سلام الله على أهل «سرنديـب»

ورشة بناء كبيرة تشيّد جبالاً من الأمل، فوق ركام ذكريات أليمة خلفتها حقبة طويلة من الاحتراب الداخلي، صبغت سماء الجزيرة الخضراء بالكدر والعبوس، سريلانكا أرض الشاي وأشجار جوز الهند والشمس الدفيئة، تنهض بشموخ الأسد الذي اختارته رسماً لعلم البلاد، ساعية نحو مستقبل تريده بلون درجات اللون الأخضر الذي يكسو الجبال المزروعة بالشاي. جزيرة الياقوت أو سرنديب - كما سماها العرب قديماً - تقف على أرض صلبة قوامها الموقع الجغرافي على طريق الحرير البحري وعطف الطبيعة الباذخ بموارد لامتناهية، وأخيراً حالة مستقرة من التعايش بين مكوناتها المتنافرة في الدين والعرق والثقافة. داخل ورشة سريلانكا الكبيرة، اخترنا الترحال داخل حياة المسلمين فيها، والتقاط صور قريبة من مراكز وجودهم وسط المحيط البوذي، تلك الرحلة انطلقت من العاصمة كولومبو إلى قرية بيروالا ثم العودة مجدداً إلى نقطة البداية... كولومبو.
معزوفة سباق الحياة
وصلنا إلى مطار كولومبو وسط ظلمة حالكة لم تبدّدها غير أنوار مدرج الهبوط، كانت الطائرة في أثناء هبوطها التدريجي ترفع أغطية الظلام واحداً تلو الآخر، حتى تلمّس قائدها أنوار المدرج ليهبط بنا معلناً نهاية الرحلة الجوية وبدء الرحلة الأرضية.
مرت إجراءات ختم جواز السفر وتسلُّم الأمتعة سريعاً، ولو امتد الوقت قليلاً حتى تشرق الشمس لسعدنا بذلك، فما أجمل ترقب المدن وهي تتهيأ لبدء حياة الناس وهم في طريقهم طلباً للرزق! وما أبهى من التلصّص على الشوارع وهي تغتسل في الصباحات الباكرة بعد يوم مرهق من الدهس المتواصل! عند بوابة الخروج بدّد تلاحم لهفات الشوق بالمشتاقين هدأة الهزيع الأخير من الفجر، ثم ما لبث أن تبدّد هو الآخر بفعل ابتعادنا المتسارع عن المطار لتبتلعنا ظلمة كولومبو الخرساء.
لا شيء يرى الآن على ضفتي الطريق غير أضواء خافتة تنير طريقنا، ولم يدُر بخلدي أن الخرس المحيط بنا يحمل لي هدية ثمينة أدخلتني في عمق القصة التي أسعى إليها من دون أي مقدمات، لم يحن الوقت لسردها، ولكنها ستأتي بعد دقائق.
بدأت معزوفات عصافير الصباح المختبئة داخل كهوف الأشجار ذات الجذع العريض تعلن بداية سباق الحياة، نعيق الغربان المهتاج يغالب بقية الأصوات الرقيقة مؤكداً حضور الغراب كأكثر طائر يُمكن رؤيته في سريلانكا.
في بلدان القيادة االيمينيةب، أجلس في المكان الذي اعتدت عليه كمتفرج لا سائق، لأن نظام قيادة السيارة في سريلانكا مثله مثل بريطانيا والهند وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا وإندونيسيا وماليزيا... إلخ، نظام ايمينب، وهو ما يتطلب الحذر الدائم، سواء لمن يريد تجربة القيادة في تلك الدول أو مجرد السير على الأقدام عكس الاتجاهات التي اعتادها.
شيء من الاختلاف طرأ على لون السماء، الفجر يقترب والليل ينسحب بهدوء، كولومبو في هذه الأثناء بدت أكثر وضوحاً ونحن نوقظ طرقها الخالية، أبلغني السائق، واسمه عبدالرزاق، أننا اقتربنا من مقر إقامتي، كانت نافذتي مفتوحة أشاهد منها الإعلانات التجارية المكتوبة باللغتين السنهالية والتاميلية، في هذه الأثناء سمعت صوتاً أعرفه جيداً، كان واضحاً رغم تكسّر أحرفه العربية، لقد حان وقت الهدية الثمينة، إنه أذان الفجر الأول.
