الوجه والظل في التمثيل السينمائي

كتاب يكشف عن أسرار التمثيل السينمائي، ويقدم قراءة ضافية لمختلف جوانبه واتجاهاته وأساليبه وعلاقته بالعناصر الفنية الأخرى. إنه كتاب «الوجه والظل في التمثيل السينمائي»، الذي ترجمه وأعده أمين صالح، وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. يحاول صالح في هذا الكتاب أن يحلل ويقرأ آراء ومقولات عدد كبير من المشتغلين بالفن السينمائي، وعلى رأسهم مجموعة من أشهر الممثلين والممثلات حول العالم، إذ يقتبس الكتاب آراء هؤلاء وشهاداتهم عن علاقتهم بالتمثيل من حيث فهمهم له، كما يحاول رصد المفاهيم المتعلقة بالتمثيل وبواعثه وعناصره ومصادره، إضافة إلى علاقته بالكاميرا والإخراج والسيناريو والمونتاج وبقية العناصر الفنية الأخرى.
إن الكتب التي تناولت فن التمثيل السينمائي ونظَّرت له قليلة جدا، وكأن المشتغلين بهذا الفن اكتفوا بالصورة التي هي أبلغ من مئات الكتب التنظيرية. لا يعنى الكتاب بوجهات النظر النقدية حول فن التمثيل السينمائي، وهي قليلة جداً قياساً إلى تلك الدراسات والبحوث والنظريات التي تتمحور حول فن التمثيل المسرحي، بل حاول الكشف عن جوانب هذا الفن واتجاهاته وأساليبه وعلاقاته بالعناصر الفنية الأخرى، معتقداً أن هذه الآراء السينمائية التي جمعها تأتي من متخصصين هم أقدر من غيرهم على كشف خاصيات وخفايا فنهم، حيث إن هذه الآراء والشهادات نابعة من تجاربهم الخاصة، المهنية والحياتية.
قام الكاتب بجمع عدد كبير من المقابلات الصحفية مع الممثلين، والمنشورة في المجلات السينمائية، الأمريكية والإنجليزية تحديداً، وترجمتها، كما أنه قدم عروضاً مفصلة لبعض الكتب المتصلة بالتمثيل السينمائي، محاولاً الإحاطة بأغلب ما يتصل بالتمثيل. كذلك حاول الكاتب رصد المفاهيم المتعلقة بالتمثيل وبواعثه وعناصره ومصادره وتقنياته وتأثيراته وتحولاته، إضافة إلى علاقته بالكاميرا والإخراج والسيناريو والمونتاج وبقية العناصر الفنية الأخرى، وكذلك المظاهر المتعددة التي تتصل بالتمثيل.
يشير صالح في مقدمة الكتاب إلى ندرة الدراسات والبحوث بشأن التمثيل السينمائي، ويؤكد أن المصادر الأجنبية والعربية قليلة جداً، وهي في أغلبها تتعرض للسيرة الذاتية للممثلين، مع استعراض سريع لأعمالهم، من دون التعرض لمفاهيمهم وآرائهم حول طبيعة المهنة وما يتصل بها من علاقات وإشكاليات. وحتى الأحاديث الصحفية نلاحظ أن أغلبها يهتم بأشياء هامشية تتعلق بالحياة الشخصية أو بالشائعات وغير ذلك، والقليل جداً من هذه الأحاديث يضيء مظاهر جوهرية في التمثيل.
الكتاب هو محاولة لرصد مختلف مظاهر وقضايا التمثيل، في محاولة لتقديم صورة واسعة وواضحة عن هذا الفن، من داخله، وليس من خلال تصورات وتقييمات وأحكام مفروضة من الخارج. لهذا فضل الكاتب عرض الصورة بموضوعية تامة، وفق قوله في المقدمة، من دون اتخاذ موقف نقدي، ومن دون الانحياز إلى موقف ما أو وجهة نظر معينة، سواء اتفق أم اختلف مع الآراء المطروحة، فلكل وجهة نظر مبرراتها ومنطقها وحتى فلسفتها. وفي التمثيل، بالذات في جانبه التطبيقي، النتيجة النهائية هي المهمة، فما نراه مجسداً على الشاشة من أداء هو ما يثيرنا ويحرك مشاعرنا ويدفعنا إلى التفاعل أياً كان منهجه، أو رأيه، أو موقفه.
