في الذكرى المئوية للحرب العظمى الغرب والحرب... رؤية شعرية

في الذكرى المئوية للحرب العظمى الغرب والحرب... رؤية شعرية

إن‭ ‬القفز‭ ‬فوق‭ ‬هضاب‭ ‬التاريخ‭ ‬ربما‭ ‬يفيد‭ ‬في‭ ‬رصد‭ ‬علاقات‭ ‬المد‭ ‬والجزر‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬ويظهر‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬النضال‭ ‬والمواجهة‭ ‬بين‭ ‬شرقنا‭ ‬وغربهم،‭ ‬أياً‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الشرق‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬الغرب،‭ ‬ولكن‭ ‬وجهاً‭ ‬آخر‭ ‬للتاريخ‭ ‬يظهر‭ ‬أن‭ ‬تاريخ‭ ‬الحروب‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬أكبر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يظن‭ ‬القارئ‭ ‬المتعجل‭, ‬وقد‭ ‬تغني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السبيل‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭.‬

استمرت‭ ‬الحروب‭ ‬بين‭ ‬إنجلترا‭ ‬وفرنسا‭ ‬منذ‭ ‬غزو‭ ‬النورمانديين‭ ‬لإنجلترا‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1066م‭ ‬إلى‭ ‬هزيمة‭ ‬نابليون‭ ‬سنة‭ ‬1815م‭, ‬واستمر‭ ‬الصراع‭ ‬بينهما‭ ‬خلال‭ ‬الحقبة‭ ‬الاستعمارية‭. ‬وهناك‭ ‬صراع‭ ‬تاريخي‭ ‬آخر‭ ‬بين‭ ‬الألمان‭ ‬والفرنسيين،‭ ‬منذ‭ ‬نابليون‭ ‬الذي‭ ‬قسم‭ ‬الولايات‭ ‬الألمانية‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وهناك‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬إسبانيا‭ ‬والبرتغال،‭ ‬وهناك‭ ‬الحروب‭ ‬الطويلة‭ ‬بين‭ ‬روسيا‭ ‬وبولندا،‭ ‬أما‭ ‬حروب‭ ‬البلقان‭ ‬فلا‭ ‬حد‭ ‬لقسوتها‭ ‬المريرة‭. 

وشهد‭ ‬القرن‭ ‬العشرون‭ ‬حربين‭ ‬عالميتين،‭ ‬هما‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬غربيتان،‭ ‬باعثاً‭ ‬ونشأة‭ ‬وعدداً‭, ‬فالحرب‭ ‬الأولى‭ (‬1914-1918‭) ‬نشبت‭ ‬بين‭ ‬ألمانيا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وفرنسا‭ ‬وإنجلترا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬ودفعت‭ ‬إليها‭ ‬دول‭ ‬أخرى،‭ ‬والحرب‭ ‬الثانية‭ (‬1939-1945‭) ‬نشبت‭ ‬بين‭ ‬قوات‭ ‬المحور‭ (‬ألمانيا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬واليابان‭) ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والحلفاء‭ (‬فرنسا‭ ‬وإنجلترا‭ ‬وروسيا‭ ‬وأمريكا‭ ‬والصين‭) ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهكذا‭ ‬فقد‭ ‬أمضى‭ ‬الغرب‭ ‬جزءاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬تاريخه‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬مستمرة‭ ‬بين‭ ‬بلدانه‭ ‬وشعوبه‭.‬