إن وقوع هذا الحدث أمر اعتيادي في البلدان التي تقطنها غالبية إسلامية، ولكن في سريلانكا التي يقدّر عدد المسلمين فيها بمليوني نسمة مقابل ثمانية عشر مليوناً غالبيتهم الساحقة من البوذيين، يعتبر مؤشراً على طبيعة العلاقة السائدة بين مكونات المجتمع السريلانكي، وفاتحة لمزيد من التساؤلات حول أبعاد وجذور تلك العلاقة الفريدة، الأمر لم ينته عند هذا الحد، فعندما دخلت غرفتي سمعت صوت الأذان الثاني مرفوعاً من مسجد آخر مجاور للفندق الذي أسكن فيه، بما يوحي أن كثيراً من العمل ينتظرنا.
مدينة غنية بالخيارات
بعد تكرار ما يقوم به الدليل محمد يونس من إغلاق مؤقت لمذياع السيارة، أدركت ما ينتظرني، لقد أبدى يونس حرصاً شديداً على خفض صوت المذياع قبل المرور على أي مسجد يقع في طريقنا، حتى لو كان ذلك وقت نشرة الأخبار، تلك الإشارة السريعة عنت لي الانتباه وتقييم المكان القادم بسرعة، قبل أن أباغت يونس بطلب التوقف للنزول لالتقاط بعض الصور، هو أيضاً كان يبادلني الانتباه لأن مهمته في إيجاد مكان مناسب للتوقف في مدينة مزدحمة ليست بالأمر الهيّن، كنت وهو نخوض في جولة نهارية على أهم معالم مدينة كولومبو لنرى فيها ما لم يكن متاحاً وقت وصولي.
تستنشق كولومبو الهواء المنعش القادم من المحيط الهندي كل صباح، وهو ما أعطاها نفحة من الاعتدال في هوائها، خصوصاً بعد مغيب الشمس، أما فترة الظهيرة فيختلط فيها الهواء الساخن مع الرطوبة ساعات طويلة حتى تميل زاوية الشمس نحو الأسفل وتستعيد نسمات الهواء برودتها.
لم يكن ينقص تلك المدينة شيء من ملامح المدن العصرية التي تتمتع بشبكة مواصلات واتصالات حديثة وفعالة، وأهم ما يمكن قوله عن كولومبو إنها مدينة نظيفة مرصوفة الشوارع ومظللة بالأشجار الكثيفة، وهي مدينة غنية بالخيارات في كل شيء، وهو الشرط الذي يميز بين المدن العاجزة عن تحفيز زوارها للبقاء فيها أياماً إضافية، والمدن التي تستوعب الزوار مهما كانت ميزانيتهم متواضعة، من هنا كان وجود االتكتكب كوسيلة مواصلات عنصراً حيوياً في توفير المال والانتقال السلس داخل شرايين المدينة، أما الإقامة فهي متوافرة بالنجوم ومن غيرها.
كانت العلاقة الجدلية بين القديم الشامخ والحديث البرّاق محتدمة، المراكز التجارية المكيفة تقضم من مساحات الأسواق الشعبية المكشوفة، واللوحات الإعلانية الضخمة ظلت نفسها على جدران المباني الهرمة، أما معاقل الإشعاع الروحي لمختلف الديانات فمازالت مزدهرة بالمؤمنين.
المسجد الأحمر في «بيتاه»
نعود مجدداً للدليل محمد يونس، الذي أعطاني خيارات عدة بخصوص المساجد والجوامع الموجودة في كولومبو، أغلب ما رأيته كان مألوفاً ولا يقدم صورة تعكس عمق الوجود الإسلامي في سريلانكا، إلى أن وجدت ضالتي في المسجد الأحمر بالمنطقة التجارية ابيتاهب، التي تعج بالمسلمين وأسواقهم المحيطة بالمسجد.
