غوستاف كوربيه «الجريح»

غوستاف كوربيه «الجريح»

في عام 1851م، كتب الرسام الفرنسي غوستاف كوربيه رسالة إلى إحدى الصحف قال فيها: «للحقيقة، يجب أن أعلن أنه لم يكن عندي يوماً معلّم». ولكن كما هي حال معظم الفنانين في أحاديثهم عن أنفسهم، فإن هذا القول غير دقيق. 

ولد الفتى الصغير كوربيه عام 1819م، وتعرّف على فن الرسم على يد مدرّس في بلدته أورنان، وكان بدوره تلميذاً للأستاذ الشهير بارون غرو، ومن ثم درس فن الرسم عند أستاذ النيوكلاسيكية في مدينة بيزانسون، وهو جاك لوي دافيد. 
وفي سن العشرين، عندما انتقل إلى باريس، حيث كان من المفترض أن يدرس المحاماة، وجد نفسه في مشغل رسَّام مغمور يدعى ستوبان، كما أمضى سنوات عدة في متحف اللوفر يتمرن على الرسم بنسخ لوحات كبار الأساتذة الهولنديين والبنادقة، وحتى المعاصرين له مثل إنجر وديلاكروا، فلماذا قال كوربيه ما قال؟
الجواب: لأن حصيلة هذه الدراسة كانت فتحاً جديداً في فن الرسم، مهَّد الطريق لظهور الانطباعية لاحقاً، بشهادة كبار الانطباعيين، الذين أقروا علناً بفضل كوربيه على مسيراتهم الفنية. فالرجل الذي تأثر بوضوح بمدرسة البندقية وبالفن الهولندي، حتى إنه رسم «تطبيقات» لبعض اللوحات الهولندية وفق مكوّنات الريف الفرنسي، دخل تاريخ الفن بوصفه «الواقعي الأول». 
وعلى الرغم من تعدد مراحل مسيرته الفنية بين البداية الصعبة والنهاية الأصعب (وفاته في سويسراً هارباً من باريس بسبب تورطه السياسي مع ثوار الكومونة)، يمكن تلخيص عبقرية كوربيه بقدرته على التماشي مع المزاج الرومنطيقي الذي كان سائداً في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وريادته في تصوير حقائق الحياة الواقعية اليومية في النصف الثاني.
لوحته هذه المعنونة «الجريح»، هي في الواقع واحدة من صوره الذاتية العديدة التي رسمها كلما تقلب مزاجه الشخصي، للتعبير عن حالة معينة، وتعود في جزء منها إلى بداياته الجدية عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره.
تقنياً، نلاحظ تأثر الفنان بمدرسة البندقية من خلال رسمه للخلفية الطبيعية، وبالمدرسة الهولندية من خلال تناقض الألوان الفاتحة في الوجه واليد وبياض القميص مع المحيط البني الداكن. 
غير أن هذه التوليفة تبقى مبتكرة، خاصة أنها رسُمت بضربات غليظة من الفرشاة تبقى بادية بوضوح حتى في هذه الصورة المصغّرة جداً.  
رسم كوربيه هذه اللوحة أولاً عام 1844م، وأعاد العمل عليها بعد ذلك بعشر سنوات. فقد كانت سابقاً تمثله في لحظة استرخاء في حضن الطبيعة وبقربه امرأة تضع يدها على صدره. 
ولكن بعد انتهاء علاقته بتلك المرأة، قرر أن يمحو ذكراها، فحذف صورتها من جانبه، ورسم سيفاً، وأضاف بقعة دم على قميصه، وأبقى على الوجه كما كان، مسترخياً في حالة نعاس أكثر مما هو متألم، ليحاكي من خلال هذا الجريح (في مبارزة) جوهر الرومنطيقية الذي يدور حول الألم كطريق إلى البطولة.
 وبالتدقيق أكثر في هذه اللوحة، وبعد الاطلاع على سيرتها التي تأكدت صحتها في السنوات الأخيرة، عندما أظهر تصويرها بأشعة إكس أن صورة المرأة لا تزال في مكانها، فالرسام لم يمحها بل رسم فوقها، وبعد الملاحظة تبين أن بقعة الدم على القميص هي فوق موضع القلب تماماً، نصبح أمام صورة رجل مطعون في عاطفته، وليس في مبارزة .