المسرح العربي وآفاق المستقبل المنتظر

المسرح العربي  وآفاق المستقبل المنتظر

عندما نتطلع إلى الآفاق المستقبلية للمسرح في بلادنا العربية، لابدّ من إزاحة الستار عن حاضره وواقعه، وأكثر من ذلك: لابدّ من الرجوع الى ماضيه ومنجزاته. وحين نتعرف على ماضي المسرح في بلادنا وحاضره، وما حصل من تطورات في هذا الفن الجميل، إنما نتخذ منها أساساً ومنطلقاً لتوقعاتنا بشأن مستقبله. 

ما من شك في أن أي فن من الفنون، وفي أي بلد من بلدان العالم، يتأثر - مضموناً وشكلاً - بالظروف التي تمر به، والبيئة التي تحيطه به، ليكون انعكاساً لواقع معيش بما فيه حياة الناس بمعاناتهم وطموحاتهم. 
والمسرح في بلادنا في بداياته الحديثة كان كذلك، وحاول الروّاد أن يعكسوا الواقع والحياة التي يحياها مجتمعهم، وإن بصيغ مقتبسة عن المسرح الغربي في الشكل، وأسلوب العرض، كما في بناء النص. ونذكر هنا، على سبيل المثال، ما قام به كل من مارون النقاش (1817 - 1855)، وأبو خليل القباني (1835 - 1903).
في الماضي ظهر مؤلفو مسرحيات متميزون كادوا يضاهون في مؤلفاتهم ما أبدعه كتّاب المسرحية في الغرب، أو يتساوون معهم. 
وفي الماضي برز في البلاد العربية مخرجون أكفاء، تعلم أغلبهم تقنيات الإخراج المسرحي عن طريق الدراسة أو المشاهدة في بلاد الفرنجة. 
وتشكلت في غير بلد عربي فرق مسرحية كانت تبغي الاحتراف، منها ما بقي على قيد الحياة لسنوات، وأخرى ذهبت إلى زوال. 
ففي مصر ظهرت في عام 1923 أول فرقة مسرحية نظامية لها طاقم فني متمرس ومتحد شكله المخرج عزيز عيد، كما أسس الممثل والمخرج يوسف وهبي فرقة «رمسيس»، وفي لبنان كانت هناك فرقة «إسكندر فرح»، وفي العراق شكل حقي الشبلي أول فرقة مسرحية محترفة مطلع عام 1927. 
أما في تونس فتألفت في عام 1912 «جماعة الشهامة العربية»، وقبلها عام 1911 كانت «جماعة الآداب العربية، وفي المغرب تكوّنت في العشرينيات «جَوْق التمثيل الفاسي»، وفي عام 1927 تكوّنت «جمعية العاصمة الرباطية».
ومن باب رعاية الدولة للفن المسرحي، تشكلت في عدد من البلدان العربية فرق المسرح الوطني، لها أنظمتها الخاصة، كما تشكلت في بعض البلدان فرق مسرحية أهلية، وأُسست معاهد لتدريس فن المسرح والتركيز على الخبرتين النظرية والعملية، وتزويد طلبتها بالمعرفة الفنية، فأصبح عديد من الخريجين منها من الممثلين والمخرجين والكتّاب البارزين، والنقاد، وقد رفدوا الساحة الفنية بإبداعاتهم.
ومنذ أواسط الخمسينيات، وخلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، حصلت تطورات مهمة في الحركة المسرحية العربية، وبلغ النشاط المسرحي ذروته من الناحيتين الثقافية والعملية. وما نشهده اليوم من إنجازات وإبداعات مسرحية ليس سوى امتداد لما قدمه الرواد ومن أعقبهم، وكان من الطبيعي أن تتطور الحركة المسرحية العربية نحو ما هو أفضل وأشمل، فكتَّاب المسرح طوروا كتاباتهم شكلاً ومضموناً: فمن ناحية الشكل راحوا يبتكرون أساليب جديدة في التأليف، منها توظيف الموروث الأدبي والفني العربي في العمل المسرحي، كما فعل الطيب الصديقي مع المقامات، وحذا حذوه آخرون، منهم العراقيان عادل كاظم في «مقامات أبي الورد» و«مجالس التراث»، وقاسم محمد في «بغداد الأزل بين الجد والهزل» و«زاد حزني وسروري في مقامات الحريري»، وعبدالعزيز السريّع من الكويت مع «عريس بنت السلطان»، والفريد فرج من مصر في «على جناح التبريزي وتابعه قُفّة»، وعزالدين المدني من تونس في «رحلة الحلاج».