المسجد الأحمر الذي افتتح عام 1909م، يعد تحفة معمارية تجتذب الأنظار لغرابة تصميمه ولونه المحصور بين لونين فقط الأبيض والأحمر، ويرجع ذلك إلى تأثر مهندس البناء سابيو ليبي بالنمط المعماري الهندي ذ العربي.
ويمثل المسجد الأحمر في ابيتاهب صورة من صور الوجود الإسلامي في كولومبو، وكذلك العلاقة المتينة بينهم وبين المسلمين في منطقة جنوب الهند، وفي يوم جمعة وبين صلاتَي الظهر والعصر توجهنا لزيارة المسجد الأحمر.
عندما توقفت بنا السيارة خلف المسجد، لم أتوقع أن يكون بهذا الاتساع من الداخل، سرت نحو المدخل الرئيس وخلعت حذائي الرياضي وسلمته لرجل يعمل على جمع أحذية المصلين، سألته: هل التصوير مسموح به هنا؟ ابتسم وأومأ برأسه بما يعني الموافقة، ثم رفع يده اليمنى مشيراً بسبّابته إلى لوحة كتب عليها سنة افتتاح المسجد الأحمر (1909م).
دخلنا باحة المسجد والتقطنا الصور وتبادلنا الأحاديث مع مجموعة من روّاد المسجد الذين تعرفوا على مهمتنا في سريلانكا وأمدونا ببعض المعلومات عن آخر عمليات التوسعة في هذا المسجد، حيث دشّنت في عام 2015م حملة تبرعات لاستكمال عمليات التوسعة دعت إليها الجمعية المعنية برعاية المسجد الأحمر، وقد جُمع ما يكفي لإتمام المطلوب، ويستوعب المسجد الآن ما يقرب من خمسة عشر ألف مصلٍ في وقت واحد، بعد أن كان يستوعب عند بنائه ألفاً وخمسمائة فقط، ولا تعطي السلطات السريلانكية تراخيص لبناء مساجد جديدة، ولكنها لا تمانع في إجراء عمليات ترميم أو توسعة لزيادة الطاقة الاستيعابية للمساجد.
وتتلخص قصة بناء المسجد الأحمر في تزايد أعداد المسلمين في منطقة ابيتاهب التجارية، وتنطق هكذا ابي تاهب، وقد أرادوا لأنفسهم مكاناً مناسباً يجمعهم لأداء الصلوات الخمس بدلاً من الصلاة فرادى، فأقدم تاجر مسلم من جنوب الهند على شراء قطعة من الأرض وأهداها لبناء المسجد الذي يعرف اليوم بالمسجد الأحمر، وقد بُني أول الأمر من طابقين ثم تواصلت عمليات التوسعة عبر الزمن وحتى التي جرت أخيراً عام 2015م.
وعن عادات مسلمي سريلانكا في شهر رمضان المبارك، سألنا مَن أحاطونا بمشاعرهم الفيّاضة فأجابونا بأن عاداتهم لا تختلف عن بقية المسلمين في العالم، فجميع المطاعم التي يملكونها تغلق أبوابها حتى موعد أذان المغرب، ولكنهم يستقبلون رمضان بالفرح والسرور وإشعال الأنوار وتحضير بعض الأطعمة، كما تجهز الساحات المحيطة بالمساجد بالمفروشات اللازمة استعداداً لتأدية صلاة التراويح التي تشهد إقبالاً يفوق مساحة المساجد الداخلية.
حلم داخل علَم
حتى نبدأ بفهم طبيعة التنوّع الثقافي والعرقي والديني في سريلانكا، يمكن الانطلاق من محطتين، الأولى هي مكوّنات العلم الرسمي للبلاد، والمحطة الثانية هي الموقع الجغرافي لجزيرة سريلانكا وأهميته قديماً وحديثاً في التجارة الدولية، أما في ما يخص مكانة المسلمين في الدولة بعد الاستقلال، فيمكن القول إن خيار الطائفة الإسلامية بالوقوف مع الحكومة السريلانكية في حربها ضد التاميل عزّز مواقعهم وأوضاعهم بشكل عام، ولعل وصول الشيخ محمد حنيفة محمد إلى رئاسة البرلمان السريلانكي أكبر دليل على ذلك، وقد التقينا به - رحمه الله - في المركز الإسلامي في كولومبو قبل وفاته بأسابيع، وأهدانا كتاباً يضم سيرته الذاتية.
