مغامرة اللغة عند أحمد شوقي
كثر في شعر شوقي استعمال تعبيرات جاءت على خلاف ما استقر عليه العرف اللغوي، سواء أكان مجيئها لضرورة فنية اقتضاها التصوير، أم كان لرغبة شوقية داخلية في التفرد والتميز، وقد يكون وجودها وهماً من الشاعر، أو ظناً منه أنه على الجادة من الصواب اللغوي، كما قد يكون ذلك منه سهواً، ومحض غفلة عما هو مقيس أو مسموع من لسان العرب، فمن ذلك إضافة «حيث» إلى الاسم المفرد.
قال شوقي:
وَالشعرُ في حَيثُ النُفوسِ تَلَذُّهُ
لا في الجَديدِ وَلا القَديمِ العادي
حَقُّ العَشيرَةِ في نُبوغِكَ أَوَّلٌ
فَانظُر لَعَلَّكَ بِالعَشيرَةِ بادي
وقد أجاز مجمع اللغة العربية المصري هذا الاستعمال بقرار منشور في أعمال المجمع، وقد جاء فيه:
«يأنس بعض المتحدثين بمثل قولهم: الكتاب رخيص من حيث ثمنه بجرِّ الثمن، والمعتمد من القواعد إضافة «حيث» إلى الجمل، اسمية وفعلية، واللجنة ترى إجازة إضافتها إلى الاسم المفرد، وجره بعدها قياساً في ذلك على أخواتها من الظروف المكانية، وأخذاً برأي الكسائي، وما احتج به من الشعر، فيجوز أن يقال: بادر إلى حيث العمل الجاد، لا تمار الحكم من حيث العدل، وعلى ذلك فإضافة «حيث» إلى الاسم المفرد بعدها سائغة قياساً واستعمالاً» (مجموعة القرارات 161، عرض على المجلس في الدورة 49 الجلسة 23).
واستند تأصيل هذا الاستعمال إلى مذكرة تقدم بها د. شوقي ضيف إلى اللجنة بعنوان «إضافة حيث إلى الاسم المفرد» اقترح فيها تصديق المجمع على جواز إضافة «حيث» إلى الجملتين الاسمية والفعلية، وإلى الاسم المفرد أخذاً برأي الكسائي (ت189هـ)، وما جاء في الشعر القديم:
أما ترى حيث سهيل طالعاً
نجماً يضيء كالشهاب لامعاً
ومع أن مذهب البصريين أنه لا يجوز إضافتها إلى المفرد وأن ما سُمِع من ذلك نادر، فإن الكسائي أجاز القياس عليه، ومن شواهدهم المشهورة في هذا الباب أيضاً البيت الذي نسبوه للفرزدق وتداوله النحاة وهو قوله:
ونطعنهم تحت الحبى بعد ضربهم
ببيض المواضي حيث ليُّ العمائم
( شرح شواهد المغني: 1/389):
وقول الشاعر:
وإنني حيث ما يدني الهوى بصري
من حيث ما سلكوا أدنو فأنظر
وقول أبي حية النميري:
إذا ريدة من حيث ما نفحت له
أتاه برياها حبيب يواصله
على اعتبار أن «ما» فيهما موصولة.
والأساليب التي تصاغ فيها «حيث» ثلاثة: أولها أن يليها اسم كما مر في الشواهد، وثانيها أن يليها جملة فعلية نحو: اجلس حيث يجلس أخوك، وثالثها أن يليها جملة اسمية نحو «اجلس حيث أخوك جالس»، والأسلوبان الثاني والثالث لا خلاف فيهما وأمرهما هيِّن، أما الأول فهو محل الخلاف.
وإضافة «حيث» إلى الاسم المفرد قليلة، وقد رويت في الشعرالعربي القديم، على الرغم من إجازة الكسائي القياس عليها، وذكر الألوسي (ت 1924م) أن هذه الإضافة من الضرائر.
إدخاله «مهما» على الفعل الماضي
المشهور عن «مهما» تمحضها للزمن المضارع، ولكننا نجدها في شعر شوقي داخلة على الفعل الماضي، وبعض علماء اللغة المعنيين بالتخطئة والتصويب جعل دخولها على الماضي خطأ ومخالفة لما استقر عليه العرف اللغوي، لعدم ورود هذا الاستعمال في القرآن الكريم.