هذه‭ ‬الحروب،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬وضوح‭ ‬آثارها‭ ‬المادية‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬والعمران،‭ ‬فإنها‭ ‬في‭ ‬البدء‭ ‬صدام‭ ‬إرادات‭ ‬ونزاعات،‭ ‬وصراع‭ ‬أفكار‭ ‬وثقافات‭ ‬تجسد‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬عمراناً‭ ‬يدمر‭ ‬وأرواحاً‭ ‬تزهق‭, ‬ويذهب‭ ‬مفكر‭ ‬معاصر‭ ‬هو‭ ‬توماس‭ ‬باترسون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬اختلق‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬الحضارة‮»‬‭ ‬عنده،‭ ‬بهدف‭ ‬تأكيد‭ ‬التمييز‭ ‬بينه‭ (‬جنس‭ ‬أبيض‭ ‬متحضر‭) ‬وبين‭ ‬بقية‭ ‬أجناس‭ ‬العالم،‭ ‬وليبرر‭ ‬حملاته‭ ‬الاستعمارية‭ ‬العدوانية‭ ‬ضد‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى،‭ ‬‮«‬وما‭ ‬إن‭ ‬انتقل‭ ‬الأوربيون‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬البحار‭ ‬حتى‭ ‬استخدموا‭ ‬التصنيفات‭ ‬الفئوية‭ ‬الشائعة‭ ‬آنذاك،‭ ‬مثل‭ ‬عبارات‭ ‬المتوحشين‭ ‬والهمج‭ ‬والوثنيين‭ ‬والكفار‭ ‬والبرابرة،‭ ‬لوصف‭ ‬أبناء‭ ‬الشعوب‭ ‬الذين‭ ‬التقوا‭ ‬بهم‭ ‬ولا‭ ‬يعرفون‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬أساليب‭ ‬إدارة‭ ‬الحكم‭ ‬المنظم‮»‬‭. (‬الحضارة‭ ‬الغربية،‭ ‬الفكرة‭ ‬والتاريخ،‭ ‬ص27‭)‬

كما‭ ‬تفضي‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬الحديثة‭ ‬صناعة‭ ‬غربية‭ ‬بامتياز،‭ ‬فإنها‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشرق‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬اصطلى‭ ‬بشظايا‭ ‬منها،‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬أخص‭ ‬من‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين‭: ‬الأولى‭ ‬والثانية،‭ ‬وطالت‭ ‬كل‭ ‬جوانب‭ ‬الحياة‭ ‬فيه،‭ ‬وقد‭ ‬شغلت‭ ‬الحرب‭ ‬الأولى‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬واحتلت‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬الفكري‭ ‬والشعوري‭ ‬لديه‭.‬

حينما‭ ‬شبت‭ ‬نار‭ ‬الحرب‭ ‬الكبرى‭ - ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬حتى‭ ‬نشوب‭ ‬حرب‭ ‬1939‭ - ‬بإعلان‭ ‬النمسا‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬صربيا‭ ‬في‭ ‬28‭ ‬يوليو‭ ‬1914،‭ ‬بعد‭ ‬مقتل‭ ‬ولي‭ ‬العهد‭ ‬النمساوي‭ ‬في‭ ‬سراييفو،‭ ‬كان‭ ‬علي‭ ‬الجارم‭ ‬من‭ ‬أسبق‭ ‬من‭ ‬ثارت‭ ‬شاعريتهم،‭ ‬فنظم‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الحرب‮»‬‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬ذاتها،‭ ‬وهو‭ ‬يبدأها‭ ‬باستفهام‭ ‬الفجيعة‭ ‬والاستنكار‭ ‬ممن‭ ‬سلب‭ ‬الأمن‭ ‬من‭ ‬الأعين‭ ‬الوادعة‭ ‬والنفوس‭ ‬المطمئنة،‭ ‬وذبح‭ ‬السلام،‭ ‬ورمى‭ ‬بالشوك‭ ‬في‭ ‬مضجعه،‭ ‬إنه‭ ‬جبار‭ ‬الغرب‭ ‬العاتي،‭ ‬الظامئ‭ ‬إلى‭ ‬دم‭ ‬القتلى،‭ ‬وهو‭ ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬تطربه‭ ‬الحرب‮»‬‭:‬