يعتبر العلم السريلانكي الحالي بعثاً مطوراً للعلم الملكي القديم الذي أنهاه الاستعمار البريطاني عام 1815م، بعد نجاحه في الهيمنة على كامل أجزاء الجزيرة وآخر معاقلها المتمثلة في مملكة كاندي الواقعة وسط سريلانكا، ووضعت تفاصيل ذلك العلم لكي يعكس التنوع الثقافي والعرقي والديني الموجود، مع أفضلية واضحة للمكون السنهالي البوذي، كما يلخص ذلك العلم الحالة المأمولة للاستقرار في عهد الاستقلال، الأمر الذي لم يتحقق في البداية بعد تفجّر الأوضاع بين أقلية التاميل الهندوسية والغالبية البوذية ودخول سريلانكا في دوامة حرب أهلية طويلة لم تنته حتى عام 2009م.
يشتمل علم سريلانكا على صورة الأسد القابض بيمينه على سيف مشبّع بالرموز التي لم تستثن حتى لحية الأسد، ولكن ما يهمنا هو معنى الخطين العريضين الأخضر والبرتقالي على يسار العلم، اللذين أدخلا للتعبير عن الأقليتين الإسلامية ويمثلها اللون الأخضر، والتاميلية ويمثلها اللون البرتقالي.
وليس لهذا العلم أو أي علم يلتمس شعارات ورموز الوحدة والتسامح أي جدوى ما لم يكن له تطبيق على أرض الواقع وأثر في النفوس، بدليل أن العلم السريلانكي لم يمنع نشوب الحرب الأهلية، بالرغم من أنه يعتبر - في نظري - خطوة كبيرة من غالبية ساحقة تجاه أقليات مجهرية، ولكن مسار الأحداث والألغام التي زرعها المحتل أوصلهم إلى لحظة الصدام الخشن بين شعور سنهالي متراكم بالظلم عبر التاريخ، وانتفاضة نمور التاميل دفاعاً عن امتيازاتهم التي تمتعوا بها خلال أيام الاحتلال.
وكان البرتغاليون هم أول من زرع بذرة الخلاف بين السنهاليين والتاميل باعتمادهم لغة الأقلية التاميلية اللغة الرسمية للبلاد! مع جهد تبشيري اتسم بالقسوة لنشر الكاثوليكية بين البوذيين، وأكمل الهولنديون ومن بعدهم البريطانيون سياسة التمييز في المعاملة، مع لمسة خاصة للإنجليز تمثلت في تغيير التركيبة السكانية لمصلحة التاميل من خلال جلب المزيد منهم من جنوب الهند للعمل في حقول الشاي بعد تطور تلك الصناعة وزيادة الطلب على الشاي في العالم.
لقد بات العلم السريلانكي اليوم أكثر نضارة وتعبيراً من المعاني التي حملها، وهو قاطرة للعبور إلى المستقبل بقيادة الأسد القابض على السيف.
على طريق الحرير البحري
المحطة الثانية لفهم طبيعة التنوع الثقافي والعرقي والديني في سريلانكا تكمن في موقعها الجغرافي كمحطة رئيسة على طريق الحرير البحري، وتتوسط كتلة اقتصادية ضخمة هي الصين شرقاً وموانئ جنوب شبه الجزيرة العربية شرقاً ومن فوقها الهند بكل ثقلها، هذا الجسر الممتد بين حضارات الشرق والغرب لم يحمل الحرير والتوابل والزعفران واللبان والقرفة والجلود وعشرات الأصناف من البضائع، بل حمل معه الأديان والأفكار والدعاة والغزاة.
وتتضاعف أهمية محطة سريلانكا وجميع محطات طريق الحرير البحري في فترات تعطل خط الحرير البري نتيجة الحروب أو غياب الأمان الكافي لاستخدامه، ولولا ذلك الموقع الجغرافي المميز على طريق الحرير البحري، لعاشت سريلانكا حياة العزلة المضاعفة، عزلة الماء المحيط بها من كل ناحية وعزلة الجغرافيا التي حرمتها من قرب الجيران في ما عدا الحبل المرجاني الرفيع الذي يربطها مع الهند وشيء من القرب النسبي مع جزر المالديف، وبمعنى آخر لولا هبة الموقع الجغرافي لما عرفت سريلانكا شيئاً عن العالم الخارجي سوى ما يأتيها من نافذة الهند.
بيروالا... الجامع والجامعة
لا تختلف قصة وصول الإسلام إلى جزيرة سريلانكا عن بقية جزر جنوب شرق آسيا، قد تختلف في التفاصيل ولكن الجوهر واحد: لم ينتشر الإسلام في إندونيسيا وماليزيا والمالديف والفلبين وغيرها من المناطق عن طريق الحملات العسكرية، ولكن عن طريق التجار والدعاة والمهاجرين القادمين من منطقة حضرموت في اليمن في ما يعرف بــ اهجرة الحضارمةب.
المحطة الأشهر للاستيطان العربي في سريلانكا هي قرية بيروالا، التي تقع على بعد 55 كلم جنوب كولومبو، وتعد رمزاً للفترة التي هيمن العرب فيها على خطوط التجارة البحرية، ومن خلالها نشأت علاقات قوية مع السنهاليين وملوكهم الذين رحبوا بالنشاط التجاري مع المسلمين من منطق لا يخلو من السياسة، فمن يهيمن على تلك الطرق يهيمن على التجارة العالمية وتعلو كلمته على بقية القوى الإقليمية، وفي بيروالا نزل التجار والمهاجرون والدعاة، ومنها انتشروا في أنحاء سريلانكا، ومنهم من استقر فيها إلى يومنا الحاضر.
بيروالا تلك القرية المليئة بأشجار جوز الهند وتجارة الأحجار الكريمة، محطة مهمة في رحلتنا، كونها تحتضن مجموعة من المساجد القديمة التي تؤرخ لوصول التجار المسلمين لتلك المنطقة بدليل مادي ملموس، كما توجد فيها الجامعة النظيمية الإسلامية التي اعتمدنا على كتيبها كمرجع لأغلب المعلومات عن تاريخ الوجود الإسلامي في سريلانكا.
قيل لنا عنها إن شهرتها تتمحور في بيع الأحجار الكريمة وأعيانها من أغنى تجار هذا البلد، ومنهم صاحب الجامعة التي اشتق اسمها من اسمه وهو الشيخ نظيم، في الطريق إليها دخلنا زقاقاً غص بالناس عند بوابة تراءت لنا كمدخل لمسجد وتركناه خلفنا، وفي طريق العودة عدنا إلى المكان نفسه، ولكن سرنا فيه بتمهل، لم يكن ذلك الحشد سوى مكان باعة الأحجار الكريمة وقوفاً بلا محال أو عربات، فصال في فصال وجدل قلَّما ينتهي ببيع وشراء.
ذهبنا أولاً إلى كيتشيمالاي الذي بُني على الصخرة البيضاء المطلة على المحيط الهندي، كان موقعه محفزاً للسؤال: ما الذي حصل هنا من دمار عندما هاج تسونامي؟ سألت المشرف الذي أجابني بأن هذا المسجد لم يتهدم ولكنه أصيب ببعض الأضرار نتيجة دخول ماء البحر لأرضية المسجد.
وأضاف: بالفعل تهدمت مساجد أخرى قريبة منا، خرج إلينا إمام المسجد وهو شيخ كبير في العمر يدعى غانم علوي من أحفاد أحفاد عرب حضرموت الذين هاجروا إلى سرنديب، لم يتحدث كثيراً ولكنه رحّب بنا وجلس ليقرأ علينا ما تيسر من القرآن الكريم، ثم سمح لنا بتصوير المسجد من الداخل، أما المشرف فقد عاد إلينا ومعه ورقة كتبت باللغة العربية فيها معلومات مركزة عن تاريخ المسجد الأبيض أهمها أنه بُني قبل ثمانية قرون.
ومن المسجد توجهنا إلى الجامعة النظيمية الإسلامية، حيث كان ينتظرنا هناك نائب مدير الجامعة د. آغار محمد عبدالكريم، الذي أعطانا شرحاً وافياً عن تاريخ تلك الجامعة ورسالتها وأهدافها، كما أهداني كتيباً تضمن معلومات مهمة عن تاريخ وأحوال المسلمين في سريلانكا.
الجامعة النظيمية عضو في اتحاد الجامعات الإسلامية، وهي بيئة تعليمية متكاملة يتلقى فيها الطالب رعاية خاصة وفرصاً واعدة لتعلم مهارات متعددة تضمن له أفضلية القبول في وظائف القطاعين العام والخاص، وفي هذه الجامعة ذات الطابع الديني الواضح، لا يتلقى طلابها العلوم الشرعية فقط، ولكنهم يتعلمون لغات العمل والحياة مثل الإنجليزية والسنهالية، أما الأولى فهي لغة عالمية، بينما الثانية فهي لغة الغالبية في سريلانكا وإجادتها تيسّر للطلاب المسلمين سهولة الاندماج معهم، ويوجد في الجامعة معهد تكنولوجي لتعليم الحرف اليدوية.
وقد سلط د. آغار محمد عبدالكريم الضوء على الدور الحيوي الذي يؤديه المسلمون في الحياة العامة والخصوصية التي يتمتعون بها داخل الدولة، فهم يديرون محاكمهم القضائية الخاصة بقضايا الأحوال الشخصية ولديهم مدارس حكومية كثيرة، كما توجد لهم بعض البرامج في الإذاعة والتلفزيون، وأخيراً تعتبر أعياد المسلمين عطلات رسمية في الدولة.
ويبدو أن مشكلة اللغة هي التحدي الذي يواجهه المسلمون في سريلانكا بعد الاستقلال، حيث إنهم يتكلمون بالتاميلية، وغالبية المؤلفات الإسلامية لعلماء سريلانكا كتبت بهذة اللغة، في حين تعتبر اللغة السنهالية اللغة الرسمية للدولة، الأمر الذي دفع الشباب المسلمين إلى تعلم السنهالية باعتبارها لغة الحياة اليومية والعمل.
وتتجه الأنظار الآن إلى مشروع ضخم لترجمة جميع المؤلفات الإسلامية من اللغة التاميلية إلى السنهالية ولكنه لايزال على الورق لارتفاع التكاليف.
كنا على موعد مع اللغة العربية ومجلة العربي، فبعد نهاية اللقاء مع د. آغار محمد عبد الكريم، خرجنا برفقة أحد العاملين في الجامعة النظيمية ويدعى محمد مصباح لزيارة بعض الفصول الدراسية التي تدرس اللغة العربية ورؤية ذلك على الطبيعة، الفصل الأول كان مخصصاً لتدريس اللغة السنهالية (لغة الغالبية في سريلانكا) الفصل الذي يليه كان فيه درس في التاريخ باللغة العربية يشرحه
د. علاء الدين منصور عبد الغفار وهو من مصر، أما الفصل الثالث فكان فيه درس في اللغة العربية يتناوله الأستاذ محمود فتحي عليان لتلامذته، وهو الآخر من مصر.
بعد زيارة الفصول الدراسية ذهبنا إلى مكتبة الجامعة التي تضم ما يقارب الأربعين ألف كتاب، وقد أنشئت بدعم من البنك الإسلامي للتنمية ومقره مدينة جدة، تضم هذه المكتبة كل ما يخدم مناهج الجامعة وتوسيع دائرة معارف طلبتها، مساعد أمين المكتبة حسان سليمان حرص على اصطحابنا إلى ركن المجلات الدورية كي يطلعنا على مجموعة المكتبة من أعداد مجلة العربي التي تشهد إقبالاً متواصلاً من طلبتها الذين يجدون في لغتها العربية الميسرة عوناً لهم في دراستهم.
