«التذلّل للحبيب من شيم الأديب»
يبدو أن أم كلثوم وعبدالوهاب عندما كانا يمجّدان الذلّ للحبيب، أو التذلّل له، في أغانيهما، لم يكونا يأتيان بجديد أو مستهجن في هذا الشأن. فقد بلغ هذا التذلّل أقصاه في العصر العباسي، زمن ازدهار الحضارة العربية وقيام مجتمع مدني منعّم ومستقرّ، بدليل أن أحد المنظّرين للحب يومها، وهو ابن داود الأصفهاني، يعقد في كتابه «الزُهَرة» - وهو كتاب يدور حول الحب والجمال - فصولاً بعناوين مختلفة تمجّد هذه العاطفة الراسخة في القلب البشري، منها عنوان يقول «التذلّل للحبيب من شيم الأديب»! ولا ندري ما الذي يقصده الأصفهاني بالأديب الذي من شيمه التذلل للحبيب: هل هو «الأديب» بمعناه المعروف اليوم، أي الذي يتعاطى صناعة الأدب, أو المثقف العاقل العارف بالقواعد والأصول، وربما بأسباب وعوامل «النجاة» في هذه العلاقة المعقّدة والخطرة بين الجنسين؟ وفي أي حال، فإن ابن داود الأصفهاني لم يكن يفارق الصواب في مثل نصيحته هذه، لأن دوام الحب يقتضي دوام هذا التذلّل! ولكن الأصفهاني لم يكن في واقع الأمر ينصح بتذلّل المحب لمحبوبه، بل كان يقرّر أمراً أو حقيقة. ذلك أن الحب بنظره يجعل من الرجل إنساناً ذليلاً في خدمة المحبوب. أما المرأة، فإن الشعر العربي الأندلسي، بجذوره العذرية، وما تطور عنها في العصر العباسي، قد جعل منها معبودة أو قريباً من ذلك، فهي مصدر السعادة للعاشق.
وقد كانت أم كلثوم كما كان عبدالوهاب أمينين لتراث العرب الأقدمين في الحب، وبخاصة لجهة الحضّ على التذلل للحبيب، أو تمجيد هذا التذلّل. والتذلّل هذا يبدو أنه ليس وقفاً على الرجل وحده، فقد تمارسه المرأة أيضاً. المهم أن التذلّل للحبيب، سواء كان رجلاً أو امرأة، من خصائص هذه العاطفة الخلاّبة أو من لزومياتها. فالتذلّل استناداً إلى ما تقدم ثقافة شاعت أيّما شيوع في تراثنا القديم والحديث أيضاً. فها هي أم كلثوم تخاطب حبيبها في قصيدة «يالّلي كان يشجيك أنيني» (التي غنّتها في أواخر عام 1948) على النحو التالي:
عزة جمالك فين
من غير ذليل يهواك
والواقع أنها لا «تخاطبه» بل تصرخ في وجهه معاتبة أو محتجة أو مؤنبة. فعزة الجمال تتطلب بنظرها ذليلاً يهواه. ومن غير وجود هذا الذليل، فإن عزة جمال الحبيب في مهب الريح، لذلك يجب على هذا الحبيب مراعاة «نقطة النظام» هذه، وإلا انهارت عمارة الحب وتبدّد شمل المحبّين. وانهار قبل كل شيء جانب الجمال الذي لا يكرّسه إلا توافر هذا العاشق الذليل!
وكان الحب الذي شدت به أم كلثوم أميناً لثقافة التذلّل هذه، بدليل بسط «التذلّل» لسلطانه في أغاني كلثومية بلا حصر. فهذه كوكب الشرق تغني في عام 1926:
لي لذة في ذلتي وخضوعي
وأحبّ بين يديك سفك دموعي
ويستمر هذا الإيقاع بعد ذلك. فإحدى أغانيها التي غنتها عام 1931 تحمل عنوان: «ليه عزيز دمعي تذلّه»، ومنها هذه الأبيات:
ليه عزيز دمعي تذلّه
كل ساعة بين يديك
بعد صبر العمر كلّه
وانشغال قلبي عليك
مش حرام؟ والله حرام!
ويحمل موّال قصير غنّته عام 1930 من شجن الروح وتذلل الذات التي تئن تحت ضرام الحب، ما لا تحمله قصائد طويلة كثيرة:
الليل أهو طال وعرف الجرح ميعادُه
وجفّ دمعي وجفني من دمي عادُه
لهفي على القلب في ذلّه وأوعاده
لا نار أقول نار ولا هي من الفؤاد تبرح
وإن باح بشكواه لا زاده ولا عادُه!
