي المغربي والعربي.

          صدرت لمحمد الأشعري مجموعة من الدواوين الشعرية، وهو الجنس الأدبي الذي ارتبط به كاتبنا بشكل بارز ومهيمن منذ بداياته مع الكتابة، ولا أدل على ذلك من عدد الدواوين الصادرة له إلى حد الآن، داخل المغرب وخارجه، منها: «صهيل الخيل الجريحة»، «عينان بسعة الحلم»، «يومية النار والسفر»، «سيرة المطر»، «مائيات»، «سرير لعزلة السنبلة»، «حكايات صخرية»، «كتاب الشظايا»، كما صدرت له مجموعة قصصية واحدة بعنوان «يوم صعب» عام 1992.

          وقد تعمدت في هذا الحوار أن تكون كل محطات هذا المسار الحافل بالإبداع والعطاء والإنتاج والتأثير، حاضرة في هذا الحوار مع الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري، لكونها محطات متداخلة فيما بينها، وشغلت حيزا مهما من تجربة كاتبنا الحياتية والإبداعية والصحفية والنضالية والسياسية، بما هي محطات يلقي من خلالها الشاعر والروائي محمد الأشعري المزيد من الضوء على بعض الأسئلة والقضايا التي تشغل حركة الإبداع والثقافة في وطننا العربي.

  • متى وكيف تملكتك حرقة كتابة الرواية. وما الدوافع الذاتية والإبداعية التي تقف وراء تحويلك البوصلة، فجأة، نحو كتابة الرواية، قادما إلى إغرائها الجميل من الشعر والقصة والصحافة. وهل معنى هذا أنك قد هجرت، بشكل مؤقت أو نهائي، الكتابة القصصية؛ هذا الجنس الأدبي الذي بدأت به تجربتك السردية، وأصدرت في إطاره، إلى حد الآن، مجموعة قصصية واحدة فقط، هي «يوم صعب»؟

          - لا أعتبر التنويع في أجناس الكتابة مسألة اعتباطية ، فالأمر في الأساس مرتبط باختيارات جمالية وفكرية هي التي توجه بوصلة الكتابة، هناك من ينتقل بين الإبداع والتنظير والنقد، ويتوافر مع ذلك على مشروع واحد يحمله بأدوات مختلفة، وهناك من نذر حياته لتعبير أدبي واحد، بل وحتى لنص واحد، دون أن ينتقص ذلك من تعدديته العميقة التي تقع في صلب كل مغامرة إبداعية. شخصيا أعتبر أن مشروعي الأساسي سيظل شعرياً، على الأقل في ما يخصني، أبحث له باستمرار عن روافد متنوعة، في علاقة بالنثر الذي أكتبه وبالفنون التي أتابعها بشغف لا ينفصل عن الكتابة. عندما انتهيت من كتابة رواية «القوس والفراشة»، أحسست بخواء كبير، ثم سرعان ما التقطت خيوطا متناثرة لأنسج منها قصائد جديدة نشرتها تحت عنوان «يباب لا يقتل أحداً»، وهو الديوان الذي أسلمني مباشرة لتجربة شعرية كثيفة شكلت بالنسبة لي أفقاً لم أكن أتوقع ارتياده، وقد أحسست بامتنان عميق للرواية التي كانت بشكل ما رحماً لهذه التجربة الشعرية الجديدة، وقد حدث لي أن وقفت عند تفصيل ما في مقطع من الديوان الجديد «كتاب الشظايا» فقادني إلى نص مسرحي لا أعرف ما الذي سيحمله لي من مفاجآت. لا أعرف ما إذا كان ضروريا أن نخضع الكتابة لقانون مرور ينظم عبور الحدود الوهمية بين الأجناس.

          عندما كنت أشتغل بانتظام في الصحافة، كان يستهويني أن أكثف لحظات عابرة من أحداث المدينة في قصص قصيرة نشرتها دون أن أكون متأكداً من هويتها، هل هي قصص؟ أم حكايات صحفية؟ أم تأملات في وقائع منذورة للنسيان، قد أعود مرة أخرى إلى هذا الشكل؟ لا أعرف، لقد أصبحت فعلا متحرراً من استبداد الجنس الأدبي، ولو إلى حين.