يجمع الكاتب أمين صالح وجهات نظر عديدة متناقضة ومتضاربة في مختلف الشؤون المتصلة بالتمثيل من مفاهيم وممارسات، ويبرر ذلك بأن هناك أساليب ومناهج وطرائق ورؤى متنوعة حسب تنوع وتعدد التجارب الشخصية لكل ممثل، والتي هي تجارب متباينة ومتعارضة بطبيعة الحال، لأنها تنطلق أساساً من خلفية وموقف ورؤية فردية خاصة على الصعيدين العملي والنظري. بالتالي، الكاتب لم يفاضل أو ينحز إلى رأي دون آخر، بل جمع مختلف الآراء في خطوط متوازية لا ينفي أحدها الآخر.
يتناول الكتاب مفهوم التمثيل وبواعثه من وجهة نظر الممثلين، ويحاول الإجابة عن سؤال: لماذا التمثيل؟ أو: كيف اختار الممثل أن يكون ممثلا؟
في الكتاب أيضاً فصول تتناول الممثل والسيناريو، الممثل والحوار، الممثل والشخصية - وهو من أطول فصول الكتاب -، إضافة إلى علاقة الممثل بالمخرج، الذي يعد أطول الفصول، لأنه يجمع آراء الممثلين والمخرجين معاً، فضلاً عن ذلك فهناك فصل عن علاقة الممثل بالكاميرا والممثل بالماكياج والأزياء وعلاقته بالموسيقى والمونتاج، كما يقارن الكتاب بين التمثيل المسرحي والتمثيل السينمائي من وجهة نظر الممثلين، ويتطرق إلى موضوع نجومية الفنان وما الذي تعنيه الجوائز ويمثله التكريم بالنسبة للممثل. وكما سبق القول فإن الكتاب يتناول آراء وشهادات حشد كبير من الفنانين مرتّبة ومنسّقة وفق فصول الكتاب، بحيث يتم تضمين تلك الشهادات واحدة تلو الأخرى، لتشكل في ما بينها محاولة للإجابة عن سؤال محدد، أو إضاءة موضوع معين، يطرحه ذلك الفصل من الكتاب.
يورد الكتاب آراء بعض الممثلين والمخرجين للإجابة عما هو التمثيل، ولماذا التمثيل بالذات؟ يرى المخرج والممثل الأمريكي جون كازافيتِس أن «التمثيل هو امتداد للحياة. حين تكون قادراً على أن تؤدي في الحياة فسوف تكون قادراً على أن تؤدي على الشاشة». أما الممثل آل باتشينو فيعتقد أن: «التمثيل عمل شاق، إنه منشط ويزودك بالطاقة حيناً ويسبب لك الوهن حينا. إنه عمل طفولي، لكنه أيضاً مسؤول».
كذلك يورد الكاتب رأياً للممثل الألماني كلاوس كينسكي، يقول فيه: «أن تكون ممثلاً هو ضرب من الانتحار. كنتُ دائماً أحاول أن أفهم لماذا أنا ممثل، لكننا جميعاً نصل إلى قَدَرنا الخاص. ذلك جارح ومعذب. دائماً أقول إن روح ما يسمى ممثل هي مجنونة ومريضة. إنه يصلب نفسه باستمرار. كلما مضى الوقت اشتد عذابه. وهو بكل خطوة يقتل نفسه مرة تلو الأخرى. إن مهنة التمثيل شاقة ومؤلمة، ولكنها حقيقتك أنت». أما الممثل جاك نيكولسون فيرى أنه: «ليست هناك مهنة شاقة ومتطلبة أكثر من التمثيل باستثناء القوات المسلحة، مع ذلك فأنا لا أجيد فعل أي شيء سوى التمثيل». ويعرض الكاتب لسؤال الفن لدى من يشتغل بهذه المهنة المهمة والمشوقة في الوقت نفسه، لماذا يتجه شخص ما إلى امتهانها؟ ويورد رأياً للممثل الإيطالي ماستروياني، حيث يقول: «أردتُ أن أكون محبوباً لدى الجمهور... إن عروق كل ممثل تنبض بهذه الحالة... والتمثيل بالطبع وسيلة مدهشة لشخص غير واثق من نفسه، غير واثق من أنه مثير للاهتمام بالنسبة للآخرين، لكي يجعل نفسه مثيراً للاهتمام أكثر». أما هنري فوندا فيعتقد: «إنك تصبح ممثلاً ربما لأن ثمة تعقيدات في ذاتك، والتي هي ليست عادية أو سوية، وليست أشياء يسهل التعايش معها». ويبدو أن الممثل توم هانكس يتفق إلى حد كبير مع هنري فوندا، حيث يقول: «منذ سنواتي المبكرة وأنا أشعر بالوحدة، وأظن أن هذا هو سبب توجهي للتمثيل. أردتُ أن أكون محبوباً، وأن أثير إعجاب الآخرين بي».