في هذا الموّال تدخل أم كلثوم في صميم مأساة العاشق أو المعشوق, تضع يدها على جروحه.
ومبكراً جداً عبّرت أم كلثوم عن هذا التوجّه العابد أو العبودي الذي يقدّس الحبيب ولا يأنف من التذلّل له لنيل رضاه. فها هي تغني في مقتبل عمرها (سنة 1925) للحبيب (من نظم الإمام عبدالله الشبراوي) هذه القصيدة الجميلة التي تتضمن بيتاً رائعاً عن الذل في الحب:
وحقك أنت المنى والطلب
وأنت المراد وأنت الأربْ
ولي فيك يا هاجري صبوةٌ
تحيّر في وصفها كلُّ صبّ
أبيتُ أسامرُ نجمَ السما
إذا لاح لي في الدجى أو غربْ
وأعرض عن عاذلي في هواك
إذا نمّ يا منيتي أو عتبْ
أمولاي بالله رفقا بمن
إليك بذلّ الغرام انتسب
متى يا جميل المحيّا أرى
رضاك ويذهب هذا الغضب
فإني محبّ كما قد عهدتَ
ولكن حبُّكَ شيءٌ عجبْ!
الحبيب هو المنى والطلب، والمراد والأرب، وهو ما تصبو إليه الأنثى وما هو مركوز في جبلتها. وهي تتضرّع إليه وتقسم بالله أن يرفق بها لأنها تنتسب إليه «بذل الغرام».
كان الذل مرادفا للحب وإحدى تجليّاته وعلاماته، فإذا لم يتوافر اعترى مقام الحب، أو عزة الحب، شحوب أو شكوك. ثمة كلمات كثيرة في قاموس العاشقين تفيد حالة انهيار العاشق وضناه ولوعته وتعبّده لمحبوبه، ولكن عبارة «الذل» أكثرها صراحة ودلالة في الإشارة إلى هذه الحالة المأساوية، التي تصاحب الصبّ وتفقده منعة الذات وتماسكها! ولم يكن محمد عبدالوهاب أقل إيماناً «بوصفة» الذل من أم كلثوم. فالعبارة ذاتها، أو ما يؤدي معناها، شائعة كثيراً في نصوص بلا حصر غناها المطرب الكبير، منها أغنية مشهورة له: «يا لوعتي يا شقايا يا ضنى حالي». وفيها يتحدث عبدالوهاب عن محبوبة له هجر وطنه وأهله من أجلها... وقد عرّضته هذه الأغنية التي يتهالك فيها عبدالوهاب على هذه المحبوبة ويندب حظه معها، إلى «علقة ساخنة» من الزعيم المصري الراحل مصطفى النحاس باشا، فقد التقى النحاس باشا بعبدالوهاب في مناسبة من المناسبات، فجعل يؤنّبه على هذه الأغنية الذليلة الطازجة يومها قائلاً له: «كيف تقول لهذه القطقوطة إنك هجرت أهلك ووطنك من أجلها؟ كيف يهجر المرء وطنه وأهله من أجل امرأة تعذّبه هذا العذاب؟ أليس هجرانها أفضل من التذلّل إليها على هذا النحو؟ وتقول الرواية إن عبدالوهاب انسحب بعد ذلك من الحفلة «مكسوفاً» لا يلوي على شيء وظل أياماً حبيس منزله.
وقد دافع عبدالوهاب مراراً عن تذلّل الحبيب لمحبوبه، فكان يقول: «للحبّ قوانينه التي تختلف عن القوانين الأخرى. الذل في الحب أحد قوانين الحب. لا يمكن أن تطالب العاشق، وهو في لحظة ضعفه، أو في قمة ضعفه، باستخدام أسلوب التعالي على المعشوق. فهو إذا استخدم هذا الأسلوب، لم يكن عاشقاً أصيلاً، ولم يظفر بشيء. فالأصالة في العشق إذن هي «اللوعة» و«الشقاء» و«الضنى» و«الذل» وليس الكبرياء الفارغة»!
وأيّا كان رأينا اليوم في «قانون» التذلّل إلى الحبيب، فإن هذا القانون ظل يبسط سلطانه على النفوس طويلاً، وعلى الأرجح مازال يبسط سلطانه ويُعمل بأحكامه إلى اليوم. فكأنه من لزوميات الحب الذي دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، على حد تعبير ابن حزم الأندلسي في «طوق الحمامة»! .