  • عرفت في بداياتك شاعرا قبل أن تستهويك مغامرة كتابة الرواية، وإن لم تغادر كتابة الشعر. فهل ذلك معناه أن الشعر لم يعد يستجيب كليا للتعبير عن نثرية الحياة وتغيرها وتفاصيلها؟ أم هو ركوب موضة كتابة الرواية في عالمنا العربي، بعد أن جذبت إلى سحرها وإغرائها العديد من كتابنا ومفكرينا وشعرائنا وغيرهم؟ وهل يمكن القول إن هذا الانعطاف نحو كتابة الرواية يشكل اليوم ظاهرة مميزة لمشهدنا الإبداعي العربي ككل؟

          - في الشعر إمكانات غير محدودة، لكن الوصول إليها أمر شاق، وقد يستغرق حياة بأكملها، ولا أنكر أن الرواية تمنح أدوات أقل تعقيداً وأكثر مرونة للإمساك بتفاصيل المسارات والتحولات والمصائر، وهو ما يسمح أيضاً بتجريب أصوات ولغات متعددة، لكن الكتابة ليست مراهنة على السهولة، وليس مؤكدا ًأن شاعراً سيئاً يمكن أن يكتب رواية جيدة، أنت تقول إن هناك ظاهرة في مشهدنا الإبداعي، هي انعطاف جارف نحو الكتابة الروائية، اسمح لي أن أشك في ذلك، عندما أنتبه إلى الأرقام أدرك أن الإنتاج الروائي العربي لا يصل إلى عشر إنتاج بلد أوربي متوسط، وليس هناك حتى اليوم تجربة روائية عربية واحدة استطاعت أن تفرض نفسها على العالم، هناك بعض الكتابات اللافتة وبعض الترجمات الناجحة، ولكن ليست هناك حتى الآن ما يمكن تسميته بالظاهرة الروائية العربية قياساً على الظاهرة الأمريكية اللاتينية أو الظاهرة اليابانية مثلا.

  • عطفا على سؤالي السابق، كنت دائما أقول إن روائيينا المغاربة ممن انعطفوا جزئيا أو كليا نحو كتابة الرواية، قادمين إليها من مجالات واهتمامات وحقول تعبيرية ومهنية مختلفة، هم من أضفوا على روايتنا المغربية، والعربية عموما، نكهة وسحرا ونفسا روائيا وتخييليا جديدا، وتمكنوا بالتالي من الإضافة إلى منجزها الإبداعي والتراكمي العام؟
    فهل تشاركني هذا الرأي الذي قد يغضب بعض روائيينا المرسخين، ممن لهم رصيد كبير في مجال كتابة الرواية، لكن العديد من نصوصهم، على كثرتها، تبقى محتشمة، ولم تترك صدى لافتا لدى القارئ العربي والأجنبي؟

          - مرة أخرى، سأحتمي بنسبية الأشياء، كم نحن، كتاباً «راسخين» و»كتاباً نازحين»، في بلد كبير كالمغرب ؟ وما هو التراكم الذي سيسمح لنا بفرز المنجزات الاستثنائية في حقل الرواية؟ أعتقد أننا نخطو ببطء شديد في هذا المجال، وباستثناء أسماء قليلة حققت نوعاً من الانتظام في إنتاجها، فإن ما يطبع هذا الإنتاج عموماً هو الندرة والمسافات الزمنية الواسعة بين نص وآخر.