طاحتْ‭ ‬بأهل‭ ‬الغرب‭ ‬نارُ‭ ‬الوغى

وهبَّت‭ ‬الريحُ‭ ‬بهم‭ ‬زَعْزعا

يجمعُهمْ‭ ‬جبَّارهُمْ‭ ‬عَنْوةً

وإنما‭ ‬للموت‭ ‬من‭ ‬جمَّعا‭!‬

يحسو‭ ‬دَمَ‭ ‬القتلى،‭ ‬فَأَظْمِئْ‭ ‬به

وينهشُ‭ ‬اللحمَ،‭ ‬فما‭ ‬أجْشَعا‭!‬

لم‭ ‬يكْفهِ‭ ‬رمحٌ‭ ‬ولا‭ ‬مُرهفٌ

فاتَّخذَ‭ ‬المنطادَ‭ ‬والمِدفعا

قــــد‭ ‬غصَّــــت‭ ‬الأرضُ‭ ‬بـــأشـــــلائـهـــمْ

وأصبح‭ ‬البحر‭ ‬بها‭ ‬مُتْرعا

كأنما‭ ‬في‭ ‬صدرهمْ‭ ‬غُلَّةٌ

أبتْ‭ ‬بغير‭ ‬الموت‭ ‬أن‭ ‬تُنْقَعا

كأنهمْ‭ ‬والنارُ‭ ‬من‭ ‬حولهمْ

جِنٌّ‭ ‬تَأَلَّوْا‭ ‬أن‭ ‬يَبِيدوا‭ ‬معا

هذا‭ ‬الموت‭ ‬الذي‭ ‬يتردد‭ ‬بمفرداته‭ (‬الردى،‭ ‬الهلاك،‭ ‬القتل‭...) ‬ولوازمه‭ (‬الدم،‭ ‬النهش،‭ ‬السيف،‭ ‬السلب،‭ ‬النار،‭ ‬المدفع‭...) ‬يحاول‭ ‬الجارم‭ ‬الإمساك‭ ‬به‭ ‬وتجسيده‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬فارس‭ ‬غربي‭ ‬مقتول،‭ ‬مثالاً‭ ‬للضحايا‭ ‬الكثر‭ ‬الذين‭ ‬ماتوا‭ ‬بلا‭ ‬قبر،‭ ‬وذهبوا‭ ‬بلا‭ ‬وداع،‭ ‬راصداً‭ ‬ما‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬أولى‭ ‬المدن‭ ‬البلجيكية‭ (‬ليج‭ ‬نامور‭) ‬من‭ ‬تخريب‭ ‬بمدافع‭ ‬الألمان،‭ ‬ويؤازر‭ ‬باريس‭ ‬في‭ ‬‮«‬عسرتها‮»‬‭ ‬وغمتها،‭ ‬فقد‭ ‬كادت‭ ‬تسقط‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬الألمان‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬الحرب‭ (‬هزمت‭ ‬ألمانيا‭ ‬أمام‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬المارن‭ ‬الأولى،‭ ‬وكتب‭ ‬الخلاص‭ ‬لباريس‭)‬،‭ ‬لكنه‭ ‬يؤمن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬غاية‭ ‬العارض‭ ‬أن‭ ‬يُقشعا‮»‬‭, ‬ثم‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬تمجيد‭ ‬الجيش‭ ‬الإنجليزي‭ ‬وحضه‭ ‬على‭ ‬الثبات‭ ‬والوثوب،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬جحفل‭ ‬ما‭ ‬ضمَّ‭ ‬رعديداً‭ ‬ولا‭ ‬إمَّعا‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬ضم‭ ‬جنوداً‭ ‬تتصف‭ ‬بالطول‭ ‬والخفة‭ ‬والسرعة‭ ‬و«كل‭ ‬ذي‭ ‬مِرَّة‭ ‬منجردٍ‭ ‬أروعا‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬أوصاف‭ ‬عتيقة‭- ‬والعتق‭ ‬قدم‭ ‬وحرية‭ ‬وجمال‭ - ‬التمسها‭ ‬الشاعر‭ ‬ليس‭ ‬لحرب‭ ‬السيوف‭ ‬والرماح،‭ ‬وإنما‭ ‬لحرب‭ ‬المدفعية‭ ‬والغواصات‭! ‬وتصل‭ ‬المبالغة‭ ‬العتيقة‭ ‬أقصاها‭ ‬عندما‭ ‬يصف‭ ‬الجندي‭ ‬الإنجليزي‭ ‬بقوله‭:‬

لو‭ ‬مادت‭ ‬الأجــيالُ‭ ‬من‭ ‬تحتـه

أو‭ ‬خــرَّت‭ ‬الأفلاكُ‭ ‬ما‭ ‬زُعْزعا

‭(‬ديوان‭ ‬علي‭ ‬الجارم،‭ ‬ص‭ ‬246‭)‬

ويتوقف‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬عند‭ ‬مقدمات‭ ‬الحرب‭ ‬وآثارها‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬فيحمل‭ ‬على‭ ‬‮«‬غليوم‭ ‬الثاني‮»‬‭ (‬إمبراطور‭ ‬ألماني‭)‬،‭ ‬منكراً‭ ‬عليه‭ ‬إثارته‭ ‬للحرب‭ ‬وما‭ ‬ارتكبه‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الفظائع،‭ ‬وأظهرها‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬حافظ‭  ‬تخريب‭ ‬الآثار‭ ‬الحضارية‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ (‬مدينة‭ ‬رمس‭ ‬الفرنسية‭ ‬المشهورة‭ ‬بكنيستها‭ ‬التاريخية‭) ‬وغيرها،‭ ‬باستخدام‭ ‬المدافع‭ ‬والطائرات،‭ ‬فأي‭ ‬فخر‭ ‬ممكن‭ ‬أن‭ ‬يدعيه‭ ‬هذا‭ ‬المخرب؟‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬نصر‭ ‬قاد‭ ‬شعبه؟‭ ‬وحصاد‭ ‬النصر‭ - ‬إن‭ ‬تم‭ - ‬وأد‭ ‬السلام‭ ‬وخراب‭ ‬المعمور‭:‬

