العالم العربي في القرن العشرين
صدر حديثاً (يوليو – 2015) عن دار كولهمر، كتاب للبروفيسور - أودو شتاينباخ - المدير السابق لمعهد الشرق في هامبورج – ألمانيا. يقول شتاينباخ في المقدمة «إن مسار قرن في تاريخ المجتمعات الإنسانية نادراً ما يتطابق مع التسلسل الزمني المستمر للقرن. وليس بالضرورة أن تشمل وحدات زمنية ترابطاً للأحداث والسياقات التاريخية. هذا ينطبق أيضاً على العالم العربي في القرن العشرين».
انتمت أجزاء كبيرة من المجال العربي ذ هنا: بين الأطلسي والمحيط الهندي ذ ولو أيضاً مع كثافة مختلفة ذ إلى إمبراطورية كبيرة، ضمت بعداً عربياً ظهر في قبول ثقافي محدد وسياسي هامشي. تمددت الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر بضم سورية وفلسطين وكذلك مصر وبلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية واليمنذ ماعدا غرب شمال إفريقيا الأبعد، المغرب حالياً - إلى الإمبراطورية. وبالرغم من تعدد اللغات والثقافات بقيت السلطة والإدارة وكذلك الجيش والقانون أساساً في يد العثمانيين. ويقول الكاتب: فقط في القرن التاسع عشر بدأ تأثير القوى التي عملت على إظهار العرب من جديد، أولاً في المجال الثقافي ثم في المجال السياسي. إن التمدد الأوربي أدى إلى إطلاق الحركات، التي أكدت الخصوصية الفكرية والثقافية العربية في مواجهة المركز السياسي في كونستانتينوبل.
خضع جزء من شمال إفريقيا والشرق الأدنى خلال القرن التاسع عشر إلى السيطرة المباشرة وغير المباشرة، خاصة من فرنسا وبريطانيا. مع انهيار الإمبراطورية العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى وجد العرب أنفسهم أمام تحدٍ مزدوج:
- البحث عن وضعهم السياسي في نظام عالمي تغير من الأساس.
- مشاركتهم مع مجتمعات الشعوب الإسلامية لإيجاد إجابة للحداثة الثقافية والحضارية التي نبعت أصولها من أوربا ولاحقاً من أمريكا أيضاً.
ويرى الكاتب أن القرن العشرين يمكن تقسيمه إلى مرحلتين ممتدتين:
- المواجهة مع القوى الأوربية، خاصة بريطانيا وفرنسا (وكذلك إيطاليا وإسبانيا أيضاً).
- سعي النخبة الجديدة التي تكونت أثناء سيطرة القوى الأوربية، إلى العثور على مكان خاص داخل الأنظمة السياسية والاجتماعية، التي طبعت النظام العالمي الجديد. وهذا السعي لم يحدث بطبيعة الحال داخل الديناميات الوطنية والاجتماعية فحسب، بل اتسم في الوقت نفسه باختراق نفوذ الولايات المتحدة وتَشكل الصراع مع الاتحاد السوفييتي. إن سعي القوتين العظميين من أجل السيطرة العالمية، كان له تأثيره البالغ على التطور الداخلي والخارجي للبلدان العربية الحديثة.
تحت لواء الجامعة العربية
بعد عرضنا المقتضب للمقدمة، تأتي الفصول من 1 - 4، التي يتعرض فيها شتاينباخ إلى تاريخ وتطور البلدان العربية، وهو يعني بذلك تلك البلدان المنضوية تحت لواء الجامعة العربية، وقبل أن يتابع الكاتب عرضه التفصيلي لكل بلد عربي على حدة، يسبق ذلك بثلاث فقرات تاريخية كمدخل، بعناوين:
- الطريق الطويل إلى القرن العشرين ذالمقدمات، النهضة الفكرية والاجتماعية حتى عام 1914 والحرب العالمية الأولى والإمبريالية الأوربية. ويكتب في هذا الخصوص «حتى لو كانت بداية القرن العشرين للعالم العربي قد اقترنت بنهاية الإمبراطورية العثمانية، فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال مرحلة ساعة الصفر. من خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين برزت الشروط والديناميات التي من خلالها تكشف تاريخ العالم العربي في القرن العشرين. وكان لذلك أبعاد خارجية تتعلق بمجموعة السلطات الدولية، وأخرى تتعلق بمواجهة النخبة بناء على ضغط التحديث القادم من أوربا. لقد بدأ التاريخ الحديث لبلاد العرب، الذي بشرت به أوربا في عام 1798، حسب مواجهة سياسة القوي بين الدول الأوربية في سياق الثورة الفرنسية». ثم يتعرض الكاتب إلى الثورة الفرنسية وحملة نابليون على مصر، ودور محمد علي باشا أثناء فترة حكمه الطويلة بوضع الأسس لبناء دولة حديثة. إنشاء الجيش وتنمية الاقتصاد وتحديث التقنية وإرسال الشباب للدراسة في الخارج، ثم يتعرض إلى الثورة العرابية.