ومن أهم التطورات التي حصلت على الساحة المسرحية العربية أواسط القرن الماضي، ولا تزال مستمرة، هي:
أولاً: تدريس مادة الفن المسرحي في عدد من الجامعات العربية. ففي العراق هناك ست جامعات فيها أقسام للفن المسرحي، وفي لبنان هناك جامعتان على الأقل يتم فيهما تدريس المسرح وفنونه، وفي مصر والأردن والمغرب كذلك.
ثانياً: توسيع رقعة الثقافة المسرحية عن طريق إصدار الدوريات المتخصصة، ومنها: مجلة «المسرح» المصرية، و«الحياة المسرحية» السورية، و«المسرح العربي» عن الهيئة العربية للمسرح، و«الخشبة» و«مسرحنا»، العراقيتان.
ثالثاً: تزايد أعداد الدارسين في المعاهد الأجنبية، الأمريكية، والبريطانية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، والإيطالية، ودول أوربا الشرقية، مما نتج عنه تنوع أساليب العروض المسرحية. 
وقد عزز هذا التنوّع معرفة الفنانين العرب بالمذاهب والاتجاهات المسرحية، فضلاً عما تُرجم ويُترجم من أعمال المسرح العالمي في مصر، ومن بعد في الكويت، مما عزز أساليب الكتابة المسرحية من قبل المسرحيين العرب، لنجد بين مسرحيينا من كتب وفق الأسلوب البريختي (يوسف العاني في مسرحيته «المفتاح»)، أو وفق أسلوب المسرح السياسي (ألفريد فرج في «النار والزيتون»). وهناك من اتبع اللامعقول (كما فعل توفيق الحكيم في «يا طالع الشجرة»)، وغيرهم، وبأساليب أخرى.
رابعاً: استخدام تقنيات جديدة في العرض المسرحي، كما في مسرح الصورة، والتقنية الرقمية، والكوربوغراف.
خامساً: وفي ما يتصل بمضامين المسرحيات، راح بعض كتَّاب المسرحية العرب يعكسون في كتاباتهم الواقع المر الذي تمرّ به أقطارهم، وتعرضها لمظالم الاحتلال الأجنبي، أو قهر السلطات الشمولية، أو كوارث الحروب، وقد لجأ عدد من كتّاب هذا الصنف من المسرح إلى أحداث التاريخ بإسقاطها على الحاضر تخلصاً من سوط الرقابة السلطوية.

الوجه الآخر
من بعد هذه الإيجابيات التي رافقت الحركة المسرحية العربية في الزمن الحاضر، لابدّ من الإشارة إلى عدد من السلبيات التي صاحبت هذه الحركة المتطورة، فنذكر منها:
أولاً: إن المسرحيين في بلداننا جميعاً لم يتمكنوا، حتى اليوم، من ترسيخ تقاليد خاصة، منها على سبيل المثال، تأسيس المسرح الدائم الذي يحقق استمرارية العروض المسرحية على مدار السنة، وبالأخص الفرق المدعومة من الدولة، فضلاً عن كونها لم تخطط لما يُعرَف 
بـ «الخزين المسرحي» الذي يؤمّن عرض مسرحيات عُرضت في السابق إلى جانب المسرحيات الجديدة، مع التنوع في برنامج عرضها. 
ومن التقاليد الغائبة أن الفرق المسرحية في بلادنا لم تخلّد أعمال روّاد الفن المسرحي من كتّاب ومخرجين، كما هي الحال في الدول المتقدمة مسرحياً.
ثانياً: اتساع رقعة المسرح التجاري، حيث انتقل هذا النوع من العروض المسرحية من مصر إلى عدد من البلدان العربية، منها: العراق، وسورية، والكويت. وتكمن سلبية هذا النوع من المسرح في كونه يُحجّم ذائقة الجمهور بجذبه أعداداً غفيرة منهم عن طريق إغراءات رخيصة، مما يُحدث خللاً في ميزان القوى، حيث لا يُقبل على مشاهدة العروض الجادة والملتزمة، وبمستواها الفني والفكري العالي، إلا القلة من المشاهدين، لذا يضيق حجم جمهور المسرح الحقيقي. 