إن‭ ‬كنتَ‭ ‬أنت‭ ‬هدمتَ‭ (‬رِمْسَ‭) ‬فإنه

أودى‭ ‬بمجدك‭ ‬ركنُها‭ ‬المَوْهونُ

لم‭ ‬يُغنِ‭ ‬عنها‭ ‬معبدٌ‭ ‬خرَّبتَه

ظلماً‭ ‬ولم‭ ‬يُمْسِكْ‭ ‬عنانَكَ‭ ‬دِين

لا‭ ‬تحْسبنَّ‭ ‬الفخرَ‭ ‬ما‭ ‬أحرزْتَه

الفخرُ‭ ‬بالذكر‭ ‬الجميل‭ ‬رهين

قد‭ ‬كان‭ ‬في‭ (‬برلينَ‭) ‬شعبُك‭ ‬وادعاً

يستعمرُ‭ ‬الأسواقَ‭ ‬وهي‭ ‬سُكون

فُتحتْ‭ ‬له‭ ‬أبوابُها،‭ ‬فسبيلُها

وقفٌ‭ ‬عليه،‭ ‬ورزْقُه‭ ‬مضمون

فعلامَ‭ ‬أرهقتَ‭ ‬الورى‭ ‬وأَثرْتَها

شعواءَ‭ ‬فيها‭ ‬للهلاك‭ ‬فنون؟

تاللهِ‭ ‬لو‭ ‬نُصرتْ‭ ‬جيوشُك‭ ‬لانطوى

أجلُ‭ ‬السلام‭ ‬وأَقْفرَ‭ ‬المَسْكون

‭(‬ديوان‭ ‬حافظ‭ ‬جـ2‭/ ‬ص84‭, ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1915‭)‬

‭***‬

وتمخضت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬الخلافة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اتصلت‭ ‬حلقاتها‭ ‬خلال‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬قرناً‭ ‬ونصف‭ ‬القرن،‭ ‬واتخذت‭ ‬مصر‭ ‬مركزاً‭ ‬للقواعد‭ ‬الشرقية،‭ ‬وتكلفت‭ ‬من‭ ‬مؤن‭ ‬الحرب‭ ‬وأعبائها‭ ‬ما‭ ‬نهبت‭ ‬به‭ ‬الغلات‭ ‬والدواب،‭ ‬وتسابق‭ ‬رجال‭ ‬الإدارة‭ ‬في‭ ‬جباية‭ ‬الأموال‭ ‬والتبرعات‭ ‬إرضاء‭ ‬للسلطات‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬مصر‭ ‬ثاني‭ ‬بلاد‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬ما‭ ‬جمع‭ ‬منها،‭ ‬وأعلنت‭ ‬الحماية‭ ‬البريطانية‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬وعزل‭ ‬الإنجليز‭ ‬عباساً‭ ‬وولّوا‭ ‬عمه‭ ‬حسين‭ ‬كامل‭ ‬سلطاناً،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬حافظ‭ ‬قد‭ ‬دعا‭ ‬السلطان‭ ‬الجديد‭ ‬إلى‭ ‬موالاة‭ ‬الإنجليز،‭ ‬فإن‭ ‬الحيرة‭ ‬قد‭ ‬استبدت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬الحماية‭ ‬والفرق‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الاحتلال،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬الولاية‭ ‬إلى‭ ‬سلطنة،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬وحرية‭ ‬حقيقية‭ ‬وتعليم‭ ‬منظم،‭ ‬وهو‭ ‬رجاء‭ ‬يتوجه‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬معتمد‭ ‬بريطانيا‭ ‬الجديد‭ ‬السير‭ ‬مكماهون‭:‬