          أما إذا كنت تقصد أن الحوار بين مختلف التعبيرات الإبداعية يساهم في إنتاج نصوص أكثر قوة وكثافة، فأنا أتفق معك تماماً، بل أعتبر أن المعطى الجديد في الكتابة الحديثة، هو القدرة على تنويع التعبيرات داخل الجنس الواحد، فالرواية اليوم هي مجال لعبور تقنيات مختلفة من الشعر والسينما والتشكيل والموسيقى وغيرها، وكل كتابة منكفئة على الحدود الضيقة لجنسها، هي كتابة فقيرة. وفضلا عن ذلك لا أعتقد أن الكاتب عندما ينتقل إلى الكتابة في جنس جديد، يضع جانباً تجربته ومشروعه السابقين، إن الأستاذ عبد الله العروي مثلا لم ينعطف عن مجالاته الفكرية الحيوية، ليكتب رواية خارج مشروعه، إنني أعتبر الرواية من صميم مشروعه إن لم تكن بؤرته الأساسية.

  • هل تعتبر فوز روايتك المتميزة «القوس والفراشة» بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية للعام 2011، بمنزلة اعتراف جديد بك روائيا عربيا جديدا؟ وهل بهذا الفوز أصبحت اليوم ترتضي صورة هذا الروائي الذي صرته أكثر من صورة الشاعر الذي كنته، وعرفت بها منذ سبعينيات القرن الماضي، دون أن أعني بذلك أنك قد تتنكر لصورة ما على حساب أخرى؟

          - لقد تخلصت منذ زمن بعيد من أوهام الاعتراف، لا أكتب أصلا للحصول على ذلك، وليس في الأمر أي زهد مفتعل، بل فقط نوع من السكينة، اكتسبتها من قراءة نصوص باهرة، أقنعتني بشكل لا رجعة فيه بأننا لا نكتب لدخول غمار منافسة يائسة، بل فقط لنبقى على قيد الحياة ولنحب أنفسنا وغيرنا بشكل أفضل. ما يهمني في هذه الجائزة تحديدا هو كونها فتحت لي مجالا للتواصل مع قراء مختلفين وفي لغات متعددة، وهو شيء يشعرنا بجدوى الكتابة في بلد يحاول بشتى الوسائل أن يقنعك بأن الكتابة مجرد صيحة في واد.

  • يبدو جليا اليوم أن كتابة الشعر والرواية قد استهوتك بشكل لا رجعة فيه. وبودنا أن نعرف، نحن القراء، كيف يتوزع ذلك الشاعر الذي سكنك منذ مدة الأدوار مع هذا الروائي الذي أصبح يسكنك، وكيف تقسم اليوم زمنك الإبداعي بين هذين الجنسين التعبيريين الكبيرين اللذين يتنازعانك، كتابة وصورة وحضورا؟

          - لدي مع الشعر علاقة غير مرتبة، وفي الآن نفسه تعودت على ترتيب مواعيدي معه بنوع من الحدس المنظم، أعيش أحيانا فراغات طويلة ومقلقة، تعقبها فترات تدفق سخي، ويلزمني أحيانا أن أسافر في نصوص وأمكنة أخرى لالتقاط خيط جديد. بعد انتهائي من كتابة «القوس والفراشة» شعرت بخواء كبير، ثم ما لبثت أن عثرت على ضوء قادني إلى كتابة ديوان «يباب لا يقتل أحداً»، وهي نصوص أنقذتني من يباب ما بعد الرواية، وأسلمتني لتجربة جديدة عشتها بكثافة واستغراق وأثمرت ديوان «كتاب الشظايا»، هناك ما يشبه النسيج في علاقتي بالكتابة، أتبع الخيط، وأرى ما يراه، وأثق في النصوص الثاوية، تلك التي ترسل إشاراتها، وتعقد مع الكتابة حلفاً خارج التصنيف.