صحيح أن المسرح التجاري موجود في معظم بلدان العالم، إلا أن جمهور المسرح الحقيقي لا يقل عدداً عن جمهوره، كما أن المستوى الفني في تلك البلدان أعلى بكثير من مستواه في بلداننا.
ثالثاً: توقف نشاط الفرق الخاصة في بعض البلدان العربية التي كانت تنافس بأعمالها أعمال الفرق التابعة للدولة، نذكر منها: فرقة مسرح الخليج العربي، وفرقة المسرح العربي الكويتية، وفي العراق غابت فرقة المسرح الفني الحديث، وفرقة المسرح الشعبي، وفرقة مسرح اليوم... وكلها عُرفتْ بســــمعتها الفنية المتقدمة.
 وقد كانت وراء هذا الغياب أسباب عديدة، منها: غياب عناصرها المؤسسة وفنانيها البارزين، أو لمزاحمة المسرح التجاري لها، أو لتقصير الحكومات في مدّها بالعون المالي الذي يساعدها على الاستمرار.
رابعاً: كثرة المهرجانات المسرحية، فمن بعد أن شهد المسرحيون العرب، وشاركوا في أعمال مهرجانات مهمة وطليعية، كثرت في هذه الأيام المهرجانات وتعددت حتى في البلد الواحد، وكأن «حمّى المهرجانات» أصابت المسرحيين العرب، فكان من سلبيات ذلك أن الفرق والمجموعات المسرحية في هذا البلد أو ذاك ما عادت تفكر في أعمال تقدم للجمهور المحلي بقدر تفكيرها في ما تقدم لجمهور المهرجان، وهم في الغالب من النخبة.
صحيح أن المهرجانات تنهض بدور التعريف بالنشاط المسرحي في هذا البلد أو ذاك، وتثير الحماس والمنافسة، وتُسهم في عمليات التطوير وتبادل الخبرات، فضلاً عن تعميق العلاقات بين المسرحيين العرب والأجانب من جهة، إلا أنها، من جهة أخرى، تُحجّم ذائقة الجمهور بفعل تركيز منتجي الأعمال التي تُقدّم فيها على ما هو غير مألوف، قبل أن تترسخ مفهومات المسرح الحقيقي في أذهان الجمهور، وادعاء عدد من مسرحيي الأجيال الحاضرة بكونهم مجددين، والنظر إلى من سبقهم على أنهم تقليديون، فيتنكرون لأعمالهم، ويُنكرون عليهم دورهم! .
تقودنا هذه الملاحظات إلى الإشارة لظاهرة قد تكون غريبة على مسرحنا العربي نسبة إلى حركة المسرح في العالم، ألا وهي ظاهرة حرق المراحل، أو القفز عليها، إذ لا أعتقد أن هناك مسرحاً عربياً قد مرّ على المسرح الكلاسيكي وثبّتَ أركانه قبل أن يقفز إلى المسرح الملحمي أو إلى مسرح اللامعقول، بل نجد المسرحيين العرب يبدأون على الدوام مما وصل إليه المسرح في الغرب، والسبب أنهم لايزالون مقلّدين حتى في ابتكاراتهم.

ماذا عن المستقبل؟ 
والسؤال هنا: إذا كانت هذه حال مســــرحنا في الحاضر، فعلى أي نحو سيكون في المستقبل؟.
في خاتمة كتابه عن «المسرح في الوطن العربي» (1980)، يذكر د. علي الراعي ما يشير إلى خشيته من أن يؤثر التلفزيون سلباً على الفن المسرحي، لأن برامجه المنوّعة، ومنها ما هو على علاقة بالمسرح، ستبعد الجمهور عن ارتياد المسرح، وسيفضِّل البقاء في البيت لمشاهدة تلك البرامج. 
وقد برهنت الأيام، من بعد ذلك التاريخ، على أن خشية د. الراعي لم تكن في محلها، فقد بقي حجم الجمهور المسرحي على حاله، إن لم نجد أعداده قد تزايدت في الدول المتقدمة، وذلك لأن سحر المسرح أقوى من سحر التلفزيون، بفعل العلاقة الحميمة، والمباشرة، بين الممثل والمتفرج. 
وهنا يحضرني ما قاله المخرج البولندي الشهير جيروزي غروتوفسكي، بأن المسرح إذا ما أراد أن يبقى حياً فعليه ألا يستخدم المؤثرات التي يستخدمها التلفزيون.