أيْ‭ (‬مكمهونُ‭)! ‬قدمِتَ

بالقْصدِ‭ ‬الحميدِ‭ ‬وبالرعاية

أَوْضحْ‭ ‬لمصرَ‭ ‬الفرقَ‭ ‬ما

بين‭ ‬السِّيادة‭ ‬والحماية

وأزِلْ‭ ‬شكوكاً‭ ‬بالنفوس

تعلَّقَتْ‭ ‬منذ‭ ‬البداية

أضْحَتْ‭ ‬ربوعُ‭ ‬النيل

سلطنةً،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬ولاية

فتعهَّدُوها‭ ‬بالصلاحِ،

وأحْسِنوا‭ ‬فيها‭ ‬الوصاية

نرجو‭ ‬حياةً‭ ‬حرةً

مضمونةً‭ ‬في‭ ‬ظلِّ‭ ‬راية

ونرومُ‭ ‬تعليماً‭ ‬يكونُ

له‭ ‬من‭ ‬الفوضَى‭ ‬وقاية

وفي‭ ‬الذكرى‭ ‬الأولى‭ ‬لقيام‭ ‬الحرب‭ (‬يوليو‭ ‬1915‭)‬،‭ ‬تأتي‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬العظمى‮»‬،‭ ‬ناعياً‭ ‬فيها‭ ‬حضارة‭ ‬الغرب،‭ ‬ومدنيته‭ ‬‮«‬الخرقاء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أحالت‭ ‬النعمة‭ ‬إلى‭ ‬نقمة،‭ ‬فسخرت‭ ‬العلم‭ ‬للإهلاك‭ ‬والتدمير،‭ ‬وأوجدوا‭ ‬المخترعات‭ ‬المهلكة‭ ‬مثل‭ ‬الغواصات‭ ‬والطائرات،‭ ‬كما‭ ‬استخدموا‭ ‬المواد‭ ‬الكيميائية‭ ‬الخطرة‭ ‬والغازات‭ ‬السامة،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬عصر‭ ‬العلم،‭ ‬فإنه‭ ‬أول‭ ‬الرافضين‭ ‬له‭:‬