  • تشكل رواية «القوس والفراشة» امتدادا إبداعيا لروايتك الأولى «جنوب الروح». فهل هذا الامتداد، هنا، معناه أنك تؤسس لمشروع روائي عن استمرار السلالة، بتلوينات ووشائج عديدة وبمستويات شكلية ورمزية مختلفة، يبدأ في الروايتين معا برحم روائي وبفضاء عائلي مشترك، ليتفرع فيهما إلى مصائر جديدة ومغايرة؟

          - ليس لي مشروع روائي يجعلني أتعقب سلالة ما بهذا التصور المسبق، لقد كانت «جنوب الروح» بعد يوم صعب أول مختبر في تجربتي لكتابة الرواية، لكنني وجدت بسبب عودتي إلى أمكنة الرواية الأولى أن استدراج شخصيات منها إلى عملي الجديد، قد يساعدني على تغذية السرد بنوع من الإيهام بالتأريخ. والواقع أن «القوس والفراشة» تذهب إلى مناطق مختلفة من التخييل، تمتح من الحاضر ومن تحولات المدن ومن أسئلة المعيش، وهو ما يجعلها بعيدة جدا عن جنوب الروح التي نسجت حول الهجرة وموت الأمكنة.

  • مما لا شك فيه أن إقبالك على كتابة الرواية بهذا المستوى الإبداعي الرفيع، تقف وراءه قراءات عميقة ومكثفة في التراث الروائي العالمي. فهل لك أن تقربنا من طبيعة مقروءاتك الروائية التي ساهمت في تشكيل مرجعياتك الروائية. وكيف كان لبعضها التأثير المباشر على كتابتك لروايتيك الصادرتين لحد الآن، وأيضا على تحديدك لمفهومك الخاص للرواية؟

          - أقرأ الرواية بشغف، خصوصاً بالفرنسية التي تترجم إليها بانتظام مختلف التجارب الروائية العالمية، وقد استوقفتني لسنوات  الرواية اليابانية ورواية أمريكا اللاتينية، قبل أن أكتشف الرواية الألمانية والأمريكية الحديثة، الشيء الذي مكنني من تغذية قراءاتي العربية والكلاسيكية، بحساسية فنية وجمالية في منتهى التعدد والغنى، ولا شك أن هذه القراءة تحضرني بأصواتها الواضحة أو المضمرة، وأنا أنكب على تشكيل نصوصي الخاصة، لا يتعلق الأمر بإعادة إنتاج النصوص المقروءة، وإنما باستحضار أسئلتها الجمالية والتقنية، والاستفادة من منجزاتها. وفي هذا السياق، لا أدعي أنني طورت مفهوماً خاصاً لكتابة الرواية، كل ما في الأمر أنني أحاول أن أبني على أسباب واهية، عالما مقنعاً، وأن أفعل ذلك بلغة أحبها، وبطريقة حرة تحتفي باللعب والمغامرة، وتطمح إلى اقتسام متعة الكتابة قبل متعة الحكي.

  • تستند في كتابة روايتك «القوس والفراشة» إلى التفاعل مع مرجعية شعرية عميقة، تجلت على الخصوص في أشعار هولدرين، فضلا عن الطابع الشعري الذي يميز لغتك الروائية عموما. ففي نظرك، أنت الشاعر والروائي،  كيف يمكن للشعر وللشاعر أن يستفيدا من الرواية، وكيف يمكن للرواية وللروائي أن يستفيدا من الشعر؟

          - كنت دائما أقرأ هولدرلين بمتعة وتأثر كبيرين، وعندما بدأت كتابة فصل من الرواية بعنوان «فسيفساء نحن إلى الأبد» قادتني قراءاتي عن المدينة الأثرية الرومانية «وليلي» التي تدور فيها أحداث هذا الفصل إلى معلومات حول الحفريات الأولى في بداية القرن الماضي، والتي استعمل فيها الفرنسيون أسرى ألمان من الحرب العالمية الأولى، فراودتني فكرة توظيف هذه المعلومة للحديث عن كتاب شعري لأسير ألماني تركه تحت الأنقاض، وعند ذلك لم أجد أفضل من هولدرلين للتعبير عن هذه الواقعة المتخيلة، ولم أكن أعرف وقتها أن مكر النصوص الكبيرة سرعان ما يصبح أكثر هيمنة من المستعينين به، إذ سرعان ما أصبحت الروح الشعرية الهولدرينية، بتشظيها وهلوستها أهم سمة لهذا الفصل.