الأفكار في مواجهة النخبة
ويواصل فيشير إلى أن التطور الفكري والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية في القرن التاسع عشر جاء نتيجة مواجهة النخبة مع الأفكار والأيديولوجيات والتيارات الثقافية والمؤسسات السياسية التي تعود جذورها إلى أوربا. وهذا ينطبق أيضاً على شمال إفريقيا ومنطقة الهلال الخصيب، بينما لم تتأثر منطقة شبه الجزيرة العربية بذلك. ويشير هنا إلى ناصيف اليازجي باعتباره أبا النهضة الثقافية، كما يقول، وكذلك بطرس البستاني وأحمد لطفي السيد، ومحاولة الطهطاوي الربط بين الثقافة الغربية والإسلامية. وكانت المعتقدات الإسلامية هي الأساس للأنظمة السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي.
كما يكتب عن الحرب العالمية الأولى والإمبريالية الأوربية فيسرد تاريخ الاستعمار في الشرق الأوسط. كما يتناول تاريخ جميع البلدان العربية في القرن العشرين، كل على حدة، وخاصة بعد الحصول على الاستقلال، مستعرضاً التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة وإحصائيات مهمة للقارئ الألماني، مثل: مساحة الأرض وعدد السكان ونظام الحكم واللغة المتداولة واللغة الرسمية ونوع العقيدة والأقليات الدينية والتركيبة السكانية (الإثنية) وتاريخ الاستقلال والناتج المحلي الإجمالي ومتوسط العمر المتوقع.
أما في الفصلين الخامس والسادس، «القرن العشرون ذ التحول إلى أين»؟ و«الدول العربية والسياسة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية»، فيتناول أحداث الصراع الشرقي الغربي وسياسة الاتحاد الأوربي في الشرق الأوسط وألمانيا والعالم العربي. ونقوم هنا بعرض الفصلين بتكثيف شديد، فهو تاريخ حديث ومعروف للقارئ العربي المطلع.
فنهاية الحرب العالمية الثانية تعني، وأيضاً بالنظرة إلى موقع الشعوب العربية في النظام الدولي، مقطعاً عميقاً. فالبلدان العربية أصبحت متجذرة في نظام دولي تمثله كتلتان: أمريكا والاتحاد السوفييتي، بعد أن ضعفت القوى الأوربية التي كانت تسيطر إمبريالياً على العالم العربي. كما يستعرض المواجهة بين القوتين العظميين مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في تركيا وإيران وتوغل أمريكا في المنطقة العربية نتيجة لمسار الحرب في شمال إفريقيا ومع اندلاع الصراع بين إسرائيل والعرب عام 1948، إذ أصبح حجر الزاوية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. والمد الثوري القومي العربي ومؤتمر باندونج - أبريل 1955، وشخصية عبدالناصر الكارزماتية ودخول الاتحاد السوفييتي أفغانستان مُحارباً وخروجه منها مجبراً. ثم يبحث في حرب الخليج الأولى والثانية وتأثيرهما على المنطقة والصراع الحالي في الشرق الأوسط.
بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي
وقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين تحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى القوة العظمى الوحيدة على مسرح الشرق الأوسط. ومع بداية القرن الجديد ظهر الهبوط المثير لتأثير أمريكا في الشرق الأوسط.
وحول سياسة الاتحاد الأوربي في الشرق الأوسط، يشير الكاتب إلى أن عصر الإمبريالية الأوربية أصبح لا رجعة فيه، ولكن التاريخ والجغرافيا ذ السياسية جعلا من أوربا والساحل الجنوبي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط «جاراً» لا يمكن تجنبه. وبالرغم من وزن الاتحاد الأوربي الضعيف كفاعل سياسي في الشرق الأوسط، فإنه يشير إلى التعاون المثمر في المجالين الاقتصادي والأمني.
