حياة مكرسة من أجل الأدب العربي

حين صدرت مجلة بانيبال قبل عقدين من الزمان، لم يكن أحد يتوقع، حتى من حلقة أقرب أصدقائها، أن تستمر أكثر من بضعة أعداد في أفضل الأحوال قبل أن تتوقف مثلما حدث لعديد من المجلات التي سبقتها، التي ظلت في حدود الهواية. ولم تكن حتى مارجريت أوبانك وصموئيل شمعون، وهما المؤسسان لها، متأكدين من قدرتهما على قطع كل هذا الطريق الطويل الذي سلكاه حتى الآن. فـ«بانيبال» ليست مجلة مثل أي مجلة عادية أخرى. فلو كانت مجلة عربية أو إنجليزية فقط لهان الأمر، إذ لن يكون حينذاك ثمة نقص في النصوص العربية التي يمكن أن يكتبها كتَّاب عرب أو في النصوص الإنجليزية التي يضعــــها كتَّاب إنجليز، ولن تكون ثمة مشقة في الاختيار أيضاً بالتأكيد.
ارتأت ابانيبالب سلوك طريق صعب عجزت عن سلوكه كل المؤسسات الثقافية العربية الرسمية القائمة، رغم الأموال الطائلة الموضوعة تحت تصرفها، وهو أن تكون مجلة للأدب العربي، ولكن باللغة الإنجليزية. والأكثر من ذلك أن تكون مجلة معاصرة تقدم للقارئ باللغة الإنجليزية أفضل النصوص العربية الحديثة وأرقاها، ما جعلها تكون في الوقت ذاته أهم مجلة للأدب العربي الحديث أيضاً. فهي ليست مجلة ناقلة للنصوص العربية إلى اللغة الإنجليزية فحسب، وإنما مكتشفة أيضا للمواهب، إذ لا يكاد عدد من أعدادها يخلو من أسماء شابة ومواهب واعدة تجد نصوصها لأول مرة طريقها إلى القارئ الإنجليزي.
هناك في الحقيقة مرحلتان في نقل الأدب العربي الحديث إلى العالم، وأنا أعني ذلك تماماً: مرحلة ما قبل ابانيبالب ومرحلة ما بعدها. فقبل ابانيبالب لم تكن هناك سوى ترجمات محدودة لعدد قليل من الكتاب الذين يعرفهم المهتمون بالأدب العربي. ولم يكن هؤلاء يعكسون في الحقيقة سوى لحظة معينة من تطور الأدب العربي الحديث وليس المشهد كله، ولم يكن القارئ الغربي يعرف شيئاً حتى عن أسماء كبيرة في الأدب العربي، فضلاً عن نصوص الشبان الإبداعية ومحاولاتهم التجديدية.
مع ابانيبالب انهار هذا الحاجز تماما. ففي مقابل الأسماء القليلة السابقة قدمت ابانيبالب العشرات، بل المئات من الأسماء الجديدة طوال أعوامها العشرين الماضية، بل إنها صارت تتصيد أي نص استثنائي، وأحياناً حتى قبل نشره بالعربية. وفي الوقت ذاته لم تتوقف عن نشر ملفات وافية عن كتَّاب بارزين أو تخصيص محاور لآداب كل البلدان العربية تقريباً.
هذا العمل الكبير الرائد ما كان يمكن له أن يتم من دون حماسة وتضحية وجهد مارجريت أوبانك، التي كرست كل وقتها له، معتبرة إياه مشروع حياتها، فهي لم تتردد منذ البداية في المغامرة حتى بمدخراتها القليلة في الإنفاق على المجلة التي لم تحظ (وهذا ليس غريباً في أزمنة الجهل العربي!) بأي دعم من أي جهة ثقافية عربية رسمية. لم يكن الأمر يتعلق بالطباعة والتوزيع ونفقات البريد، بل أيضاً وقبل كل شيء بالترجمة إلى اللغة الإنجليزية من قبل مترجمين محترفين ومعروفين، يعتبرون ما يقومون به عملاً مثل أي عمل آخر، وهو حقهم بالطبع. وبالتأكيد لا ينتهي الأمر مع الترجمة، فهناك التحرير الذي لا يتطلب مراجعة الترجمة وتدقيقها فحسب، وإنما أيضاً تحرير النص أسلوبياً ولغوياً. وهنا أيضاً تتجلى براعة أوبانك كمحررة نصوص من الدرجة الأولى، بلغتها الإنجليزية العالية وأسلوبها الأدبي الرفيع. فلكي تفهم النصوص العربية جيداً تعلمت اللغة العربية أيضاً، فضلاً عن معرفتها باللغة الألمانية. ولأنه كان لي شرف الإسهام في التحرير منذ أعداد المجلة الأولى، فقد كانت متعة كبيرة بالنسبة إلي دائماً مراجعة عشرات وربما مئات النصوص معها. فرغم أن القارئ كان يجد النص أمامه جاهزاً، فإننا كنا نتحاور أحيانا أياماً عدة حول المعادل الإنجليزي لعبارة ما باللغة العربية مثلاً. كان حتى بعض أفضل المترجمين يرتكب أحياناً أخطاء فاحشة في فهم المعنى، وبخاصة في الشعر. ولكن ذلك ما كان ليفوت على عيني أوبانك المدربتين وعدم ترددها في استشارة العاملين معها ومناقشتها معهم.
من أوبانك يتعلم المرء معنى التكريس، فهي غالباً ما تعمل ساعات طويلة بلا انقطاع، بل وتظل أحياناً ساهرة أمام اكمبيوترهاب حتى ساعة متأخرة من الليل. وأتذكر أنني كتبت ذات مرة نصاً باللغة الألمانية عن مهرجان برلين الأدبي، فأرادت ابانيبالب نشره أيضاً، ولكن ذلك كان يتطلب بعض الوقت مني حتى أنجز ترجمته إلى الإنجليزية، فقامت مارجريت نفسها بترجمته بسرعة حتى لا يتأخر إرسال المجلة إلى المطبعة. وما أكثر ما قامت به دائماً بمثل هذه الأعمال!
وفي حين أن العلاقات بين الكتَّاب العرب لم تكن تخلو كالعادة من المشاحنات والنميمة والتحاسد أحياناً، كانت أوبانك الملاك الذي ينشر أجنحته على الجميع، متعاملة بمهنية عالية وأخلاق رفيعة، مترفعة عن الصغائر ومتفهمة للأوضاع النفسية الصعبة التي يعانيها أصدقاؤها العرب. فما كان يعنيها قبل كل شيء هو محاولة تقديمهم بأفضل ما تقدر عليه إلى العالم، مع نكران للذات قل نظيره، إذ لم أسمعها ولا مرة واحدة تمتدح نفسها أو عملها أو تهتم لذلك، وكأن كل ما تقوم به لا يتعلق بها بقدر ما يتعلق بالآخر.
أعرف أن الخراب العربي الراهن ليس سياسياً فحسب، وإنما ثقافي أيضا، ولكنني لن أكف عن الأمل في أن ندرك في يوم ما في المستقبل، حينما نستعيد أرواحنا التائهة، القيمة الثقافية الحقيقية لما قامت به أوبانك من أجل إيصال الأدب العربي الحقيقي إلى العالم .