          أقرأ اليوم كثيراً من الشعر في النصوص الروائية، لا يتعلق الأمر باستفادة شكلية من الكثافة التي يمنحها الشعر للكتابة أياً كان جنسها، ولكن يتعلق في نظري بالأهمية القصوى التي أصبح بعض الكتاب الموهوبين، يولونها للغة في النص السردي، هناك اليوم إحساس مشترك للعديد من الروائيين بأن أهمية البناء، والشخصيات، والحكي، في الرواية، لا يمكن ـ في زمن سمته الأساسية هي تداول السهولة ـ أن يعوض قوة الكتابة، التي تقود حتماً إلى بروز الخصائص الشعرية للنص، مهما كانت أهمية عناصره الأخرى.

  • هل تتفق مع إحدى المقولات النظرية الروائية التي تقول إن كل عمل روائي يحمل عناصر من سيرة كاتبه، شاء هذا الأخير أم أبى. ومما لا شك فيه أن روايتيك «جنوب الروح» و»القوس والفراشة» تنخرطان في صلب هذه المقولة. فهل هذا التقاطع الذي تحققه روايتاك مع محطات من سيرتك الذاتية والعائلية، هو تقاطع مقصود ومفكر فيه من لدنك، أم أنه يدخل في باب لا وعي الكتابة؟

          - أتفق مع هذه المقولة، لا يمكن أن نكتب عن الأمكنة والعلاقات والقناعات من دون انخراط شخصي، يوجد دائما في ما نكتبه عن هذه الأشياء شيء شخصي بغض النظر عن ارتباطه بالذات أو عدم ارتباطه بها، وكمثال على ذلك فإن كتابتي عن وليلي وزرهون، لم تكن لتكون كذلك لولا علاقتي القوية والعميقة بها كأمكنة، ولكن لا شيء مما حدث فيها على مستوى الرواية، له علاقة بي.

  • تتأسس مجموعة من النصوص الروائية والشعرية، ومنها روايتك «القوس والفراشة» على ثيمة  «الخراب» و»الفقدان» في تجلياتهما الإبداعية والنصية المختلفة. غير أن هذه الثيمة تتخذ نفسها في روايتك الثانية عدة صور وتجليات، في إطار جدلية روائية قائمة بين المدينة والخراب، من خلال تضمين فضاءات تاريخية ومآثر عمرانية، ارتبطت أنت شخصيا ببعضها وجدانيا، ونوستالجيا، وإنسانيا، وإبداعيا، وحتى سياسيا (أي كوزير للثقافة).
    فهل يمكن أن نعتبر أن من بين أهم الأسئلة الأساسية لروايتنا العربية اليوم، هو سؤال المدينة العربية في تحولها نحو التلاشي والضمور والخراب؟

          - ربما تكون الرواية جوهرياً فناً لرصد الانهيار في تجلياته المادية والمعنوية، لا أعرف رواية تقوم على مديح الوضع القائم، الرواية تعبير عن المتحول والمنفلت والملتبس ولذلك تساعد إلى حد كبير على فهم العالم، وبالنسبة لي فقد كانت «القوس والفراشة» نوعاً من التأمل في الخرائب التي نبحث في أحشائها عن عناصر لبناء جديد، وليس في هذا الأمر أي نزوع للتشاؤم أو لرثاء الذات.

  • صدر لك عديد الدواوين الشعرية داخل المغرب وخارجه، وترجم بعضها إلى لغات أجنبية مختلفة، كما صدرت لك، إلى حد الآن، روايتان فقط، تمكنتا بدورهما من اختراق حاجز الجغرافيا وفضاء المقروئية الضيقة. ومما لا شك فيه أنه ستعرف روايتك الثانية «القوس والفراشة»، الفائزة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، طريقها إلى الترجمة إلى عديد اللغات العالمية، وهو في نظري من أهم ميزات هذه الجائزة، فضلا عن قيمتها الرمزية الرفيعة.
    ففي نظرك، باعتبارك كنت مسئولا لمدة على الشأن الثقافي بالمغرب، لم أهملنا، نحن العرب، باستثناء مبادرات لافتة في المشرق والخليج العربيين، الاهتمام، بالشكل المرتجى، بالترجمة من اللغة العربية وإليها، وما هي في نظرك مجالات المعرفة والإبداع ذات الأولوية في وقتنا الراهن، التي تستلزم منا ترجمتها وإيصالها إلى الآخر؟