لاهمَّ‭! ‬إن‭ ‬الغرب‭ ‬أصبح‭ ‬شُعلةً

من‭ ‬هولها‭ ‬أُمُّ‭ ‬الصواعقِ‭ ‬تَفْرَقُ

العلمُ‭ ‬يُذْكي‭ ‬نارَها،‭ ‬وتثيرُها

مدنيّةٌ‭ ‬خرقاءُ‭ ‬لا‭ ‬تترفَّق

ولقد‭ ‬حسبتُ‭ ‬العلمَ‭ ‬فينا‭ ‬نعمةً

تأسو‭ ‬الضعيفَ‭ ‬ورحمةً‭ ‬تتدفق

فإذا‭ ‬بنعمتِه‭ ‬بلاءٌ‭ ‬مرهقٌ

وإذا‭ ‬برحمته‭ ‬قضاءٌ‭ ‬مُطْبق

عَجَز‭ ‬الرماةُ‭ ‬عن‭ ‬الرماة‭ ‬فأرسلوا

كِسفاً‭ ‬يموجُ‭ ‬بها‭ ‬دُخانٌ‭ ‬يَخْنُق

وتنابَلُوا‭ ‬بالكيمياءِ‭ ‬فأسرفوا

وتساجَلُوا‭ ‬بالكهرباء‭ ‬فَأغْرقوا

إن‭ ‬كان‭ ‬عهدُ‭ ‬العلم‭ ‬هذا‭ ‬شأنُه

فينا‭ ‬فعهدُ‭ ‬الجاهليةِ‭ ‬أَرْفق

ويتقاطع‭ ‬شوقي‭ ‬مع‭ ‬حافظ‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬للحرب‭ ‬‮«‬العظمى‮»‬‭ ‬فيرصد‭ ‬نزعة‭ ‬السيطرة‭ ‬المبكرة‭ ‬عند‭ ‬الألمان،‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬جنايات‭ ‬الحرب‭ ‬وآثارها‭, ‬وأخيراً‭ ‬النقمة‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬المدمر‭ ‬ومنتجاته،‭ ‬ففي‭ ‬إرهاص‭ ‬مبكر‭ ‬بخطر‭ ‬الحرب،‭ ‬يحمل‭ ‬شوقي‭ ‬على‭ ‬غليوم‭ ‬الثاني‭ (‬1859-1941‭) ‬بمناسبة‭ ‬خطبته‭ ‬عام‭ ‬1906‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬سيئ،‭ ‬والأزمة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬أوشكت‭ ‬أن‭ ‬تسبب‭ ‬حرباً‭ ‬أوربية،‭ ‬فقد‭ ‬استفزت‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الألماني‭ ‬سيطرة‭ ‬الفرنسيين‭ ‬الاقتصادية‭ ‬على‭ ‬المغرب،‭ ‬فدعا‭ ‬إلى‭ ‬عقد‭ ‬مؤتمر‭ ‬دولي‭ (‬1906‭) ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬دبلوماسي‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬وألمانيا،‭ ‬ولقيت‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬منهما‭ ‬التأييد‭ ‬من‭ ‬حليفاتها،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬ظهر‭ ‬احتمال‭ ‬قيام‭ ‬حرب‭ ‬بين‭ ‬ألمانيا‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬فرنسا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬وروسيا،‭ ‬وبحث‭ ‬العسكريون‭ ‬الخطط‭ ‬المحتملة،‭ ‬إزاء‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬يتوجس‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬أحلام‭ ‬غليوم‭ ‬وأطماعه،‭ ‬ويفتش‭ ‬عن‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخطب‭ ‬الجليل‭ ‬فلا‭ ‬يجدهم‭: ‬

ياربِّ‭ ‬ما‭ ‬حكمُكَ‭ ‬ماذا‭ ‬ترى

في‭ ‬ذلك‭ ‬الحلم‭ ‬العريض‭ ‬الطويلْ؟

قد‭ ‬قام‭ ‬غلْيومُ‭ ‬خطيباً‭ ‬فما

أعطاكَ‭ ‬من‭ ‬مُلكك‭ ‬إلا‭ ‬القليل

قد‭ ‬ورث‭ ‬العالمَ‭ ‬حيّـاً‭ ‬فما

غادرَ‭ ‬من‭ ‬فجٍ‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬سبيل

فالنصفُ‭ ‬للجرمان‭ ‬في‭ ‬زعمه

والنصف‭ ‬للرومان‭ ‬فيما‭ ‬يقول

إن‭ ‬صدقت‭ ‬يا‭ ‬ربِّ‭ ‬أحلامُه

فإن‭ ‬خطبَ‭ ‬المسلمين‭ ‬الجليل

لا‭ ‬نحن‭ ‬جِرمانُ‭ ‬لنا‭ ‬حصةٌ

ولا‭ ‬برومانَ‭ ‬فنُعطى‭ ‬فتيل

يا‭ ‬ليتَ‭ ‬لم‭ ‬نَمْدُدْ‭ ‬بشرٍّ‭ ‬يداً

وليت‭ ‬ظلَّ‭ ‬السلم‭ ‬باقٍ‭ ‬ظليل

‭(‬ديوان‭ ‬شوقي‭ ‬جـ1‭/‬ص363‭)‬

لم‭ ‬يخمد‭ ‬حلم‭ ‬‮«‬الجرمان‮»‬‭ ‬العريض،‭ ‬فقد‭ ‬صار‭ ‬غليوم‭ ‬الثاني‭ ‬المسؤول‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬سلب‭ ‬البشرية‭ ‬عشرين‭ ‬مليوناً‭ ‬من‭ ‬أرواحها،‭ ‬وسلب‭ ‬البرية‭ ‬السلام‭ ‬والأمن‭ ‬والسعادة،‭ ‬وأمام‭ ‬هذا‭ ‬الهول‭ ‬المحدق،‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬الشاعر‭ ‬إلا‭ ‬الرضا‭ ‬بقضاء‭ ‬الله،‭ ‬والتسليم‭ ‬بمشيئته‭ ‬في‭ ‬ملكوته‭:‬