فمن ذلك قول شوقي من قصيدته التي مطلعها:
هَمَّتِ الفُلكُ وَاِحتَواها الماءُ
وَحَداها بِمَن تُقِلُّ الرَجاءُ
ضَرَبَ البَحرُ ذو العُبابِ حَوالَي
ها سَماءً قَد أَكبَرَتها السَماءُ
مخاطباً رب العزة القادر أن ينجيهم:
رَبِّ إِن شِئتَ فَالفَضاءُ مَضيقٌ
وَإِذا شِئتَ فَالمَضيقُ فَضاءُ
فَاجعَلِ البَحرَ عِصمَةً وَابعَثِ الرح
مَةَ فيها الرِياحُ وَالأَنواءُ
أَنتَ أُنسٌ لَنا إِذا بَعُدَ الإِن
سُ وَأَنتَ الحَياةُ وَالإِحياءُ
يَتَوَلّى البِحارَ مَهما ادلَهَمَّت
مِنكَ في كُلّ جانِبٍ لَألاءُ
فاستخدم الماضي بعد «مهما» في قوله «مَهما ادلَهَمَّت».
وكذلك وردت في قوله:
قاهِرَ الخَصمِ وَالجَحافِلِ مَهما
جَدَّ هَولُ الوَغى وَجَدَّ اللقاءُ
وكذلك وردت في قوله في قصيدة تناول فيها مشكلات الزواج المعاصر:
كَم ناهِدٍ في اللّاعِباتِ صَغيرَةٍ
أَلهَتهُ عَن حَفَدٍ بِمِصرَ صِغارِ
مَهما غَدا أَو راحَ في جَولاتِهِ
دَفَعَتهُ خاطِبَةٌ إِلى سِمسارِ
وكقوله في قصيدة نهج البردة:
أَشياعُ عيسى أَعَدّوا كُلَّ قاصِمَةٍ
وَلَم نُعِدُّ سِوى حالاتِ مُنقَصِمِ
مَهما دُعيتَ إِلى الهَيجاءِ قُمتَ لَها
تَرمي بِأُسدٍ وَيَرمي اللَهُ بِالرُجُمِ
استعمال جموع ومفردات وصيغ صرفية غريبة
كجمعه كلمة سيف على «أسيُف» مثل أعين وأرؤس، وهو من أوزان القلة، والمسموع سيوف وأسياف للكثرة والقلة على التوالي، وذلك في قوله في «نهج البردة»:
بيضٌ مَفاليلُ مِن فِعلِ الحُروبِ بِهِم
مِن أَسيُفِ اللَهِ لا الهِندِيَّةُ الخُذُمُ
وكاستخدامه «الشرع بضم الشين المشددة والراء» جمعاً لشراع المركب، في قوله:
البر ليس لكم في أرضه لجم
والبحر ليس لكم في عرضه شُرع
ومن غرائب لغته استخدامه كلمات غريبة على الأذن، يبدو أنه كان يلتقطها من المعاجم، أو يتخيل وجودها فيها وهي غير موجودة بأي معجم عربي، مثل كلمة «نسيك» التي اخترعها شوقي اختراعاً، ولعله أراد بها صك وزن فعيل بمعنى مفعول، مثل قتيل من مقتول، وذلك في قوله:
نَحَتَ الشُعوبُ مِنَ الجِبالِ دِيارَهُم
وَالقَومُ مِن أَخلاقِهِم نَحَتوكِ
لَم أَكذِبِ التاريخَ حينَ جَعَلتُهُم
رُهبانَ نُسكٍ لا عُجولَ نَسيكِ
ومن استخدامه لكلمات مندثرة قوله:
كم في الحياة من الصحراء من شبه
كلتاهما في مفاجاة الفتى شُرَع
فكلمة «شرع» هذه بفتح الشين والراء معناها سواء، وهو مما لا يعرفه حتى من يدرسون «العربية» ويألفونها. ومن ذلك كلمة «سطاع» بكسر السين بمعنى عمود البيت، في قوله:
فكنت لبيته المحجوج ركناً
وكنت لبيته الأقصى سطاعا
إضافة النكرة إلى نكرة بعدها معرفة
يستهجن اللغويون ما يسمونه «إضافة المتضايفين» مثل قولهم: «كلية آداب طنطا»، باعتبار الكلمتين الأوليين نكرتين أضيفت ثانيتهما إلى معرفة، وقد ورد هذا الاستعمال كثيراً في شعر شوقي كما في قوله في «نهج البردة»:
دَعَوتَهُم لِجِهادٍ فيهِ سُؤدُدُهُم
وَالحَربُ أُسُّ نِظامِ الكَونِ وَالأُمَمِ
فقوله «أُسُّ نِظامِ الكَونِ» أضيفت فيه كلمة «أس» وهي نكرة إلى كلمة «نظام» وهي نكرة مضافة إلى معرفة بعدها.