          - بالنسبة للترجمة إلى اللغة العربية، أعتقد أن توحيد الجهود في مؤسسات عربية مختصة، مستقلة، يمكن أن يؤدي إلى وضع سياسات منسقة للترجمة،تجنبنا الاضطراب الكبير الموجود في هذا المجال والذي يطال الاختيار  والجودة وحرية التداول.

          أما بالنسبة لترجمة الأعمال العربية فينبغي أن نثير اهتمام المهنيين الأجانب عن طريق الإعلام والجوائز وتدعيم المؤسسات المهتمة بالأدب العربي، ولكنني في نهاية المطاف أعتبر أن التحولات السياسية والانخراط في قيم العصر ستجعلنا بقوة الأشياء مكونا أساسيا من مكونات الثقافة العالمية. ومنطقة جذب يتطلع العالم للتعرف عليها وفهمها، وفي هذا السياق يصبح الأدب مفتاحا أساسيا لفهم المجتمعات، وتصبح ترجمته ضرورة لمد جسور جديدة.

  • يظهر من خلال عناوين بعض أعمالك الشعرية أن دلالاتها ورمزيتها يتجاذبها عنصران أساسيان على الأقل، يتناوبان بين «الحياة»، في تلويناتها المجسدة في عنصر «الماء» تحديدا، و«اليباب» و»العزلة».
    فما سر انجذابك أنت أيضا إلى هذا المكون الحيوي في حياتنا، أقصد الماء هنا، في تلويناته الشعرية والدلالية والجمالية المختلفة؟

          - لم أنجذب إلى الماء كما تقول وإنما إلى المطر، انطلاقاً من استعادة أجواء  الطفولة في قرية نائية معزولة، كان استمرار المطر لعدة أسابيع من دون انقطاع يسرق طفولتنا ويحولنا بقوة الأشياء إلى شيوخ نتحلق حول المواقد دون أن تكون لنا حياة طويلة نتذكرها، وقد تبين لي في ما بعد أن هذه الرتابة لم تكن مادية فحسب تتعلق بالكلمات والأشياء بل كانت روحية أيضاً تجعلنا في تلك الليالي الطويلة نتوقف مرات متعددة أمام تفاصيل صغيرة من أحلامنا وهواجسنا. أحياناً أتصور أنني جبت حياتي كلها في تلك الفترة، وأن ولعي بالتفاصيل يأتي من هذه المرحلة، عندما كنت مجبراً على التحديق في الأشياء القليلة الموجودة في الغرفة وكأنها مستودع لكل أشكال العالم. لقد حاولت نقل الإحساس بهذا المطر الذي لم يكن مطراً فحسب، في ديوان سيرة المطر ثم بعد ذلك واستفادة من الفنون التشكيلية التي استأثرت باهتمامي، كتبت مائيات، في محاولة للإمساك بتمدد الأشياء وهي تتحلل أو تتجمع من خلال الألوان الذائبة. كل هذا بالطبع له علاقة وطيدة باشتغالي على ما يمكن تسميته بشعرية المادة.