الخيرُ‭ ‬فيما‭ ‬اختارَه‭ ‬لعباده

لا‭ ‬يظلمُ‭ ‬الله‭ ‬العبادَ‭ ‬فتيلا

يا‭ ‬ليت‭ ‬شعري‭ ‬هل‭ ‬يُحطِّمُ‭ ‬سيفُه

للبَغْي‭ ‬سيفاً‭ ‬في‭ ‬الورى‭ ‬مسلولا؟

سلبَ‭ ‬البريَّةَ‭ ‬سلمَها‭ ‬وهناءَها

ورمى‭ ‬النفوسَ‭ ‬بألف‭ ‬عزرائيلا

زال‭ ‬الشبابُ‭ ‬عن‭ ‬الديار‭ ‬وخلَّفوا

للباكيات‭ ‬الثكلَ‭ ‬والترميلا

طاحوا‭ ‬فطاحَ‭ ‬العلمُ‭ ‬تحت‭ ‬لوائِهم

وغدا‭ ‬التفوقُ‭ ‬والنبوغُ‭ ‬قتيلا

‭(‬ديوان‭ ‬شوقي‭ ‬جـ1‭/ ‬ص377‭)‬

لم‭ ‬تهلك‭ ‬قيمة‭ ‬العلم‭ ‬‮«‬الغربي‮»‬‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬بل‭ ‬غدا‭ ‬العلم‭ ‬الأب‭ ‬الشرعي‭ ‬المسخر‭ ‬لإنتاج‭ ‬الآلات‭ ‬والأسلحة‭ ‬الفتاكة،‭ ‬ويختار‭ ‬شوقي‭ ‬منها‭ ‬‮«‬الغواصة‮»‬‭ ‬وتحديداً‭ ‬الغواصة‭ ‬الألمانية‭ ‬التي‭ ‬نسفت‭ ‬الباخرة‭ ‬لوزيتانيا‭ ‬عام‭ ‬1915،‭ ‬وهي‭ ‬حادثة‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬مأساوية‭ ‬عن‭ ‬حادثة‭ ‬غرق‭ ‬السفينة‭ ‬‮«‬تيتانك‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1912،‭ ‬فقد‭ ‬توفي‭ ‬من‭ ‬ركاب‭ ‬لوزيتانيا‭ ‬1198‭ ‬راكباً،‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬عشرة‭ ‬أميال‭ ‬من‭ ‬الساحل‭ ‬الجنوبي‭ ‬لإيرلندا‭. ‬والحق‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يلمس‭ ‬من‭ ‬المشهد‭ ‬المروع‭ ‬على‭ ‬‮«‬لوح‭ ‬الخيال‮»‬‭ ‬غير‭ ‬السطح،‭ ‬فاضطرب‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الغواصة،‭ ‬وتصورها‭ ‬مرة‭ ‬دبابة،‭ ‬ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬شبهها‭ ‬بالحوت‭ ‬وبالغ‭ ‬في‭ ‬قدرتها‭ ‬وقوتها،‭ ‬واستدعى‭ ‬‮«‬تابوت‭ ‬موسى‮»‬‭ ‬و«فلك‭ ‬نوح‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬قربى‭ ‬معنوية‭ ‬بينهما‭ ‬وبين‭ ‬‮«‬لوزيتانيا‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬لم‭ ‬يلمس‭ ‬البعد‭ ‬الإنساني‭ ‬للحدث،‭ ‬غير‭ ‬لمح‭ ‬باهت‭ ‬‮«‬هاج‭ ‬للنفس‭ ‬البكا‭ ‬وشجاها‮»‬‭, ‬وإن‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬النقمة‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬ينتج‭ ‬الموت‭:‬

ودبابةٍ‭ ‬تحت‭ ‬العُباب‭ ‬بمكمنٍ

أمينٍ‭ ‬ترى‭ ‬الساري‭ ‬وليس‭ ‬يراها

هي‭ ‬الحوتُ‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الحوت‭ ‬منها‭ ‬مشابهٌ

