الشفاء من اضطراب نفسي

الشفاء من اضطراب نفسي

في ظل الأجواء العالميّة المشحونة اليوم بوقائع العنف والعدوانيّة والإجرام التي لا مثيل لها، حيث يتعرّض الإنسان - طفلاً كان أو مراهقاً أو راشداً - لمناظر إجراميّة تقشعر لها الأبدان، أرى من واجبي اليوم، كمعالِجة نفسيّة وباحثة متخصصة، القيام بأقل واجباتنا تجاه هذا الإنسان المعاصر.

 وأعني بذلك تعريفه على الوجه المقابل لهذا الواقع الإجرامي المفروض عليه، إن في الواقع أو على المستوى الإعلامي (السمعي - البصري)، أي تعريفه على واقع شفائه من الاضطرابات النفسيّة (الاضطرابات النفس - جسديّة من ضمنها) التي قد يثير العديد منها ذلك الواقع الإجرامي الذي يتعرّض له في حياته اليوميّة، والذي قد يتمكّن شخصيّاً من تخفيف آثارها، وحتى من شفاء نفسه منها أحياناً، بفضل تعرّفه على التقنيات العلاجيّة، وبخاصّة تلك التي لا تحتاج إلى معالِج. أوّل خطوة في هذا المضمار هي «اعتراف الشخص بأهميّة العلاج النفسي»، وأوّل خطوة يمكنه اعتمادها هي التقبّل (تقبّل الحَدَث: المصيبة، الاضطراب... إلخ)، لأنّ موقف الثورة الذي يمنع الفرد من تقبّل ما يحصل معه يعكّر مسار مختلف الاحتمالات الإيجابية المتوافرة لديه. وعندها، تبدو الحياة له غامضة وفارغة، فتبدو كل بداية علاجية معها مسمّمة بالشك والخوف، إذ يكون الكائن البشري مليئاً بالمرارة ويحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدمار؛ لكنّ الشلل الداخلي يكون مسيطراً عليه فيطيل انعدام الحركة شعوره بالعجز عن إيجاد مخرج. أمّا تقبّل الأسوأ (عبر تقبّل الحَدَث)، فيؤمّن قطعاً صغيرة من السلام الداخلي الذي يدفع باتّجاه البحث عن حلول ممكنة، لأنّ من يتقبّل الأسوأ فليس لديه ما يخسره، بل على العكس، لا يمكنه إلا أن يربح لأنّ الأسوأ يكون قد خسر طابعه المخيف.من هنا اعتبار «تقبّل الإنسان لذاته» بمنزلة المفتاح الذي يتمكّن بواسطته من استعادة صحّته بشكل عام، إذ يشكّل هذا التقبّل سوراً منيعاً ضد العديد من الاضطرابات (النفس- جسدية من ضمنها)، من المشكلات، من الصراعات ومن الآلام التي تحاول إيجاد مكانٍ ما في حياتنا (وبخاصّة حين نعيش في أجواء متوتّرة من الحروب أو العدوانيّة)، لأنّنا إن لم نتمكّن من تقبّل ذاتنا، وكان الإحساس بعدم الكفاية يُثقِل علينا، فإنّنا نرهِق أعضاءنا وننمّي لدينا آلاماً وأمراضاً  واكتئابات متنوّعة. والأخطر يتمثّل في أن عدم الرضا هذا يثقل كثيراً على جهازنا العصبي، فيُفقِده توازنه نظراً للارتباط الوثيق والمتبادَل القائم بين العوامل النفسيّة والأمراض الجسديّة.  ونشير هنا، على سبيل المثال، إلى أهميّة الانفعالات في تسيير كيان الإنسان وصحّته، وفي التأثير على جهازه المناعي والنفسي والعصبي، وبخاصّة إذا كانت سلبيّة، والعكس صحيح، أي إنّ الانفعالات الإيجابيّة تؤدّي إلى تغيّرات كهروكيميائيّة في الجسم، وتؤثّر على وظائف الجسم كلّها، بما فيها المناعة، وبالتالي على عمليّات الشفاء، ثمّ إنّنا، إن لم نتمكّن من تقبّل ذاتنا كما نحن، فإننا نعرّض أنفسنا لخشية كبيرة؛ والمعروف أنّ الخوف هو العامل الأساس الكامن وراء الاضطرابات النفسيّة والنفس- جسديّة كافة. والضحك، كما تقبّل الأسوأ، يعد بمنزلة قاسم مشترك في علاج شتّى الاضطرابات؛ وهو ذو أهميّة قصوى أكّدت فعاليته وقائع حياتيّة لا حصر لها، إضافة إلى برامج تطبيقيّة علاجيّة، منها، مثلاً، برنامج رينولد روث، الذي بدأ بممارسة مشاعر إيجابية وتوكيدية لتحسين كيمياء الجسد (جهاز المناعة) عبر رؤية فيلم كوميدي، حيث تبيّن له أنّ الضحك، خلال عشر دقائق، كان له تأثير المخدّر على الجسم، وسمح بالنوم خلال ساعتين من دون ألم (وقد أدّى تكرار الاختبار إلى النتيجة نفسها). 

مناعة الجهاز العضوي
إنّ شعور الفرد باللذّة، وإحساسه بأنّه على ما يرام وبالضغط الإيجابي، كلّها أحاسيس تشكّل بحد ذاتها عوامل إيجابيّة تزوّد الجسم والنفس والذهن بجوانح، إذ تقوّي المناعة في الجهاز العضوي وتزيد قدرة المقاومة لدى الجسد الذي يحارب عند ذلك، وبسهولة أكبر، العديد من الأمراض. وحسن الإصغاء يعتبر هو أيضاً بمنزلة قاسم علاجي مشترك، إذ يشكّل ركيزة كل علاقة علاجيّة تربط بين المعالِج والمنتفع (أي طالِب المساعدة) ضمن إطار مختلف طرق العلاج النفسي، حيث يحس هذا الأخير باهتمام المعالِج بشخصه، فيساعده ذلك على الخروج من حالة التبدين الاحتمالي الطارئ، وعلى تعلّم مواجهة وضعيات الإجهاد بشكل أفضل. وحسن الإصغاء يشكّل، في أي حال، تلك الركيزة الأساسيّة لحسن التواصل بين الناس ولمختلف تقنيات تأكيد الذات المعتبرة بمنزلة المفتاح الأساس لكل أوجه السواء. لكن، تجدر الإشارة إلى أنّ العلاج، بمعناه العلمي، يتطلّب القيام بعمليّة تقييم، تشخيص وتحليل وظائفي.
 يتحقّق التقييم بفضل مصدرين: المعطيات التي يؤمّنها المنتفع (الذي سيملأ، خلال 15 يوماً، بطاقة تقييم ذاتي)، والمعلومات المؤمّنة بفضل استقصاء دقيق من قِبَل المعالِج الذي يدمج المعلومات الناجمة عن المصدرين المذكورين (ويشكّل ذلك ما يسمّى بالتحليل الوظائفي) مع معطيات أخرى تنجم عن تطبيق استبيانات متلائمة مع اضطراب المنتفع  كي يحقّق التشخيص. وسيشكّل هذا التشخيص أساس الخطّة العلاجيّة المناسبة لمشكلة هذا الفرد أو ذاك، لأنّ الاضطرابات النفسيّة هي شديدة التنوّع ويحتاج كلٌّ منها إلى علاج نفسي خاص، حتى وإن كان العديد من التقنيات العلاجية يمكن اعتبارها علاجاً مشتركاً.
يجوز هنا اعتبار واقع تشكيل التحليل الوظائفي مرحلةً أولى من التشخيص بمنزلة أمر صحيح، ويعتبر، في الوقت نفسه، جزءاً لا يتجزّأ من التدخّل العلاجي، لأنّ كلاًّ من المعالِج والمنتفع يشتركان، ضمن إطاره، في تحديد العوامل المسؤولة عن حدوث الاضطراب، حيث يتعلّم الأخير على تسجيل أوقات الألم، العوامل المعزّزة، وتلك المهدّئة له، مستوى العجز الوظائفي، والنشاطات التي لايزال قادراً على ممارستها وإلى أي مدى، ونوع النشاطات التي يعجز عن القيام بها... إلخ. هذه المساهمة من قِبَله، كمنتفع، تعتبر جزءاً من العلاج، إذ يتعلّم، من خلالها، كيفيّة التمييز بين مختلف مكوّنات المشكلات التي يتعرّض لها، فلا يعود يسمّي كل ظاهرة مزعجة «ألماً»؛ والمعالِج يتمكّن بدوره، حين يتم إنجاز التحليل الوظائفي، من تحديد نقاط القوّة والضعف لدى المنتفع، ومستوى قدرته على ضبط الألم والإجهاد. يمكّنه ذلك، كمعالِج، من وضع الخطّة العلاجيّة الأكثر تناسباً مع اضطراب الفرد (طالب المساعدة أي المنتفع). لكنّ علاج الاضطرابات النفسيّة يتطلّب غالباً، كما أشار مختلف العاملين في هذا المضمار، علاجاً طبّياً يتم مزجه مع العلاج النفسي بالنسبة إلى العديد من هذه الاضطرابات، ويعتبر هذا العلاج من الأساسيّات العلاجيّة، وإن لم يكن كافياً؛ ففي بعض الحالات، قد يتحقّق العلاج فقط بفضل تناول العقاقير الملائمة للأعراض الفيزيقية (كما في حالة ارتفاع ضغط الشرايين مثلاً). وهناك أدوية أخرى (مهدّئات القلق، المنوّمات... إلخ) قد تحدّ من الأعراض المرتبطة بالإجهاد، لكنّها لا تُعطى إلا تبعاً لوصفة طبّية، لأنّ بعضها قد يؤدّي إلى الإدمان. هذا إلى جانب عقاقير أخرى قد تكون لها تأثيرات جانبيّة مهمّة. وإلى جانب العقاقير، هناك التغذية البيولوجيّة المرتدّة  التي تدخل ضمن إطار هذا العلاج الطبّي، وهي ذات دور علاجي فاعل مع ما يُعرَف بالاضطرابات النفس- جسديّة، ويتم استخدام العديد من الأجهزة (جهاز التخطيط الكهربائي للعضلات، جهاز التخطيط الكهربائي للدماغ، جهاز الرسم الكهربائي لوظائف القلب، قياس ضغط الدم ... إلخ) لتحقيق هذه التغذية بهدف رصد التغيرات الفسيولوجية الطارئة. ويتم ذلك عبر توصيل هذه الأجهزة بجسم المريض عن طريق أقطاب، حيث يتم، من خلالها، نقل الإشارات والنبضات إلى الجهاز الذي يقوم بتنقيتها وإظهارها ورسمها أو إعطاء بيان كمّي عنها.
 غنيٌّ عن القول إنّه من الضروري توافر عنصري الأمان والفعالية، أي الدقّة في كل جهاز، ليكون بالإمكان استخدامه. وبشكل عام، تؤدّي العقاقير إلى تحسّن واعد؛ ومع ذلك، فهي غير كافية مع الاضطرابات النفسيّة، وحتى النفس- جسديّة، إذ هناك العديد من المرضى الذين لا يشفون، لأنّ هذه الاضطرابات النفس- جسديّة معقّدة، فهي نفسيّة وجسدية، وبالتالي التعامل معها لابد أن يكون مع الجذور النفسية للمشكلة، حيث ينصح الأطبّاء عموماً بالابتعاد عن مصادر القلق والتوتر، وبالتحلّي بمشاعر الرضا والتفاؤل، والتخلّص من التطلعات غير الواقعية. ذلك هو، في الواقع، هدف العلاج النفسي. وتجدر الإشارة إلى واقع كون «العلاج الطبّي لا يكفي، بل لابد من العلاج النفسي معه»؛ في الحقيقة، يميل مجمل المعالجين إلى مزج العلاج العقاقيري مع تدخلات علاجية نفسية تضم تقنيات تُنظَّم حول تثقيف المريض، تعليمه تقنية استرخاء، تقنيّات إعادة بناء معرفي، تقنيات سلوكية، تقنيات وعي تام... إلخ. 

التدخلات العلاجية النفسية
هذه التدخلات هي شديدة التنوّع والتدخّل، وقد يطول المجال كثيراً إن شئنا ذكرها؛ لذا سنكتفي بذكر وتحديد ما يُعتبَر شاملاً ويمكن الاستفادة منه في علاج معظم الاضطرابات النفسيّة.  لا بد، كبداية للتدخّل ضمن إطار العلاج النفسي بشكل عام، من تحديد المشكلات التي تتآكل الفرد من الداخل (يدخل ذلك، بشكل عام، ضمن إطار ما سبق تسميته بمرحلة «التشخيص») فيتم دفعه، من ثمّ، للاسترسال بالتعبير عن مشاعر الغضب والسُخط التي تعتمل بداخله بدلاً من ابتلاعها، للتحدّث عن انزعاجه مع أشخاص يثق بهم، ولعدم الهروب من المشكلات، بل مواجهتها، لأنّها لن تُحَل وحدها. قد يتم التوقّف عند هذا الحد، فنتحدث عند ذلك عمّا يسمّى «علاج الدعم»، وهو أبسط أشكال المعالجة النفسيّة وأقلّها تدخّلاً؛ فالمريض يتكلّم، ضمن إطاره، عن مشكلاته وفي جو من الثقة والسرّية. يتدخل المعالِج النفسي هنا لمعاونة الفرد المصاب على حل صراعاته اللاشعورية، على دعم ثقته بنفسه وتقوية إرادته بما يساعده على تحمّل الصدمات ومواجهة مواقف الإحباط، فتقل انفعالاته حدّةً ولا ينعكس أثرها على جسمه. تنبغي الإشارة هنا إلى أنّ ذلك يعتبر بمنزلة ركيزة أساسيّة لكل أنواع العلاج النفسي.