  • تفاعل النقد الأدبي في المغرب وخارجه مع أعمالك الإبداعية بشكل واسع ومتنوع. وقد حققت روايتك «جنوب الروح»، على سبيل المثال فقط، نصيبا وافرا ومهما من الكتابات النقدية والتحليلية الموازية، بشكل ربما لم يسبق له مثيل إلا مع نصوص روائية قليلة جدا في أدبنا المغربي الحديث.
    فكيف تلقيت أنت هذه الكتابات النقدية والتحليلية حول أعمالك الإبداعية واستفدت منها، وأية وظيفة للنقد اليوم في قراءة النصوص وإضاءتها؟

          - ساعدتني هذه القراءات المتعددة على فهم أدق لأدوات الكتابة، التي قام تحليل النص بالكشف عن خصائصها ومكوناتها، ولاشك أنني على ضوء هذا التحليل أصبحت أكثر انتباهاً للقضايا المتعلقة بالبناء وتقنيات السرد واشتغال اللغة، لكن الأهم في نظري هو ما خلقته هذه القراءات من مفاجآت، جعلتني أدرك أن النص في نهاية الأمر يستطيع التخلص بسهولة من كاتبه ليصبح إمكانا لا محدودا لكتابة أخرى، وأود في هذا الإطار أن أشير كذلك إلى تلك القراءات التلقائية التي لا تتوسل بالمناهج أو المدارس النقدية، قراءات حملتها رسائل من قراء أعرفهم أو لا أعرفهم، هنا عثرت على نفسي كما كشفتني الكتابة، وأحببت ذلك.

  • اشتغلت بالصحافة لمدة طويلة، ولك فيها رصيد وعطاء كبيرين ومؤثرين، وخصوصا على مستوى كتاباتك الصحفية الجريئة، والتي كثيرا ما كانت تؤثر في المجتمع والرأي العام، وتقلق السلطة.
    فكيف ساهمت الصحافة، بعناصرها وتفاصيلها الواقعية والصادمة، في إثراء تجربتك الحياتية والنضالية، وفي تلوين كتاباتك الإبداعية، الشعرية والقصصية والروائية؟

          - في الصحافة الثقافية التي اشتغلت فيها لسنوات، اقتربت بشكل أفضل من تفاصيل الحياة الثقافية المغربية، في إنتاجها الإبداعي وفي أسئلتها وعوائقها، وكان لذلك أثر كبير في علاقتي بالكتابة، ثم بعد ذلك في عملي كوزير للثقافة، وأعتقد أن الصحافة الثقافية في بلادنا (صحفاً ومجلات)، وبشكل مواز الجمعيات الثقافية، لعبت أدواراً متقدمة ليس فقط في المجال الثقافي بل أيضاً في المجال السياسي، لكونها كانت حاملة لمشروع يربط بين الحرية والإبداع، وبين التحديث والديمقراطية. أما في الصحافة السياسية، فقد ارتبط عملي فيها بمساري السياسي وعشت من خلالها سنوات الرقابة والمنع وملاحقة الصحفيين، ثم سنوات الانفتاح التي سمحت بتطور المؤسسات الصحفية، وتطور المهنة، وخلالها ساهمت في بناء تجربة جديدة مرتبطة بالاتحاد الاشتراكي جريدة وحزبا، ولعل من بين منجزاتها تطوير أعمدة الرأي، والانفتاح على قضايا المجتمع، وإنتاج  خطاب نقدي لا يعتمد فقط على النبرة العالية.

  • كان لك، ولا يزال، حضور وازن في المجال الثقافي العام، سواء ككاتب، أو كرئيس أسبق لاتحاد كتاب المغرب، أو كمسئول سابق على الإعلام الثقافي لجريدة حزبك، فضلا عن مساهماتك في عديد الورشات والمشاريع والمسئوليات الثقافية الأخرى، من قبيل تحملك لمسئولية وزير للثقافة في المغرب لأزيد من عقد من الزمن... وكلها مجالات كان لك فيها حضور وعطاء وإسهام كبير ومؤثر وجلي.
    ففي أي من هذه المجالات المتضافرة فيما بينها، كنت تجد نفسك أكثر مردودية وتأثيرا، أخذا بعين الاعتبار، هنا، تلك العلاقة الملتبسة التي كانت سائدة بقوة بين ما هو سياسي وما هو ثقافي؟

