ابن بطوطة الرحّالة العالمي

ابن بطوطة الرحّالة العالمي
        

          أثارني مقال الدكتور عبدالهادي التازي في العدد 631 يونيو 2011 كما أثار الكثيرين، واستفزني حتى رأيتني أترك ما انشغلت فيه لأجله، ابن بطوطة الرحالة العالمي الأشهر الذي لايزال يدهش العالم أجمع، ليس لأنه سافر ما مجموعه 120.701 كم تقريبًا، أو أكثر من 70.000 ميل، ولا لأن رحلته استغرقت ثلاثين سنة تقريبًا، ولكن لأن تغريبته لاتزال عالميًا تستحوذ على الدهشة والعجب، فكيف تختزل في رقص وطرب؟!

          علي أن أحيي الدكتور التازي لأنه يمتاز بسعة الصدر والأفق، ولا يجد حرجًا في التعقيب بل يبتسم له ويشجع ويحث على ممارسته، ليس كالذين يتشنجون من محدودي الأفق الذين لا يرون إلا رأيهم بأنه الرأي الأوحد والأصوب والأصح.

          خرج ابن بطوطة من طنجة سنة 725 هـ حاجًا وهو ابن عمر 21 عامًا، وانطلق في رحلاته، طاف بلادًا والتقى عباداً، انطلق من المغرب، ومر بمصر والسودان والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن وعُمان والبحرين وتركستان، وما وراء النهر، وبعض الهند والصين، وجاوة، وأواسط إفريقيا.

          هدف ترحاله ليس اللعب والطرب، بل كان في قمة الجد، كما ذكر في كتابه أنه يود الذهاب إلى أرض الظلمات.

          عاد ابن بطوطة إلى المغرب، وأملى أخبار رحلته على محمد بن جزي الكلبي بمدينة فاس سنة 756 هـ، وسمّاها «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، ترجمت إلى خمسين لغة، واستغرقت رحلته 27 سنة تحديدًا (1325-1352 م) ومات في مراكش سنة 779 هـ/1377 م حيث يوجد ضريحه بالمدينة القديمة، تلقبه جامعة كامبريدج في كتبها وأطالسها بأمير الرحالة المسلمين، وإن كان هو أجدر بأمير الرحالة العالميين باعتبار أن رحلته تعد الأطول مسافة وزمنًا.

مهن امتهنها

          أكثر ما امتهنه من مهن في ترحاله مهنة القاضي، فهل لدى القاضي وقت للاستمتاع بزمر أو طرب، في ظل تراكم القضايا التي تتزايد أمامه يوما بعد يوم، والتي تأخذ جل وقته لرفع الظلم، أو تطبيق حد أو فصل في مشكلة عويصة تكاد تأكل الأخضر واليابس.

          عمل ابن بطوطة قاضيًا ليس في مكان واحد، ولكنه مارس القضاء في أماكن عدة، أطول مدة قضاها في هذه المهنة  ست سنوات، وتدرج حتى أصبح رئيس القضاة، واحتك وتفاعل، وتورط في السياسة واكتوى بنارها.

          لو كان ابن بطوطة يهوى العشق والطرب، بالإسراف الذي ورطه التازي فيه، لكان ذكر بدلا مما ذكره من فزعه من النساء وهن يذهبن عاريات الخصور، كان ذكر إعجابه، وانبهاره، وما كان انتقد التكشف والعري الذي صدمه في جنوب الصحراء الكُبرى في إفريقيا.

          عندما وصل دمشق في 1348 علم بأن أباه مات من 15سنة، فقرر العودة إلى المغرب، وفي 1349 عاد إلى طنجة عن طريق فاس، هناك فقط اكتشف أن أمه ماتت أيضًا قبل شهور قَليلة، وبعد العودة عين قاضيا في المغرب.

          لا ننكر أن الدكتور التازي دلل واستشهد، ويمكنني أن أدلل وأستشهد، لكن الذي أثارني أنه اختزل أو كاد أن يختزل ابن بطوطة فيما لا يختزل فيه، لتعدد مواهبه، وتنوع وظائفه، وسعة أفقه.

          لنحتكم إلى متخصص أكاديمي غربي تخصص في ابن بطوطة، ولقد تناقشت معه وحاورته، إنه البروفيسور روس دون Ross E. Dunn درّس التاريخ الإفريقي والإسلامي، عندما كان يعمل في مدرسة الخريجين في جامعة ويسكونسن في الستينيات، عكف سنة كاملة على كتاب ابن بطوطة لاختيار الجزء الإفريقي من رحلته، وفي 1974 قدّم فصلاً دراسيًا في التاريخ العالمي لطلاب جامعة سان دياغو عن ابن بطوطة، استمر الفصل حتى 1977.