كذلك يرصد الكاتب رأي الممثل هارفي كِيتل، الذي يقول: «التمثيل طريقة للنفاذ إلى العواطف والأحاسيس...، السبب الذي جعلني أصير ممثلاً هو أن أقترب أكثر من فهم ذاتي». ويضيف كِيتل: «بواسطة التمثيل تمكنت من حل كثير من الألغاز التي عزلتني عن مشاعري. أن تكون ممثلاً يعني أن تكون مثل فان جوخ، الذي كان يمتلك الشجاعة لمواجهة قلقه الخاص، أي مخاوفه وتعبه ووحدته وجوعه وشكوكه وعذاباته ومعاناته».
في حين أن الممثل آنثوني هوبكنز يقول في الإجابة عن سؤال الفن: «أعتقد لو لم أصبح ممثلا، لكنت الآن قاتلاً، أو مصاباً باضطراب عقلي». أما الممثل جوبانتوليانو فيضيف: «كان أمامي أن أصبح لصاً أو مروج مخدرات، أو ممثلاً... اخترت التمثيل». واعترفت الممثلة جين مونرو: «لو لم أصبح ممثلة، لصرت مجنونة». ويتفق معها لي مارفين، قائلا: «الأفلام منحتني فرصة ارتكاب أشياء لو ارتكبتها في الحياة الواقعية لتعرضت للعقاب أو السجن أو الإعدام... هكذا، في الأفلام، كنت أسرق وأقتل ثم أتسلم أجري وأمضي إلى البيت»!
وفي الإجابة عن سؤال: أي دور يختار الممثل؟ ولماذا أختار دوراً دون غيره؟ فنجد الممثلة جودي فوستر ترى أن: «ثمة شذرات من السيرة الذاتية في كل دور أؤديه. وعندما أقول إن في الشخصية شيئاً يتصل بي فإنني أعني حساسيةً ما، وجهةَ نظرٍ ما. ثمة جزء مني في كل شخصية تظهر على الشاشة». أما الممثلة جيسيكا لانج، فتقول: «أختار أدواري على أساسٍ عاطفيّ، شخصيِّ جداً. ما يعنيني حقا، كممثلة، هو أن أجازف. أحاول دوماً أن أجرب شيئاً لم أجربه من قبل... شيئاً يمجدني، يأخذني إلى أقاليمَ لم أرتدها من قبل». أما الممثلة جولييت بينوش فتقول: «هناك أدوار تختارك بدلاً من أن تختارها. أغلب شخصياتي تتشابه من حيث المواجهة القدرية مع الموت». ونعود مجدداً لجاك نيكولسون، الذي يزعم بأنه لا يمثل أي فيلمٍ «ما لم يحتوِ على ثلاثة مشاهد عظيمة»، ويضيف: «لا أعتقد أن من الفطنة المشاركة في أي مشروع يفتقر إلى تلك المشاهد الثلاثة».