وكما في قوله:
نُجومُ سُعودِ المَلكِ أَقمارُ زُهرِهِ
لَوَ اَنَّ النُجومَ الزُهرَ يَجمَعُها أَبُ
فقد أضاف كلمة «نجوم» منكرة إلى «سعود» المنكرة المضافة إلى الملك المعرفة بأل، وقد درس المجمع اللغوي هذا الاستعمال وأقره بقرار جاء فيه:
«يجري في الاستعمال العصري قولهم: محكمة استئناف طنطا «كلية آداب الزقازيق»، وغير ذلك مما يجري فيه اسمان منكران متضايفان إلى مضاف إليه معرفة، بغية التعريف والتحديد. وترى اللجنة إجازة مثل هذه الإضافة على أنها من إضافة الأول إلى الثاني والثاني إلى الأخير على معنى في أو اللام، وذلك مما له في العربية نظائر، والإضافة بهذا المعنى لغة مقبولة ولا حرج في استعمالها» (مجموع القرارات: 155، عرض على المجلس في الدورة 49/ الجلسة 23). وقد قدم الأستاذ محمد شوقي أمين بحثاً إلى لجنة الأصول ذكر فيه أن تتابع الإضافات لا تأباه «العربية»، إذ يقال: كتاب نحو البصرة، وكتاب أحكام الفقه «غير أن بعض أمثلة المعاصرين ما يأبى التأويل والتخريج نحو قولهم: محكمة استئناف طنطا، كلية آداب الزقازيق، إذ المقصود بالإضافة هو إضافة محكمة الاستئناف إلى «طنطا» وكلية الآداب إلى «الزقازيق»، فكأن الاسمين المتضايفين اسم واحد. وقد رأى في توجيه ذلك أن الإضافة في المضاف الثاني على معنى «في» أو معنى «اللام»، فيكون التقدير «محكمة استئناف في طنطا أو لطنطا» و«كلية آداب في الزقازيق أو للزقازيق» (أبحاث الدورة 49)، ورأى بعض أعضاء اللجنة أن التعبير مقبول لا شبهة فيه.
إدخاله حرفاً على «سوى»
كما في إدخاله «ما» التي هي بمعنى ليس على «سوى» في قوله:
يَغتَبِطنَ في حَرَمٍ
لا تَنالُهُ الرِيَبُ
ما سِوى الحَديثِ بِهِ
يُبتَغى وَيُجتَذَبُ
هَكَذا الكِرامُ كِرا
مٌ وَإِن هُـــــــــــمــــــــــــــــوا طَـــــــــــــرَبــــــــــــــوا
ومرة نراه يدخل حرف الجر «على» فيقول:
هَذا فَضاءٌ تُلِمُّ الريحُ خاشِعَةً
بِهِ وَيَمشي عَلَيهِ الدَهرُ مُحتَشِما
فَمَرحَباً بِكُما مِن طالِعينَ بِهِ
عَلى سِوى الطائِرِ المَيمونِ ما قَدِما
الفصل بين ركني الجملة بالعطف أو بـ «شبه الجملة»
كما في قوله:
خَلا لَها مِن رُسومِ الحُكمِ دارِسُها
وَغَرَّها مِن طُلولِ المُلكِ باليها
ففصل بين الفعل «خلا» وفاعله «دارسها» بشبه الجملة «مِن رُسومِ الحُكمِ» وبين الفعل «غر» وفاعله «باليها» بشبه الجملة «مِن طُلولِ المُلكِ»
وفي قوله:
رَثَت لَها وَبَكَت مِن رِقَّةٍ فُوَلٌ
كَالبومِ يَبكي رُبوعاً عَزَّ باكيها
حيث عطف على الفعل الماضي «رنت» فعلاً آخر «بكت» قبل مجيء الفاعل.