ويعتبر «التثقيف النفسي» (أي إعلام الفرد بخصوص اضطرابه)، كما علاج الدعم، إحدى الدعائم الأساسيّة والشاملة للعلاج النفسي، إذ من شأن هذا الإعلام تأمين عناصر تمكّنه من فهم أصل المرض، مظاهره، احتمال تطوّره وكيفيّة التغلّب عليه؛ كما يفسّر له كيف يستتب الألم، نفسيّاً بشكل خاص، رغم زوال السبب في حدوثه. ثمّ إنّ تأثير إعلام الفرد حول طبيعة أوجاعه، وحول الوسائل المتوافرة لتخفيف آلامه هو في غاية الأهميّة، إذ يسمح له بالمساهمة في العلاج بشكل ناشط وشخصي؛ الأمر الذي يشكّل عنصراً جوهرياً في نجاح هذا العلاج، إذ يتحسّن الإنسان حين يمتلك المعلومات الصحيحة بخصوص معاناته وكيفيّة التصرّف شخصيّاً للتخلّص منها.  
 وإلى جانب علاج الدعم والتثقيف النفسي، فللاسترخاء أهميّته كقاسم مشترك، وتتعدّد تقنياته وتتنوّع (طريقة جاكوبسون، طريقة شولتز... إلخ)، إذ من الممكن تعديل معطياتها تبعاً لتنوّع الطرق العلاجية، لحاجة المنتفع ولنوع اضطرابه. لكن، مهما يكن نوع التقنية المستخدمة لتعلّم الاسترخاء، يبقى الهدف هو حصول الفرد على ارتياح عضلي (استرخاء)، على انخفاض في دقّات القلب والتنفّس وعلى تثبيت حالة من الارتياح (أن يحس الشخص بأنّه على ما يرام)؛ وبالتدرّب المنظّم، سيتمكّن من إرساء إجابة استرخاء يمكنه استخدامها كلّما تعرّض للانزعاج أو للتوتّر... إلخ. وهناك، إضافة إلى ما سبق، إعادة البناء المعرفي ويمكن استخدامها كمكمّل لأي نوع من أنواع العلاج النفسي؛ وهي تكمن في استعادة وتصحيح نظام الأفكار غير المتكيّفة لدى المنتفع، أي الأفكار الخاطئة التي يرى اضطرابه من خلالها: مثلاً، توقّع سلبي للعلاجات، مفهوم خاطئ حول طبيعة وأصل الاضطراب الذي يعانيه... إلخ. لهذه المعرفيات، في الواقع، دور مهم في إثارة هذا الاضطراب وتغذية الألم والقلق اللذين يثيرهما. والعلاج السلوكي هو، أيضاً، في غاية الأهميّة، إذ يقترح على المنتفع، ضمن إطاره، سلوكيات تكون أكثر تكيّفاً، لا تتناسب مع الألم وتشجّعه على تحقيق مواقف إيجابيّة (انتظام على مستوى نسق النوم/ اليقظة، لحظات استرخاء منتظمة.. مثلاً). وبما أنّ الاضطراب يتغذّى غالباً بسبب وضعيات ضاغطة، فيتم استخدام طريقة في إدارة الانضغاط تبعاً لطبيعة المشكلة (كما يتم تشخيصها): يتم مثلاً استخدام إحدى التقنيات الكلاسيكية في مضمار إدارة الإجهاد من تعلّم وتدرّب على تأكيد الذات، من نمذجة، حيث يقترح المعالِج على المنتفع نماذج لردود فعل أكثر تكيّفاً بمواجهة وضعيّة ضاغطة معيّنة... إلخ.
 هذا غيضٌ من فيض الطرق العلاجيّة في مجال الاضطرابات النفسيّة، يطول بنا المجال كثيراً إن شئنا فقط ذكرها؛ لذا لن نتوغّل أكثر في هذا المضمار.خلاصة القول، لا تهدف مختلف التقنيات المذكورة فقط لإزالة الألم، بل خصوصاً لتحسين الإدراك الذاتي لدى الفرد المصاب بخصوص اضطرابه، ومن ثمّ تعزيز قدرته الشخصية على ضبط ردود فعله تجاه الوضعيات المثيرة للإجهاد لديه. وفي النهاية، يبقى الشفاء أمراً يتعلّق بالشخص نفسه، وخصوصاً برغبته في الشفاء، قبل أن يتعلّق بفن الطبيب وبفاعلية الأدوية، أو بفن المعالِج وبفاعلية الاستراتيجيات العلاجية التي يستخدمها .