          - أنتمي لجيل  جاء دفعة واحدة إلى الأدب والسياسة والصحافة، وبالرغم من وجود نقاش واسع حول العلاقة الملتبسة بين السياسي والثقافي، فقد كنا ننظر كل من زاويته الخاصة إلى دور المثقف كمحرك للأسئلة العميقة وكمنتج لخطاب نقدي متحرر من وصاية السياسة سواء في ارتباطها بالدولة أو بالأحزاب، وطبعاً فإن هذا الدور لم يكن دائما بالصورة المثالية التي كنا نرسمه بها في أذهاننا، ونتجت عن ذلك شروخ متعددة أثرت في مسار المغرب الحديث، ومع ذلك  فإنني أعتبر التحولات التي حدثت في المغرب، بما لها وما عليها، هي نتاج لنضال سياسي ولنضال ثقافي، تقاطعا وتباعدا حسب ما اقتضته تعقيدات المرحلة، وأود هنا أن أشير إلى أن تجربتي في الوزارة مرتبطة إلى حد بعيد بهذا التقاطع بين الثقافي والسياسي، وفي سياق تجربة تاريخية ارتبطت بإجراء انتقال نسبي من الاستبداد إلى دولة المؤسسات، أقصد بهذا أن هذه المسئولية الحكومية التي أعتز بها كتجربة، لم ترتبط باحتراف سياسي، ولا أعتقد أنها ستتكرر مرة أخرى في حياتي، إنني في الوقت الذي أومن فيه بدور الكاتب في الدفاع عن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية، أومن بأن دوره الأكثر عمقاً وحيوية هو الاستمرار في الإبداع.

  • هل ما يجري اليوم في عالمنا العربي من رياح للتغيير، تحركها الشعوب العربية بالدرجة الأولى، معناه أن نخبنا العربية، بمختلف مكوناتها ومرجعياتها، قد فقدت دورها ووظيفتها التاريخية والطليعية في التأثير والنقد والتغيير؟ وما هي، في نظرك، الأسباب الكامنة وراء انحسار نخبنا عن أداء دورها في التغيير المجتمعي، وفي مواصلة الفاعلية والتأثير في مجتمعاتها، وكيف لها أن تستعيد دورها السابق في حركات التحديث والتغيير؟

          - إذا لم تنجح المؤسسات في تجديد النخب، وفي إنجاز الانتقالات الضرورية بين الأجيال والتجارب، فإن المجتمعات تتدافع باختناقاتها واحتباساتها، وتكسر السدود القسرية التي تصر على تحويل مياه الحياة إلى برك آسنة، لقد حدث هذا في مصر وفي تونس وسيحدث في كل البلدان التي ترفض أن تفتح أعينها على واقع القرن الواحد والعشرين، الذي أصبحت فيه الديمقراطية معطى من معطيات العولمة، إن ما يجري اليوم ليس عجزاً للنخب فقط، فقد أصبحت هذه الأخيرة بفعل الاستبداد والفساد مجرد أسماء بلا معنى، وأصبحت تكتلات المصالح والسلط متحكمة في كل شيء، بما في ذلك إنتاج نخب مرتشية للدفاع عن الوضع القائم، إن ما يجري هو تعبير قوي عن فشل المشروع الذي حشر البلدان العربية في خانة الأولغارشيات المحتمية بالخارج ضد شعوبها، وسيمر وقت طويل قبل أن ينتج عن إسقاط هذه الأنظمة، وضع جديد تتمكن فيه الإصلاحات السياسية والاقتصادية من إنتاج نخب شرعية لا تفصلها عن المجتمع أسوار الاستبداد.

الشاعر محمد محمد الأشعري (المغرب)

ولد عام 1959 في زهرون

          تلقى دراسته الابتدائية والثانوية بزرهون وكناس، ثم بكلية الحقوق بالرباط وتخرج فيها عام 1975 ولمدة 7 سنوات

من دواوينه الشعرية:

          صهيل الخيل الجريحة 1978- عينات بسعة الحلم 1981 - يومية النار والسفر 1983 - سيرة المطر 1988 - مانيات 1994.

ومن أعماله الإبداعية الأخرى:

          يوم صعب (مجموعة قصصية) 1992.