لكن ماذا عن المخرجين، وكيف يختارون الممثلين لأي فيلم؟
يرى المخرج مارتن سكورسيزي أن اختياره للممثلين يخضع لاشتراطات مغايرة، حيث يرى أن: «90 في المائة من عملية الإخراج تكمن في اختيار الممثلين. النسبة الباقية هي في جعل الممثلين يشعرون بالطمأنينة والراحة، وبأنهم محبوبون». ويتفق مع هذا الرأي المخرج البريطاني ألن باركر، الذي يقول: «إني أوجه عناية قصوى إلى اختيار الممثلين الذين يعملون في أفلامي. إذا لم تُحْسِن اختيار ممثليك فالنتيجة لن تكون حسنة». أما المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي فالأمر لديه أعقد كثيراً من ذلك عندما يتعلق الأمر باختيار الممثلين، حيث يقول في كتابه «النحت في الزمن»: «عادةً أنا لا أعرف مسبقاً أي ممثل عليّ أن أختار... الاستثناء الوحيد هو سولونيتسين الذي شارك في أغلب أفلامي... البحث عن الممثلين مهمة طويلة وشاقة، ويستحيل تقرير ما إذا كنتَ قد قمتَ بالاختيار الصحيح».. ويضيف تاركوفسكي: «بل قد أذهب أبعد من ذلك وأقول إن الأمر الأصعب بالنسبة لي هو أن أعتقد جازماً بأنني قد اخترت الممثل المناسب، وأن شخصيته الفردية تتوافق أو تنسجم مع ما كنت قد رسمته في ذهني».
في حين أن المخرج كوستا جافراس مخرج فيلم «الفَقد»، الذي لعبت بطولته الممثلة سيسي سبايك، يقول: «بالنسبة لفيلم (الفقد) فكرتُ مباشرة بـ سيسي سبايك. قلة من الممثلات قادرات على تأدية هذا الدور. إنها رائعة. وليست نجمة بالمعنى السلبي للكلمة، وليست واثقة من كل شيء، بل هي مفعمة بالشك واللايقين... وهذا شيء أحبه. إنها تأتي إلى الموقع حاملة معها الأسئلة لا الأجوبة... وبما أنني أعمل بالطريقة ذاتها فقد وجدتُ سهولة في التواصل معها». ويرى المخرج جوناثان ديمي الذي اختار آنثوني هوبكنز لفيلم «صمت الحملان» أن هوبكنز هو الخيار الأصوب للدور، يقول ديمي: «مبكراً جداً فكرت في هوبكنز لدور هانيبال، فمنذ فترة طويلة وأنا معجب به إلى حد كبير. لقد شعرتُ بأنه سيكون رائعاً في هذا الدور لسببين، الأول: أنه يعكس ذكاء بالغاً. ثمة شيء فيه يجعلك تشعر بأنه أكثر فطنة منك، وهذا شيء جوهري في شخصية هانيبال الذي هو أكثر ذكاء من كل أولئك الذين يلتقي بهم. الخاصية الأخرى التي شعرتُ بأنها جوهرية في هوبكنز هي حسه الإنساني وما يتحلى به من دفء وحنو».
لكن كيف يرى الممثلون المخرجين؟ هذا مستوى آخر للعلاقة بين الممثل والمخرج، يقول الممثل روبرت دينيرو: «المخرج الجيد هو الذي لا يفرض رأيه وتصوراته، بل يصغي إليك إذا خطرتْ في ذهنك فكرة جديدة، ويحاول بصدق أن ينفذها». ويرى الممثل هنري فوندا أنّ «قلة من المخرجين في السينما قادرون على تحقيق اتصال حقيقي بالممثل، ومساعدته في بناء دوره». أما هوبكنز فيعترف: «لا أستطيع العمل في جو يسوده التوتر. إنه كابوس. إذا بدأ المخرج في الهياج والتوبيخ العنيف، فإنني ببساطة أطلب منه أن يبحث عن ممثل آخر. لا أحب أن أعمل مع أشخاص يتعاملون بقسوة معي، أو مع غيري».
إن من يقرأ كتاب أمين صالح لا يخرج فقط بصورة متكاملة عن الممثلين والمخرجين والنص السينمائي، إنما يتعرف على حركة الكاميرا والإضاءة والملابس وغير ذلك من موضوعات تتعلق بذلك العالم الباهر، عالم الصورة السينمائية وكل ما يتعلق بها ■