من هذا كله تأتي توقعاتنا عن مستقبل المسرح في بلداننا العربية، ونتساءل: هل سينحسر النشاط المسرحي لدينا بفعل المؤثرات التكنولوجية الجديدة؟ هل ستزيح التقنيات الرقمية الممثل الحي عن خشبة المسرح؟ هل ستظهر أشكال مسرحية جديدة تختلف كثيراً عن الأشكال المعمول بها حالياً؟ هل سيطرق المسرح المستقبلي موضوعات تختلف عن موضوعات المسرح الحالي؟ وأي موضوعات سيطرق، إذ لم يتبق من جزئية حياتية ولا أخرى خيالية لم يطرقها؟ هل ستتناقص أعداد الجمهور المسرحي؟ وهل ستحل شاشة الكمبيوتر محل خشبة المسرح؟.
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان المؤرخان الأمريكيان أوسكار بروكيت، وروبرت فندلاي، قد توقعا أن مسرح المستقبل وإعادة تشكيله في الغرب سيكونان وفق آراء فلاسفة اليسار الجديد من بعد حصول ثورة الطلبة في فرنسا وامتدادها إلى عدد من البلدان الأوربية. 
ولكي يتبين مدى تأثير أفكار أولئك الفلاسفة بالمسرح الجديد، أوضحا طروحات «هربرت ماركوز» التي تفند ما جاء به كارل ماركس حول حكم البروليتاريا، وما جاء به سيجموند  فرويد حول «مبدأ اللذة» وخضوعه لرقابة «الأنا» و«الأنا الأعلى». 
كما أشارا إلى طروحات «رونالد ديفيد لاينغ» عن لعب الأدوار حيث «تتكيف النفس البشرية في تعاملها مع حقائق الواقع المشوشة من أجل حمايتها بواسطة التقنّع». وقد ظهرت تأثيرات هذه الطروحات في أعمال فرق المسرح التجريبي في أمريكا.
من بعد هذا جاءت طروحات أصحاب مسرح ما بعد الحداثة وتطبيقاتهم، ذلك المصطلح الزئبقي الذي لا يمكن الإمساك بعناصره، ولا بتاريخ بدايته. 
ولعل أهم ملمح من ملامحه: الفوضى الشكلية المتمثلة بالتفكيك، وبالتزامن، والتحاور، وبتداخل التقنيات وتعددها. وقد لوحظ أن لتلك الملامح جذوراً في مسرح الحداثة في التعبيرية المستقبلية، والدادائية، والسوريالية. وعليه لم يستطع «مسرح المستقبل ما بعد الثمانينيات ومطلع القرن الجديد، أن يتخلص من تأثيرات مسرحي الماضي والحاضر. وهذا ما يمكن سريانه على مسرح المستقبل في بلادنا العربية، فمهما حاول مدّعو المسرح الجديد تقديم إبداعات جديدة، فإن شيئاً من ملامح الماضي يبقى ملازما لها، وتبقى هذه الابتكارات مجرد محاكاة لما يحصل في مسرح الغرب».
ولكي يبقى المسرح في بلادنا حياً على المدى المستقبلي لابدّ له من اتباع الخطوات التالية:
أولاً: تأسيس المسرح المستديم، وخصوصاً بالنسبة إلى مسارح الدولة، بحيث يتابع المتفرج البرنامج اليومي للعروض المسرحية التي لا تنقطع، ولا تتوقف.
ثانياً: ترسيخ مبدأ حب الفن المسرحي لدى أوسع جمهور، بحيث يصبح هذا الفن ضرورة من ضرورات حياته.
ثالثاً: نبذ مبدأ «الجديد من أجل الجديد» وليس من أجل التنوير والتقرب من فهم المتفرج ورفع مستوى ذائقته.
رابعاً: تنويع الأنشطة المسرحية، وتشجيع أعمال الفرق الخاصة ومسرح المجتمع.
خامساً: إبعاد كل ما هو طارئ على الفن المسرحي، وما هو بعيد عن جوهره، بحيث يبقى الفن المسرحي متفرداً في طروحاته أشكالاً ومضامين.
سادساً: نشر الثقافة المسرحية وتوسيع رقعتها، وإدخال فن المسرح ضمن مناهج التعليم في جميع مراحل الدراسة .