عطف الاسم الظاهر على الضمير
ومنه قوله في رثاء مصطفى رياض باشا:
مقامك فوق ما زعموا ولكن
رأيت الحق فوقك والمقام
إدخاله «أل» على «بعض»
كقوله:
كَبيرُ السابِقينَ مِنَ الكِرامِ
بِرُغمي أَن أَنالَكَ بِالمَلامِ
مَقامُكَ فَوقَ ما زَعَموا وَلَكِن
رَأَيتُ الحَقَّ فَوقَكَ وَالمَقام
لَقَد وَجَدوكَ مَفتوناً فَقالوا
خَرَجتَ مِنَ الوَقارِ وَالاِحتِشامِ
وَقالَ البَعضُ كَيدُكَ غَيرُ خافٍ
وَقالوا رَميَةٌ مِن غَيرِ رامِ
وَقيلَ شَطَطتَ في الكُفرانِ حَتّى
أَرَدتَ المُـــــنــــعِـــمــــيـــــنَ بِــــــــالاِنــــــتــــِقــــامِ
التنويع في استخدام أدوات الربط
من السمات المميزة للغة شوقي أنه لا يسير على وتيرة واحدة في استخدامه أدوات الربط، بل يراوح شعره بين أنواع مختلفة من أدوات الربط القديمة التي يشيع ذكرها في كتب معاني الحروف، والأدوات الجديدة التي شاعت في العربية المعاصرة، وسيكون من الصعب حصر تلك الأدوات والاستشهاد لها تفصيلياً, ولكن يمكن القول إجمالاً إن أحمد شوقي استخدم في الربط:
أ- أدوات ربط تربط بين الكلمات أو الجمل التي يكون بينها نوع من التقارب في المعنى أو درجة الحكم، أو أي علاقات معنوية أخرى. وهذه الأدوات هي: و/فـ/ثم/ بالإضافة إلى: كذلك /كما أنّ... وغيرها.
ب- أدوات ربط تساعد على تقديم التصورات التي تناقض الفكرة الرئيسة، أو تختلف معها بسبب أو آخر، وهذه مثل: بل/لكن/إنّما/ رغم/ مع أنّ.
وقد كثر منها عند شوقي استعمال «إنما» بهذه الدلالة كما في قوله:
هاتِها يا نَصيرُ إِنّا اجتَمَعنا
بِقُلُوبٍ في الدِّينِ مُختَلِفاتِ
إِنَّما نَحنُ في مَجالسِ لَهوٍ
نَشرَبُ الراحَ ثُمَّ أَنتَ مُواتِ
ومنها قوله:
تِلكَ أَيام شَباب قَد مَضَت آه
لَو تَرجع أَيام الشَباب
إِنَّما البيض الَّتي في لمتي
نَفَّرت في لَونِها بيض الكِعاب
كما شاع في شعره استخدام «بل» بوصفها أداة ربط دالة على الإضراب كما في قوله:
المُصلِحونَ أَصابِعٌ جُمِعَت يَداً
هِيَ أَنتَ بَل أَنتَ اليَدُ البَيضاءُ
ما جِئتُ بابَكَ مادِحاً بَل داعِياً
وَمِنَ المَديحِ تَضَرُّعٌ وَدُعاءُ
ج - روابط تمهد لتعليل فكرة، أو استنتاج رأي، وذلك مثل: بسبب/ بفضل/ حيث إن/ لكي/ نتيجة لـ/ ومن ثمّ.
د- وهناك فصيلة أخرى من الروابط كان يحتاج إليها لغرض خاص، كأن يريد مثلاً أن يقيد فكرته، أو يجعلها مشروطة، أو أنه يود إعطاء تفصيلات على نحو أو آخر، وهنا قد تسعفه أدوات ربط، مثل: لو لم/ إما - أو/ لا - ولا/ سواء - أو.
الابتداء بالنكرة
شاع عند شوقي الابتداء بالنكرة خلافاً للمستحب عند النحاة، وبخاصة أهل البصرة ومن شايعهم، كما في أبياته:
جَلَّ رَمسيسُ فِطرَةً وَتَعالى
شيعَةً أَن يَقودَهُ السُفَهاءُ
وَسَما لِلعُلا فَنالَ مَكاناً
لَم يَنَلهُ الأَمثالُ وَالنظَراءُ
وَجُيوشٌ يَنهَضنَ بِالأَرضِ مَلكاً
وَلِواءٌ مِن تَحتِهِ الأَحياءُ
وَوُجودٌ يُساسُ وَالقَولُ فيهِ
ما يَقولُ القُضاةُ وَالحُكَماءُ
وَبِناءٌ إِلى بِناءٍ يَوَدُّ الخُل
دُ لَو نالَ عُمرَهُ وَالبَقاءُ
وَعُلومٌ تُحيِي البِلادَ وَبِنتا
هورُ فَخرُ البِلادِ وَالشُعَراءُ .