          لم يكتف بالمحاضرات بل قام بتأليف الكتب حول ابن بطوطة، وصرف وقتًا طويلاً جدًا حتى نجح أخيرًا في رسم 12 خريطة توضح رحلات ابن بطوطة.

          وتشرف بالعمل كمستشار على مشروع فيلم الرحلة Rihla إلى مكة من إنتاج Imax. ظهر الفيلم منذ سنتين، وهو فيلم طويل مثير حول الرحالة ابن بطوطة.

عالم سُني تقي

          وصف ابن بطوطة كعالم سُني تقي, فهل العالم السُني التقي يدخل المواخير الليلية، ويسهر الليالي في رقص وطرب؟!

          قال لي في حواري معه حول ابن بطوطة: كَتبتُ عن التاريخ الحديث لشمال إفريقيا، وقرّرتُ كتابة كتاب حول ابن بطوطة، ليس كمثقف جيد، اختصاصه في نصوص القرن الرابع عشر، لكن كمعلم تاريخ عالمي، أردت من خلاله تصحيح الجهل والوهم المتزايد تجاه الإسلام والتاريخ الإسلامي في الولايات المتّحدة، بينت كيف أن المسلمين شاركوا في شبكات تجارية وتبادل ثقافي عبر آسيا وإفريقيا، وأن ابن بطوطة رجل واجه كل أنواع المغامرات المثيرة، عمل كنموذج أصيل لعالم مسلم مهتم بالتوجه العالمي.

          وكتب أيضًا عن محاولته كقاض حكم بحرمة خروج نساء المالديف عاريات الصدور، ومن الهند انطلق كرئيس بعثة ديبلوماسية إلى حاكم الصين، ولأن البعثة فشلت قرر أن من الحماقة الرجوع لدلهي للإبلاغ عن فشله، فسافر إلى جزر المالديف وزاول القضاء، واندهش عندما وجد المذهب المالكي الذي تركه في المغرب موجودًا في المالديف.

يقول روس:

          في عدة مرات في الرحلة يكشف ابن بطوطة عن نفسه كرجل تقي بإحساس حاد نحو الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي.

          ونحن نعجب كل العجب كيف يختزل التازي مصلحًا اجتماعيًا يتحرك بإحساس حاد نحو الإصلاح في اهتمامه بالموسيقى والطرب.

          لقد نجح في منع النساء العاريات نحورهن من الدخول إلى محكمته، كتب ملاحظاته الحزينة عن تعري نحور بعض الإفريقيات، ومعاشرتهن لغير أزواجهن، إنه مسلم حضري رفض الانحرافات الاجتماعية والخلقية في ظل ما تمسك به من قيم ثابتة طوال حياته.

          جدير بالذكر أن كتاب روس دون حول ابن بطوطة ترجم إلى عدة لغات، مع الأسف لم يترجم إلى العربية بعد، آسف كل الأسف وأنا أرى غيرنا يهتم بابن بطوطة الذي في الغرب يهتمون به أكثر من اهتمامنا حقيقة لا مجازًا، سجل الغرب اسمه فوق القمر تكريمًا، فهل سجلنا اسمه على نيزك أو فلك؟!

          لو كنا أكثر اهتمامًا لكانت هناك جائزة عربية باسم ابن بطوطة تقدم للذين يكتبون عنه في اللغات الأكثر رواجًا وحيوية، على سبيل المثال إيطاليا أنشأت جائزة البريمو للأعمال الأجنبية التي تكتب عن إيطاليا.

          متى سنقوم بتكريم الكتابات التي تكتب بلغات عالمية، تقدم ابن بطوطة بصورة عفوية وطبيعية، بعيدة عن أساليب الدعاية والإعلان، فيستجاب لها استجابة طبيعية؟ أكرر السؤال متى يتم تقدير هذه الأعمال؟ لقد نجح عدونا في إقامة علاقات ثقافية عالمية قوية، فمتى نكرم هؤلاء الذين يحبون ابن بطوطة ويكتبون عنه بعفوية؟ وتحية للتازي الذي لا يمل من التنقيب في رحلات ابن بطوطة ويدهشنا بما يثير، وقد يصدمنا بما يستفز.

عبدالرحمن أبوالمجد