فـــلو‭ ‬كــان‭ ‬فُولاذاً‭ ‬لكــان‭ ‬أخـــاها

خؤونٌ‭ ‬إذا‭ ‬غاصتْ،‭ ‬غَدورٌ‭ ‬إذا‭ ‬طفتْ

مُلعَّـــنةٌ‭ ‬فـــي‭ ‬سَبْــحـهــا‭ ‬وسُراهــــا

فلا‭ ‬كان‭ ‬بانيها‭ ‬ولا‭ ‬كان‭ ‬رَكبُها

ولا‭ ‬كــان‭ ‬بــحرٌ‭ ‬ضَمَّها‭ ‬وحواها

وأُفٍّ‭ ‬عــلى‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬تدَّعونهُ

إذا‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفوس‭ ‬رَدَاها

‭***‬

على‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬الآثار‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬صدى‭ ‬مباشراً‭ ‬للحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭, ‬هو‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬الحرب‭ ‬شعراً‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1919‭, ‬للشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬أسعد‭ ‬خليل‭ ‬داغر‭ (‬ت‭. ‬1935م‭), ‬ويضم‭ ‬36‭ ‬قصيدة‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬1500‭ ‬بيت‭, ‬وهو‭ ‬عمل‭ ‬يتسم‭ ‬بالأداء‭ ‬الملحمي‭, ‬والتدفق‭ ‬السردي‭ ‬لأحداث‭ ‬الحرب‭ ‬ووقائعها‭ ‬كما‭ ‬عاصرها‭ ‬شاعر‭ ‬عربي‭ ‬إنساني‭ ‬النزعة‭, ‬وبالطبع‭ ‬كانت‭ ‬المباشرة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬إحدى‭ ‬السمات‭ ‬البارزة‭, ‬وجرى‭ ‬ذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬عناوين‭ ‬قصائده‭, ‬فهو‭ ‬يرصد‭ ‬‮«‬دخول‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الحرب‮»‬‭ ‬وهذا‭ ‬عنوان‭ ‬قصيدة‭, ‬ثم‭ ‬يحمل‭ ‬على‭ ‬الحرب‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬أفنت‭ ‬المال‭, ‬وأبادت‭ ‬الرجال‭, ‬وعمت‭ ‬‮«‬رزاياها‭ ‬البرايا‮»‬‭:‬

حتى‭ ‬متى‭ ‬تَجِفُ‭ ‬القـلـوب‭ ‬وتخـــــــــــــفقُ

وإلامَ‭ ‬تضطرب‭ ‬النفـوس‭ ‬وتقــــــــــــــلقُ

والخَلْقُ‭ ‬طرّاً‭ ‬فـي‭ ‬شقـاءٍ‭ ‬شـامـــــــــــــلٍ

وبـودِّهـم‭ ‬لـو‭ ‬أنهـم‭ ‬لـم‭ ‬يُخلقـــــــــــــــوا

والـحـربُ‭ ‬فـيـهـا‭ ‬لا‭ ‬تـنـي‭ ‬مشبـــــــوبةً

وسعـيرُهـا‭ ‬يشـوي‭ ‬الأنـام‭ ‬ويحــــــــــرق

قـلـبُ‭ ‬الـحديـد‭ ‬يذوبُ‭ ‬مـن‭ ‬أهـوالهـــــــا‭ ‬

ويَشـيب‭ ‬مـن‭ ‬رأس‭ ‬الـولـيـد‭ ‬الــــــــمفرق

ويقارن‭ ‬بين‭ ‬الحرب‭ ‬القديمة‭ ‬والحرب‭ ‬الحديثة‭, ‬فينتصر‭ ‬للأولى‭, ‬لأنها‭ ‬‮«‬في‭ ‬جنب‭ ‬هذي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬شيئاً‮»‬‭ ‬يذكر‭, ‬فالقديمة‭ ‬على‭ ‬‮«‬اشتداد‭ ‬سمومها‮»‬‭, ‬كان‭ ‬عتادها‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬كثيراً‭ ‬السيوف‭ ‬والرماح‭ ‬والسهام‭, ‬أما‭ ‬الحرب‭ ‬الحديثة‭ ‬فهي‭ ‬حرب‭ ‬الطائرات‭ ‬والغواصات‭ ‬والأسلحة‭ ‬المهلكة‭, ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬وبعده‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يُرع‭ ‬فيها‭ ‬قط‭ ‬حرمة‮»‬‭ ‬للشرائع‭ ‬أو‭ ‬للأبرياء‭ ‬أو‭ ‬لدور‭ ‬العبادة‭ ‬والآثار‭, ‬ولا‭ ‬يَسلم‭ ‬من‭ ‬أذاها‭ ‬غالب‭ ‬أو‭ ‬مغلوب‭:‬

لكنّما‭ ‬هذي‭ ‬الكريهة‭ ‬شَرُّها

سيلٌ‭ ‬على‭ ‬كــــل‭ ‬الورى‭ ‬يــتــدفّق

وهكذا‭ ‬انتهى‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬تقصي‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬حربه‭ ‬العظمى‭, ‬إلى‭ ‬السخط‭ ‬عليه‭ ‬ورفض‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬الكالح‭ ‬البغيض‭, ‬وشحذت‭ ‬ملكات‭ ‬الشعر‭, ‬فتجاوب‭ ‬مع‭ ‬أحداثها‭, ‬ونبه‭ ‬إلى‭ ‬أخطارها‭ ‬وويلاتها‭, ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬الهائلة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬والإنسانية‭ .