في الذكرى المئوية للحرب العظمى الغرب والحرب... رؤية شعرية
إن القفز فوق هضاب التاريخ ربما يفيد في رصد علاقات المد والجزر بين الشرق والغرب، ويظهر لنا أن تاريخ العالم هو تاريخ النضال والمواجهة بين شرقنا وغربهم، أياً كان هذا الشرق أو ذلك الغرب، ولكن وجهاً آخر للتاريخ يظهر أن تاريخ الحروب بين الدول الأوربية أكبر بكثير مما يظن القارئ المتعجل, وقد تغني في هذه السبيل بعض الأمثلة من العصر الحديث.
استمرت الحروب بين إنجلترا وفرنسا منذ غزو النورمانديين لإنجلترا في سنة 1066م إلى هزيمة نابليون سنة 1815م, واستمر الصراع بينهما خلال الحقبة الاستعمارية. وهناك صراع تاريخي آخر بين الألمان والفرنسيين، منذ نابليون الذي قسم الولايات الألمانية في بداية القرن التاسع عشر، وهناك الصراع بين إسبانيا والبرتغال، وهناك الحروب الطويلة بين روسيا وبولندا، أما حروب البلقان فلا حد لقسوتها المريرة.
وشهد القرن العشرون حربين عالميتين، هما في الأساس غربيتان، باعثاً ونشأة وعدداً, فالحرب الأولى (1914-1918) نشبت بين ألمانيا من جهة وفرنسا وإنجلترا من جهة أخرى ودفعت إليها دول أخرى، والحرب الثانية (1939-1945) نشبت بين قوات المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) من جهة والحلفاء (فرنسا وإنجلترا وروسيا وأمريكا والصين) من جهة أخرى، وهكذا فقد أمضى الغرب جزءاً كبيراً من تاريخه الحديث في حروب مستمرة بين بلدانه وشعوبه.
هذه الحروب، على الرغم من وضوح آثارها المادية على الإنسان والعمران، فإنها في البدء صدام إرادات ونزاعات، وصراع أفكار وثقافات تجسد على الأرض عمراناً يدمر وأرواحاً تزهق, ويذهب مفكر معاصر هو توماس باترسون إلى أن الغرب اختلق فكرة «الحضارة» عنده، بهدف تأكيد التمييز بينه (جنس أبيض متحضر) وبين بقية أجناس العالم، وليبرر حملاته الاستعمارية العدوانية ضد الشعوب الأخرى، «وما إن انتقل الأوربيون إلى ما وراء البحار حتى استخدموا التصنيفات الفئوية الشائعة آنذاك، مثل عبارات المتوحشين والهمج والوثنيين والكفار والبرابرة، لوصف أبناء الشعوب الذين التقوا بهم ولا يعرفون الكتابة أو أساليب إدارة الحكم المنظم». (الحضارة الغربية، الفكرة والتاريخ، ص27)
كما تفضي هذه القراءة إلى أن الحرب الحديثة صناعة غربية بامتياز، فإنها تدل على أن الشرق العربي قد اصطلى بشظايا منها، وعلى وجه أخص من الحربين العالميتين: الأولى والثانية، وطالت كل جوانب الحياة فيه، وقد شغلت الحرب الأولى الشاعر العربي الحديث، واحتلت مساحة من الجدل الفكري والشعوري لديه.
حينما شبت نار الحرب الكبرى - وهكذا كانت تعرف حتى نشوب حرب 1939 - بإعلان النمسا الحرب على صربيا في 28 يوليو 1914، بعد مقتل ولي العهد النمساوي في سراييفو، كان علي الجارم من أسبق من ثارت شاعريتهم، فنظم قصيدة «الحرب» في السنة ذاتها، وهو يبدأها باستفهام الفجيعة والاستنكار ممن سلب الأمن من الأعين الوادعة والنفوس المطمئنة، وذبح السلام، ورمى بالشوك في مضجعه، إنه جبار الغرب العاتي، الظامئ إلى دم القتلى، وهو الغرب الذي «تطربه الحرب»:
طاحتْ بأهل الغرب نارُ الوغى
وهبَّت الريحُ بهم زَعْزعا
يجمعُهمْ جبَّارهُمْ عَنْوةً
وإنما للموت من جمَّعا!
يحسو دَمَ القتلى، فَأَظْمِئْ به
وينهشُ اللحمَ، فما أجْشَعا!
لم يكْفهِ رمحٌ ولا مُرهفٌ
فاتَّخذَ المنطادَ والمِدفعا
قــــد غصَّــــت الأرضُ بـــأشـــــلائـهـــمْ
وأصبح البحر بها مُتْرعا
كأنما في صدرهمْ غُلَّةٌ
أبتْ بغير الموت أن تُنْقَعا
كأنهمْ والنارُ من حولهمْ
جِنٌّ تَأَلَّوْا أن يَبِيدوا معا
هذا الموت الذي يتردد بمفرداته (الردى، الهلاك، القتل...) ولوازمه (الدم، النهش، السيف، السلب، النار، المدفع...) يحاول الجارم الإمساك به وتجسيده في حكاية فارس غربي مقتول، مثالاً للضحايا الكثر الذين ماتوا بلا قبر، وذهبوا بلا وداع، راصداً ما تعرضت له أولى المدن البلجيكية (ليج نامور) من تخريب بمدافع الألمان، ويؤازر باريس في «عسرتها» وغمتها، فقد كادت تسقط في أيدي الألمان في أوائل الحرب (هزمت ألمانيا أمام فرنسا في معركة المارن الأولى، وكتب الخلاص لباريس)، لكنه يؤمن أن «غاية العارض أن يُقشعا», ثم يذهب إلى تمجيد الجيش الإنجليزي وحضه على الثبات والوثوب، وهو «جحفل ما ضمَّ رعديداً ولا إمَّعا»، بل ضم جنوداً تتصف بالطول والخفة والسرعة و«كل ذي مِرَّة منجردٍ أروعا» وهي أوصاف عتيقة- والعتق قدم وحرية وجمال - التمسها الشاعر ليس لحرب السيوف والرماح، وإنما لحرب المدفعية والغواصات! وتصل المبالغة العتيقة أقصاها عندما يصف الجندي الإنجليزي بقوله:
لو مادت الأجــيالُ من تحتـه
أو خــرَّت الأفلاكُ ما زُعْزعا
(ديوان علي الجارم، ص 246)
ويتوقف حافظ إبراهيم عند مقدمات الحرب وآثارها على مصر، فيحمل على «غليوم الثاني» (إمبراطور ألماني)، منكراً عليه إثارته للحرب وما ارتكبه فيها من الفظائع، وأظهرها في نظر حافظ تخريب الآثار الحضارية في فرنسا (مدينة رمس الفرنسية المشهورة بكنيستها التاريخية) وغيرها، باستخدام المدافع والطائرات، فأي فخر ممكن أن يدعيه هذا المخرب؟ وإلى أي نصر قاد شعبه؟ وحصاد النصر - إن تم - وأد السلام وخراب المعمور:
إن كنتَ أنت هدمتَ (رِمْسَ) فإنه
أودى بمجدك ركنُها المَوْهونُ
لم يُغنِ عنها معبدٌ خرَّبتَه
ظلماً ولم يُمْسِكْ عنانَكَ دِين
لا تحْسبنَّ الفخرَ ما أحرزْتَه
الفخرُ بالذكر الجميل رهين
قد كان في (برلينَ) شعبُك وادعاً
يستعمرُ الأسواقَ وهي سُكون
فُتحتْ له أبوابُها، فسبيلُها
وقفٌ عليه، ورزْقُه مضمون
فعلامَ أرهقتَ الورى وأَثرْتَها
شعواءَ فيها للهلاك فنون؟
تاللهِ لو نُصرتْ جيوشُك لانطوى
أجلُ السلام وأَقْفرَ المَسْكون
(ديوان حافظ جـ2/ ص84, نشرت في يناير 1915)
***
وتمخضت الحرب العالمية الأولى عن سقوط الخلافة الإسلامية، بعد أن اتصلت حلقاتها خلال ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن، واتخذت مصر مركزاً للقواعد الشرقية، وتكلفت من مؤن الحرب وأعبائها ما نهبت به الغلات والدواب، وتسابق رجال الإدارة في جباية الأموال والتبرعات إرضاء للسلطات الإنجليزية، حتى أصبحت مصر ثاني بلاد العالم في ترتيب ما جمع منها، وأعلنت الحماية البريطانية على مصر، وعزل الإنجليز عباساً وولّوا عمه حسين كامل سلطاناً، وإذا كان حافظ قد دعا السلطان الجديد إلى موالاة الإنجليز، فإن الحيرة قد استبدت به في مسألة الحماية والفرق بينها وبين الاحتلال، ولا بأس من أن تتحول الولاية إلى سلطنة، لكنها في حاجة إلى إصلاح وحرية حقيقية وتعليم منظم، وهو رجاء يتوجه به إلى معتمد بريطانيا الجديد السير مكماهون:
أيْ (مكمهونُ)! قدمِتَ
بالقْصدِ الحميدِ وبالرعاية
أَوْضحْ لمصرَ الفرقَ ما
بين السِّيادة والحماية
وأزِلْ شكوكاً بالنفوس
تعلَّقَتْ منذ البداية
أضْحَتْ ربوعُ النيل
سلطنةً، وقد كانت ولاية
فتعهَّدُوها بالصلاحِ،
وأحْسِنوا فيها الوصاية
نرجو حياةً حرةً
مضمونةً في ظلِّ راية
ونرومُ تعليماً يكونُ
له من الفوضَى وقاية
وفي الذكرى الأولى لقيام الحرب (يوليو 1915)، تأتي قصيدته «الحرب العظمى»، ناعياً فيها حضارة الغرب، ومدنيته «الخرقاء» التي أحالت النعمة إلى نقمة، فسخرت العلم للإهلاك والتدمير، وأوجدوا المخترعات المهلكة مثل الغواصات والطائرات، كما استخدموا المواد الكيميائية الخطرة والغازات السامة، وإذا كان هذا هو عصر العلم، فإنه أول الرافضين له:
لاهمَّ! إن الغرب أصبح شُعلةً
من هولها أُمُّ الصواعقِ تَفْرَقُ
العلمُ يُذْكي نارَها، وتثيرُها
مدنيّةٌ خرقاءُ لا تترفَّق
ولقد حسبتُ العلمَ فينا نعمةً
تأسو الضعيفَ ورحمةً تتدفق
فإذا بنعمتِه بلاءٌ مرهقٌ
وإذا برحمته قضاءٌ مُطْبق
عَجَز الرماةُ عن الرماة فأرسلوا
كِسفاً يموجُ بها دُخانٌ يَخْنُق
وتنابَلُوا بالكيمياءِ فأسرفوا
وتساجَلُوا بالكهرباء فَأغْرقوا
إن كان عهدُ العلم هذا شأنُه
فينا فعهدُ الجاهليةِ أَرْفق
ويتقاطع شوقي مع حافظ في رؤيته للحرب «العظمى» فيرصد نزعة السيطرة المبكرة عند الألمان، والتركيز على جنايات الحرب وآثارها, وأخيراً النقمة على العلم المدمر ومنتجاته، ففي إرهاص مبكر بخطر الحرب، يحمل شوقي على غليوم الثاني (1859-1941) بمناسبة خطبته عام 1906 وما كان لها من أثر سيئ، والأزمة السياسية التي أوشكت أن تسبب حرباً أوربية، فقد استفزت الإمبراطور الألماني سيطرة الفرنسيين الاقتصادية على المغرب، فدعا إلى عقد مؤتمر دولي (1906) تحول إلى صراع دبلوماسي بين فرنسا وألمانيا، ولقيت كل دولة منهما التأييد من حليفاتها، وفي هذا المؤتمر ظهر احتمال قيام حرب بين ألمانيا وكل من فرنسا وبريطانيا وروسيا، وبحث العسكريون الخطط المحتملة، إزاء هذا كله يتوجس الشاعر من أحلام غليوم وأطماعه، ويفتش عن المسلمين في هذا الخطب الجليل فلا يجدهم:
ياربِّ ما حكمُكَ ماذا ترى
في ذلك الحلم العريض الطويلْ؟
قد قام غلْيومُ خطيباً فما
أعطاكَ من مُلكك إلا القليل
قد ورث العالمَ حيّـاً فما
غادرَ من فجٍ ولا من سبيل
فالنصفُ للجرمان في زعمه
والنصف للرومان فيما يقول
إن صدقت يا ربِّ أحلامُه
فإن خطبَ المسلمين الجليل
لا نحن جِرمانُ لنا حصةٌ
ولا برومانَ فنُعطى فتيل
يا ليتَ لم نَمْدُدْ بشرٍّ يداً
وليت ظلَّ السلم باقٍ ظليل
(ديوان شوقي جـ1/ص363)
لم يخمد حلم «الجرمان» العريض، فقد صار غليوم الثاني المسؤول الأول عن الحرب العالمية الأولى، هذا الحلم سلب البشرية عشرين مليوناً من أرواحها، وسلب البرية السلام والأمن والسعادة، وأمام هذا الهول المحدق، لا يملك الشاعر إلا الرضا بقضاء الله، والتسليم بمشيئته في ملكوته:
الخيرُ فيما اختارَه لعباده
لا يظلمُ الله العبادَ فتيلا
يا ليت شعري هل يُحطِّمُ سيفُه
للبَغْي سيفاً في الورى مسلولا؟
سلبَ البريَّةَ سلمَها وهناءَها
ورمى النفوسَ بألف عزرائيلا
زال الشبابُ عن الديار وخلَّفوا