وفي فقرة ألمانيا والعالم العربي يقول شتاينباخ: كان المجال العربي في القرن العشرين بالنسبة إلى ألمانيا يمثل مشهداً سياسياً جانبياً، وبالنسبة للعرب فإن ألمانيا شاركت بشكل عابر في تكوين مصيرهم السياسي. ومع ذلك وربما على وجه التحديد- تحدث في سياق العلاقات خاصة من الجانب العربي مراراً عن الصداقة الألمانية - العربية. يقول: قلما يمكن الحديث عن العلاقات الألمانية ذ العربية حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية ولكنه يشير إلى التقارب في منتصف القرن الثامن عشر بين بروسيا والإمبراطورية العثمانية ذ سياسياً واقتصادياً وحربياً. ووقوف ألمانيا إلى جانب الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى. ومع نهاية الحرب كانت الأحلام لسلطة سياسية ألمانية كبرى في الشرق الأوسط قد قُبرت. وفي العهد النازي كانت السياسة الخارجية في المجال العربي تحتل أهمية هامشية أيضا. ولكن مع ذلك ظهرت بعد عام 1933 آثار بينة للأفكار الفاشية والنازية في عموم المجال العربي ذ وان كان ذلك بدرجات متفاوتة ذ وتكونت خصوصاً في مصر ولبنان وسورية والعراق مجموعات اجتماعية وسياسية وأحزاب متفتحة على الأفكار الفاشية. ولكنهم لم يلعبوا في أي وقت من الأوقات دوراً مهماً، ليس في زمن الحرب ولا بعده. ويشير إلى التوتر بين ألمانيا الاتحادية مع بعض البلدان العربية التي اعترفت بجمهورية ألمانيا الديمقراطية وتفاعلت ألمانيا مع التغيرات العميقة في المجال العربي منذ 2011 بـتحفظ. وكان التفاعل في المقدمة، اتخاذ التدابير تحت كلمة «شراكة التحول»، المساعدة في بناء المؤسسات الديمقراطية، تشجيع المجتمع المدني والنظام والقانون.
وتأتي خاتمة الكتاب بالفصل السابع تحت عنوان: «في بداية القرن الواحد والعشرين»، يبين فيها الكاتب، أن القرن العشرين للعرب أثبت لاحقاً ذ كقرن انتقالي ذ مقروناً بالتجربة والخطأ. ولم يكن مسار الطريق مستقيماً للأوربيين أيضاً، لنظام جديد لقارتهم بعد انهيار النظام الشرعي عبر القرون في عام 1918. ولكن بتكوين الاتحاد الأوربي، وضُع الأساس لنظام جديد، بالرغم من كل الشكوك لمستقبل واعد. وهذا ما لم ينجح فيه العرب منذ انهيار النظام العثماني في عام 1918.
النهوض مرتان؛ الفشل مرتان، هل سوف تنجح المحاولة الثالثة؟
السياسة التي تضع حدود الدول المرسومة موضع تساؤل، تفقد بوصلتها، وتكوين الدول في منطقة سورية الكبرى ذ العراق ذ تركيا كان بالتأكيد إشكالياً ولم يتفق مع تطلعات وتوقعات النخبة السياسية للمواطنين في زمنها، ولكنها أعطت الشرعية لعدد كبير من المواطنين وكانت على نطاق واسع أساس الاستقرار في نظام الدولة». ويرى شتاينباخ أن ترسيم الحدود من جديد يقود إلى فوضى شاملة، ليس للمنطقة نفسها فحسب، بل وللنظام الدولي بكامله ولتأثيره البالغ أيضا، خصوصاً على الجار الأوربي.
وهذا لا يعني عدم ترسيم الحدود بالمطلق، وإنما يتم ذلك بموافقة المواطنين، وهو يشير بذلك إلى القضيتين: الكردية والفلسطينية. فإسرائيل نفسها نتاج عملية بناء دولة من الخارج. وحل القضية الفلسطينية لايزال يتراوح بين: حل الدولة الواحدة أو حل الدولتين. ومادام لا يوجد حل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، فستبقى فلسطين جرحاً متقيحاً، وهو ما يعرض استقرار نظام الدولة في الشرق الأوسط عموماً وأيضاً استقرار الدول المجاورة والمجتمعات إلى الخطر. وأيضاً هنا لا تستطيع أوربا الهروب من عدم المساهمة في إيجاد حل وِفق مطالب الأطراف وأسس القانون الدولي.
ويقودنا شتاينباخ عبر فصول كتابه إلى مسار خصب ومثير، مُتتبعاً تاريخ وتطور العالم العربي ومشيراً إلى ما جابه المسار من إخفاق كبير ونجاح جزئي دون فقدان الأمل إلى مسار جديد وأفق واعد.
والكتاب يمثل وثيقة تاريخية وسياسية مهمة، معروضة بتفصيل وإسهاب بالرغم من قول الكاتب «نظراً للمساحة المتاحة يجب أن يكون عرض مسار التاريخ مقتصراً على خطوط الأساس الرئيسة ومعتمداً على نتائج البحث والاستغناء عن وجهات النظر المثيرة للدجل». والكتاب لا غنى عنه لأساتذة وطلاب الجامعات في تخصصات العلوم السياسية والتاريخ والاجتماع وللقارئ الألماني المطلع، كما أن الببليوغرافيا التي احتلت 61 صفحة، مصدر قيم ومهم لمن يريد أن يتعمق في المادة. ونوجه التحية والتهنئة لهذا العالم الجليل الذي لايزال باحثاً جاداً ومهموماً وملتصقاً ومتعاطفاً مع قضايانا في الشرق الأوسط وإفريقيا منذ أن كان مديراً لمعهد الشرق في هامبورج واستقباله العديد من الباحثين العرب ومنهم أساتذة من جامعة الخرطوم ■