العرب وعلم دراسة المستقبل الواقع والآفاق

العرب وعلم دراسة المستقبل  الواقع والآفاق

تطور مفهوم المستقبل مع تطور الفكر البشري، من نظرة ترى المستقبل «قدراً محتوماً»، رسمته وخطّطت له قوى خارقة لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال، ولا يملك الإنسان حيالها خيارات تُذكر، إلى نظرة تنطلق من مبدأ الصيرورة وقدرة الحياة على التجدّد، وترى في المستقبل بُعداً زمنياً يمكن التحكّم في صورته، فدراسة المستقبل ليست ترفاً لأناس يهتمون بالتأمل في مصيرهم، بل جهد مركّب لا خلاف حول أهميته وضرورة توطينه في الوطن العربي. 

جاء هذا المقال ليحلل علم دراسة المستقبل، ونشأته، وأهميته، وواقع الجهود العربية في الدراسات المستقبلية، وأهمية التوسع فيها.

أولاً: ماهية الدراسات المستقبلية
يعد التفكير في المستقبل نشاطاً جوهرياً للبشر منذ البدء في بناء الحضارات المختلفة. وقد توجه الإنسان بفكره نحو المستقبل على مدار الفترات المتعاقبة تاريخياً، فقدَّم أفلاطون رؤيته نحو ما يجب أن يكون عليه المجتمع مستقبلاً، مستنداً إلى فكرة العدالة، وأطلق عليها المدينة الفاضلة، التي مثّلت تصوره للدولة، وتأثر فيه بخبراته وموت سقراط والمناقشات والحوارات التي أجراها مع نظرائه. 
وتمثلت الإرهاصات الأولى لعلم المستقبليات في أعمال كثير من المفكّرين والأدباء؛ كما في «مقال في السكان» لتوماس مالتوس، الذي يعد رؤية مستقبلية تشاؤمية للنمو السكاني، وكتاب المفكر الفرنسي كوندرسيه (1793م)،  بعنوان «مخطط لصورة تاريخية لتقدم العقل البشري»، الذي استخدم فيه أسلوبيْن منهجييْن في التنبؤ مازالا يستخدمان على نطاق واسع  من قبل المستقبليين المعاصرين.
أما هربرت جورج ويلز، أشهر كتَّاب روايات الخيال العلمي، فهو أول من أسهم في تأصيل الاهتمام العلمي بالدراسات المستقبلية، ودعا في محاضرة ألقاها في يناير 1902، أمام المعهد الملكي البريطاني، إلى «علم المستقبل»، كما أن هناك اتفاقاً على أن أوسيب فلختهايم، هو صاحب مصطلح «علم المستقبل» في عام 1943، مؤذّناً بميلاد علم جديد يبحث عن منطق المستقبل بالطريقة نفسها، التي يبحث فيها علم التاريخ عن منطق الماضي.
واستشراف المستقبل هو اجتهاد علمي منظم يرمي إلى صوغ مجموعة من التنبؤات المشروطة، التي تشمل المعالم الرئيسة لأوضاع مجتمع ما، أو مجموعة مجتمعات، وعبر فترة مقبلة تمتد قليلاً لأبعد من عشرين عاماً، وتنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي والحاضر، لاستكشاف أثر دخول عناصر مستقبلية على المجتمع. فاستشراف المستقبل لا يستبعد أيضا إمكان استكشاف نوعية وحجم التغيرات الأساسية الواجب حدوثها في مجتمعٍ ما حتى يتشكل مستقبله على نحوٍ معين منشود.

ثانياً: أهمية الدراسات المستقبلية
شهد الغرب عقب الحرب العالمية الثانية حركة واسعة استهدفت الاهتمام بالدراسات المستقبلية، حتى صارت صناعة أكاديمية، ومنهجاً عملياً في الإدارة والتخطيط. وزادت أعداد العلماء والباحثين المشتغلين بالدراسات المستقبلية، وانتشرت المراكز والجمعيات والمعاهد المتخصّصة في الدراسات المستقبلية. 
وتتبلور أهمية الدراسات المستقبلية في:
1 - رسم خريطة كلية للمستقبل من خلال استقراء الاتجاهات المحتمل ظهورها، والقوى والفواعل الدينامية المحركة للأحداث.
2 - بلورة الخيارات الممكنة والمتاحة، وعمليات المفاضلة بينها، واستطلاع النتائج المحتملة، وتحديد الاختيارات المناسبة.
3 - التخفيف من الأزمات عن طريق التنبؤ بها قبل وقوعها، والتهيؤ لها.
4 - توفير سيناريوهات ابتكارية تزيد كفاءة وفاعلية التخطيط الاستراتيجي.
5 - تزايد التأثيرات المعقّدة لتحديات مستقبلية ذات طابع عالمي، مثل التهديد بفناء الحضارة الإنسانية، والتغيّرات المناخية وما يصاحبها من ظواهر كالغرق والتصحُّر.
6 - ترشيد عمليات صنع القرار وتوفير مرجعيات مستقبلية لصانع القرار، واقتراح الطرق الممكنة لحلّ المشكلات.
7 - زيادة المشاركة الديمقراطية في صنع المستقبل وصوغ سيناريوهاته، والتخطيط له.

الجهود العربية في مجال الدراسات المستقبلية
يعود الاهتمام العربي بعلم المستقبل إلى منتصف العقد السابع من القرن الماضي، عبر مجموعة من المؤلفات والدراسات، التي ساهمت في نشر التفكير العلمي في المستقبل في الوطن العربي رغم قلة عددها. 
وهناك سِمَتان تسمان الجهود العربية في مجال الدراسات المستقبلية؛ الأولى أنها عمل مؤسسي قامت به مؤسسات معظمها ينتمي إلى المجتمع المدني، والثانية أنها لا تتصف بالتراكم والاستمرار، وبالتالي بدت وكأنها لا يوجد ارتباط بينها.
وتمثلت الجهود العربية الأولى في ذلك الميدان في:
- الدراسة الرائدة بعنوان «الوطن العربي عام 2000» الصادرة في عام 1975، وهي نتاج عمل فريق من الخبراء العرب بدعم من مؤسسة المشاريع والإنماء العربية. وهدفت إلى استطلاع مستقبل للوطن العربي حتى عام 2000م.
- جهود مجموعة القاهرة عام 1977، بقيادة خبراء معهد التخطيط القومي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في الكويت. وهدفت إلى تأسيس حركة فاعلة للتخطيط الطويل المدى في الوطن العربي.
- دراسة إسماعيل صبري في عام 1977، وطرحت سيناريوهات المستقبل في مصر.
- ورقة عمل لجنة خبراء استراتيجية العمل الاقـــــتــــصادي العـــــربي المشترك في عام 1978. وهدفت إلى محاولة تطوير التعاون العربي المشترك.
- وثيقة استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك سنة 1979، بدعم من جامعة الدول العربية، وركزت على التنبؤ بفترة الثمانينيات من القرن الماضي.
وبالإضافة إلى ضآلة إنتاج دراسات المستقبليات، فإن الواقع العربي يعاني الآتي:
- غالبية الدول العربية لا تأخذ بهذه الدراسات كأساس لاتخاذ القرارات.
- قلة الجامعات العربية التي جعلت موضوع المستقبل ضمن مناهجها ومقرراتها التدريسية.
- محدودية المراكز التي تتّخذ من دراسات المستقبل عنواناً لها أو لمجال لعملها.
- ندرة الدوريات العربية المتخصصة في نشر الدراسات المستقبلية.
- قلة النوافذ الإعلامية العربية التي تتولى الترويج لثقافة صناعة المستقبل.

معوقات وصعوبات 
هناك صعوبات تعترض انتشار الدراسات المستقبلية في الوطن العربي، منها:
أ- غياب الرؤية المستقبلية في بنية العقل العربي، والنظرة السلبية إلى المستقبل.
ب- الانشغال بإعادة إنتاج الماضي أكثر من الانشغال بقراءة المستقبل، وإنتاجه وصناعته.
جـ- غياب تقاليد الفريق والعمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي والتسامح الفكري والسياسي، وقبول التعدد والاختلاف.
د- قصور المعلومات وصعوبة الوصول إليها وعدم توافر قواعد معلومات دقيقة وحديثة.
هـ- غياب الأطر المؤسسية المتخصّصة في الدراسات المستقبلية، والانشغال بهموم «الحاضر» وقضاياه الضاغطة، عن «المستقبل» وقضاياه المؤجلة.
وما يشهده الوطن العربي من متغيرات وحروب في الوقت الحاضر، يؤكد الحاجة إلى علم المستقبل بمنهجياته وأساليبه المختلفة، ليساعدنا على دراسة الأزمات الراهنة والمستقبلية، وتحديد أنسب الطرق للتعامل مع الحاضر وبناء المستقبل.
إن الدراسات المستقبلية في الوطن العربي ستظل تراوح مكانها إن لم نسعَ إلى إعادة تشكيل العقل العربي، وخلق تيار وطني وقومي يمتلك عقلاً منهجياً نقدياً يتغلب على كل أشكال القيود الموروثة والمصنوعة. 
ومن العبث وضع رؤى مستقبلية أو دراسات استشرافية مع بقاء حالة الأسر للماضي، بدلاً من إطلاق مشروع فكري عقلاني قادر على أن يؤسس لقيام مدرسة عربية للدراسات المستقبلية ويروّج لأساليبها ومنهجياتها .