يستند كتيب الجامعة النظيمية بشكل كامل إلى رواية ابن برزك عن زمن وصول الإسلام إلى سريلانكا خلال فترة الخليفة
عمر بن الخطاب . وملخص رواية برزك ابن شهريار التي أوردها في كتابه اعجائب الهند... برّه وبحره وجزائرهب، يشير إلى أن خبر الإسلام وصل إلى سريلانكا في أيام الخليفة عمر وقد أوفدوا إليه بعثة من شخصين، رسول وخادمه، تستطلع تعاليم الإسلام، وقد التقى ذلك الرسول بالخليفة وأخذ منه ما تم إرساله لأجله، وفي طريق العودة فاضت روحه إلى بارئها فأكمل خادمه المهمة في تبليغ ما عرفه عن تعاليم الإسلام إلى أهل سريلانكا.
وضمن الكتيب نفسه وردت إشارة عن سبب فتح بلاد السند، الذي يعود إلى استيلاء مجموعة من القراصنة من االديبلب التي تقع قرب مدينة كراتشي على عدد كبير من السفن التابعة لمسلمي اسرنديبب بكل ما فيها من هدايا وركاب، وقد بلغ خبرهم الحجاج بن يوسف الذي أرسل إلى ملك الديبل اداهرب يطلب استرجاع ما أخذه القراصنة، ولكن اداهرب تعذر بأنه لا سلطان له عليهم، فغضب الحجاج وأرسل أكثر من حملة عسكرية بموافقة الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك ولم تفلح، لكن الأخيرة بقيادة محمد بن القاسم كللت بالنجاح وقتل الملك داهر في أرض المعركة وفتحت بلاد السند بكاملها.
ولعبت العلاقات الوطيدة بين مسلمي سريلانكا وجنوب الهند دوراً كبيراً في تعزيز وانتشار الإسلام في البلاد، كما تحرص مجموعة من المسلمين العرب الذين استوطنوا الساحل الجنوبي الشرقي على تفقد أحوال المسلمين في سريلانكا، ولعل قصة بناء المسجد الأحمر في ابيتاهب التي سبق ذكرها خير شاهد على ذلك.
وأخيراً انتهت رحلتنا إلى بيروالا، وهي على صغر حجمها كانت غنية بالمعلومات ومحطة متوهجة في هذه الرحلة.
مركز كولومبو الإسلامي
لم يتبق لنا ضمن برنامج هذه الرحلة غير زيارة مركز كولومبو الإسلامي، وقد أجلنا زيارته بتوصية من سفير دولة الكويت في سريلانكا السيد خلف بوظهير، حتى تتزامن زيارتنا مع احتفال يقيمه المركز بمناسبة تخريج دفعة جديدة قوامها 62 طالباً وطالبة، ولأجل الالتقاء مع شخصية مهمة في التاريخ السريلانكي الحديث هي الشيخ محمد حنيفة محمد الذي سيحضر جانباً من ذلك الاحتفال رغم تقدمه في السن.
لقد كان هذا المركز بمنزلة الحلم الذي سعى الشيخ محمد لتحقيقه كي يكون محطة محورية للبحوث والتنمية الثقافية الدينية ونشر الأدب الإسلامي، وبعد طول عناء تم في 17 ديسمبر 1986م افتتاح مركز كولومبو الإسلامي بدعم من البنك الإسلامي للتنمية، بحضور رئيس الجمهورية آنذاك جونيوس ريتشارد جيوردين كمنظمة غير حكومية لتحقيق أهداف محددة تتمثل في تعزيز الهوية الدينية والثقافية والاجتماعية للمسلمين في سريلانكا وتقديم أنشطة نوعية في جميع أرجاء البلاد من بينها الاحتفال بميلاد النبي .
وقبل بداية الحفل بقليل جمعنا لقاء في مكتب الشيخ حنيفة وأعضاء مجلس الإدارة والسفير بوظهير، ودار حوار حول أوضاع المسلمين في سريلانكا في الوقت الحالي، وقد كانت الإجابات بشكل عام تؤكد أن الأمور بخير وأن حرية العبادة مكفولة والمساحة التي يتحرك فيها المسلمون جيدة، كان الشيخ محمد متابعاً للحوار وعلى يساره تبدو صورة قديمة له وهو يترأس إحدى جلسات البرلمان السريلانكي، كانت الصورة بمنزلة إجابة موازية للإجابات السابقة، قبل أن نخرج من المكتب طلب الشيخ محمد نسختين من سيرته، واحدة للسفير والثانية لي.