للباكيات الثكلَ والترميلا
طاحوا فطاحَ العلمُ تحت لوائِهم
وغدا التفوقُ والنبوغُ قتيلا
(ديوان شوقي جـ1/ ص377)
لم تهلك قيمة العلم «الغربي» فقط في هذه الحرب، بل غدا العلم الأب الشرعي المسخر لإنتاج الآلات والأسلحة الفتاكة، ويختار شوقي منها «الغواصة» وتحديداً الغواصة الألمانية التي نسفت الباخرة لوزيتانيا عام 1915، وهي حادثة لا تقل مأساوية عن حادثة غرق السفينة «تيتانك» عام 1912، فقد توفي من ركاب لوزيتانيا 1198 راكباً، على بعد عشرة أميال من الساحل الجنوبي لإيرلندا. والحق أنه لم يلمس من المشهد المروع على «لوح الخيال» غير السطح، فاضطرب في وصف الغواصة، وتصورها مرة دبابة، ومرة أخرى شبهها بالحوت وبالغ في قدرتها وقوتها، واستدعى «تابوت موسى» و«فلك نوح» ولا قربى معنوية بينهما وبين «لوزيتانيا»، وهكذا لم يلمس البعد الإنساني للحدث، غير لمح باهت «هاج للنفس البكا وشجاها», وإن انتهى إلى النقمة على علم الغرب الذي ينتج الموت:
ودبابةٍ تحت العُباب بمكمنٍ
أمينٍ ترى الساري وليس يراها
هي الحوتُ أو في الحوت منها مشابهٌ
فـــلو كــان فُولاذاً لكــان أخـــاها
خؤونٌ إذا غاصتْ، غَدورٌ إذا طفتْ
مُلعَّـــنةٌ فـــي سَبْــحـهــا وسُراهــــا
فلا كان بانيها ولا كان رَكبُها
ولا كــان بــحرٌ ضَمَّها وحواها
وأُفٍّ عــلى العلم الذي تدَّعونهُ
إذا كان في علم النفوس رَدَاها
***
على أن أكبر الآثار الشعرية التي جاءت صدى مباشراً للحرب العالمية الأولى, هو ديوان «تاريخ الحرب شعراً» الصادر في عام 1919, للشاعر اللبناني أسعد خليل داغر (ت. 1935م), ويضم 36 قصيدة تحتوي على 1500 بيت, وهو عمل يتسم بالأداء الملحمي, والتدفق السردي لأحداث الحرب ووقائعها كما عاصرها شاعر عربي إنساني النزعة, وبالطبع كانت المباشرة في التعبير إحدى السمات البارزة, وجرى ذلك أيضاً على عناوين قصائده, فهو يرصد «دخول الولايات المتحدة الحرب» وهذا عنوان قصيدة, ثم يحمل على الحرب الغربية التي أفنت المال, وأبادت الرجال, وعمت «رزاياها البرايا»:
حتى متى تَجِفُ القـلـوب وتخـــــــــــــفقُ
وإلامَ تضطرب النفـوس وتقــــــــــــــلقُ
والخَلْقُ طرّاً فـي شقـاءٍ شـامـــــــــــــلٍ
وبـودِّهـم لـو أنهـم لـم يُخلقـــــــــــــــوا
والـحـربُ فـيـهـا لا تـنـي مشبـــــــوبةً
وسعـيرُهـا يشـوي الأنـام ويحــــــــــرق
قـلـبُ الـحديـد يذوبُ مـن أهـوالهـــــــا
ويَشـيب مـن رأس الـولـيـد الــــــــمفرق
ويقارن بين الحرب القديمة والحرب الحديثة, فينتصر للأولى, لأنها «في جنب هذي لم تكن شيئاً» يذكر, فالقديمة على «اشتداد سمومها», كان عتادها لا يتجاوز كثيراً السيوف والرماح والسهام, أما الحرب الحديثة فهي حرب الطائرات والغواصات والأسلحة المهلكة, وقبل ذلك وبعده «لم يُرع فيها قط حرمة» للشرائع أو للأبرياء أو لدور العبادة والآثار, ولا يَسلم من أذاها غالب أو مغلوب:
لكنّما هذي الكريهة شَرُّها
سيلٌ على كــــل الورى يــتــدفّق
وهكذا انتهى الشاعر العربي من تقصي الغرب في حربه العظمى, إلى السخط عليه ورفض هذا الوجه الكالح البغيض, وشحذت ملكات الشعر, فتجاوب مع أحداثها, ونبه إلى أخطارها وويلاتها, في تلك المرحلة الهائلة من تاريخ العالم والإنسانية .