وتولى الشيخ محمد حنيفة مناصب مهمة عدة في الدولة، أبرزها منصب رئيس البرلمان السريلانكي، وكان وزيراً في أكثر من حكومة للأشغال والإسكان والنقل العام والخاص والشؤون الإسلامية، وقبل ذلك تولى رئاسة بلدية كولومبو ومنصب عمدة المدينة، وقد سخّر معظم حياته لخدمة العمل الإسلامي والمسلمين في سريلانكا، وفي أثناء كتابتنا لهذه الأسطر بلغنا نبأ وفاته، فله الرحمة والمغفرة.
هي اللحظة وفي المستقبل الخبر
كل ما فات لم يكن غير تسجيل اللحظة واستحضار التاريخ بقدر الحاجة، وبقدر ما أوحت وباحت لنا المعطيات عن أحوال المسلمين في سريلانكا، فإننا نؤكد أنها معطيات اللحظة مع تسليمنا بوقوع مجموعة من المضايقات من بعض الرهبان البوذيين للمسلمين في أوقات سابقة، ولكنها لا تدخل في إطار العمل الممنهج الذي يستهدف تحقيق أهداف معينة، اللحظة تؤكد وجود 2000 مسجد في مختلف أرجاء سريلانكا، واللحظة جمعتنا مع أناس كثيرين لم نسمع منهم ما يعكّر صفوها، إذاً لم يتبق لنا غير المستقبل الذي يكمن فيه الخبر، والذي لا نتمنى إلا أن يكون أجمل مما كان.
أيّ الأسماء تليق بك؟
سيلان، سرنديب، جزيرة الياقوت، زيلان، سيلاو، تابروباني... سريلانكا، أعلم أن الاسم الأخير هو النهائي، ولكن أي الأسماء تليق بالجزيرة الخضراء؟
بعكس ما كان متوقعاً لم تندثر معظم الأسماء السابقة وبقي منها ما بقي كأسماء لشركات ومحال وعلامات تجارية، كان اسرنديبب أول الأسماء التي وجدتها باقية على قيد الحياة، فقد اختارته شركة الخطوط الجوية السريلانكية عنواناً مشعاً لمجلتها الشهرية كي يقرأه كل من جلس على أحد مقاعدها، الأمر نفسه تكرر مع اسيلانب، ولكن بزخم أكبر، فلا يكاد يخلو مكان من ذلك الاسم، فما السبب؟ هل هو الحنين؟ أم هي إشكالية الجمال الذي لا يحتمل اسماً أو وصفاً أو قصيدة واحدة؟
جمال سريلانكا وسحر ابتسامة ناسها أوقعاني في حيرة لا أزال فيها، ملخصها الأسئلة التالية: كيف لهذه الأرواح الجميلة أن تعرف طريق السلاح والبارود والقتل؟ وكيف على النقيض من ذلك جعلوا من أنفسهم أنموذجاً للتعايش وومضة أمل بين أخبار العالم الكئيبة؟
فسلام الله على اسرنديبب وأهلها.
صورة من الأعلى تكشف بعض تفاصيل حداثة وعصرية مدينة كولومبو
صورة عامة للمسجد الأحمر (افتتح 1909م) الواقع في منطقة «بيتاه» وهو يمثل عمق الوجود الإسلامي في مدينة كولومبو والعلاقة المتينة بينه وبين مسلمي منطقة جنوب الهند الذين ساهم أحد تجارهم بشراء الأرض التي بني عليها هذا المسجد
أستاذ اللغة العربية محمود عليان مستغرقاً هو وتلامذته في الحديث عن العناوين التي كتبها على «السبورة»: ( المسرح، الإنشاد، الأخبار، الخطابة، الكتابة، القصة )
لا ينقص كولومبو شيء من ملامح المدن العصرية فهي غنية بالخيارات في كل شيء وتتمتع بشبكة مواصلات واتصالات حديثة وفعالة وحركة البناء لا تتوقف فيها وإلى جانب كل ذلك هي مدينة نظيفة مرصوفة الشوارع