ملف جمال عبد الناصر: جمال عبدالناصر على شاشة السينما

ملف جمال عبد الناصر: جمال عبدالناصر على شاشة السينما
        

          سيظل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حالة زعامية خاصة في التاريخ العربي الحديث, وسيحمل معه دوما حالة من الجدل بين أنصاره, وخصومه, فقد اكتسب عددا كبيرا من الأنصار, بالإضافة إلى عدد لا بأس به من الخصوم.
كما أن التاريخ الذي حمله عبد الناصر فوق ظهره، قد شهد أحداثا جسيمة, على المستوى الوطني, ابتداء من مشاركته في قيادة الثورة مع محمد نجيب, إلى قيامه بتأميم قناة السويس ومعايشة عدوانين عسكريين بينهما أحد عشر عامًا, كانا بمنزلة الفيصل الرئيسي في تاريخ وطن، كان أمامه مشروع قومي أسسه عبدالناصر نفسه، بالإضافة إلى مشاريع عظمى مثل بناء السد العالي, والوحدة مع سورية, ومناصرة الحركات التحررية العربية, لدى شعوب العالم الثالث الذي عانى الاستعمار, وأحداث داخلية على المستوى الاقتصادي, منها الإصلاح الزراعي والقوانين الاشتراكية.
وقد حكم عبد الناصر فعليا بالضبط فترة ستة عشر عاما باعتبار أنه تولى الحكم بعد انقلاب سلمي على محمد نجيب في سبتمبر1954، عقب فشل إبعاد نجيب عن الحكم في مارس من العام نفسه.

          من المهم الإشارة إلى وجود محمد نجيب في الحياة السياسية، من خلال ما ذكره يوسف السباعي عن قيام الثورة في روايته «رد قلبي» التي كتبها عام 1954، ففي هذه الرواية أشار الكاتب إلى الدور الإيجابي والرئيسي الذي لعبه نجيب في القيام بالثورة، هذا الدور اختفى تماما من الفيلم المأخوذ عن الرواية والذي عرض في نهاية عام 1957، فكأن هناك تدشينا بأن عبدالناصر هو الذي قام بالثورة مع الضباط الأحرار.

          وعلى المستوى السينمائي، فإنه ليست هناك أي إشارة بالمرة إلى أن محمد نجيب ساهم في القيام بالثورة بأي شكل من الأشكال. وفي السنوات الأولى من الثورة، وقبل أن يتم تدعيم موقف عبدالناصر سياسيا، فإنه عند الإشارة إلى الرجل الذي وراء الثورة، فإن الإشارة كانت جماعية إلى الضباط الأحرار بشكل عام دون التركيز على شخص واحد بعينه. وكان فيلم «بور سعيد» أول إشارة إلى دور عبد الناصر وحده باعتباره قد رسخ مكانته السياسية، بعد أقل من عامين في مقعد الرئاسة. للمرة الأولى يغني مطرب سينمائي أغنية باسم جمال عبدالناصر هي «أمم جمال القنال».

مجموعة من الأحرار

          ومن الأفلام التي أشارت إلى الضباط الأحرار، كوحدة متكاملة قامت جميعها بالثورة، دون تسمية، فيلما «الله معنا» ثم «رد قلبي». وقد أعطى هذا للثورة معناها، وأن القائمين بها ليسوا فردا، بل هم مجموعة من الأحرار بالجيش، طردوا الملك، واعتلوا الحكم للقضاء على الفساد.

          وقد كشف فيلم «الله معنا» عن كيفية تكوين الضباط الأحرار، وكان الشخص الذي جسده عماد حمدي (أحمد) هو واحد من هؤلاء الضباط، رغم أنه بطل الفيلم، ورغم أن سمات عديدة من عبدالناصر بدت عليه، كالشباب، والشارب الخفيف، وحضور حرب فلسطين، فإن أحمد هذا لم يكن سوى واحد من مجموعة ضباط أقسمت اليمين في دائرة داخل مكان بعيد عن الأعين، باعتبارهم تنظيما سياسيا سريا في المقام الأول، من أجل الثورة على طغيان الحكم وفساده.

          وقد تكرر الجو نفسه في فيلم «رد قلبي». فبعد هزيمة العرب في حرب فلسطين، بدأت خلية الضباط الأحرار تتكون، ووضعت أسماء هلامية غير حقيقية ضمن هؤلاء الضباط، بمعنى أن أسماء الضباط في الفيلمين لم تكن بالضرورة ضمن قائمة الضباط الأحرار، التي قيل إنها قاربت على التسعين اسما، وليس فقط ذلك العدد المحدود الذي تولى قيادة الثورة فيما بعد.

          وللعجب، فإننا لن نرى مجلس قيادة الثورة في أي من الأفلام التي تم إنتاجها في حياة عبد الناصر وإبان توليه الحكم، وإنما سوف يحدث ذلك في الفيلمين اللذين تم إنتاجهما عن ناصر في النصف الثاني من التسعينيات. وفي فيلم «رد قلبي» على سبيل المثال، ردد أحد الضباط لعلي قائلا: «أنت من الأحرار يا علي».. ورأينا الضباط يجتمعون أيضا بشكل سري، وبعيدا عن البوليس السياسي أو العسكري، من أجل ترديد شعارات سياسية، وأخذ العهد على الانتقام ممن كان سببا في هزيمة 1948.

          وقد برزت صورة جمال عبدالناصر كزعيم واحد في فيلم «بور سعيد» لعز الدين ذو الفقار 1957، وهو الذي أرخ لثورة يوليو أيضا، في «رد قلبي». وإلى جانب وجود صورة عبدالناصر فوق الجدران باعتباره البطل القومي الذي أمم القناة، فإن السينما، كما أشرنا، قد غنت له هنا للمرة الأولى، أغنيات تذكرنا بمجموعة أناشيد وأغنيات غناها كبار المطربين أثناء عام 1956، منها «احنا الشعب» وغيرها.

          والتي غنت في فيلم «بور سعيد» لعبد الناصر كانت هدى سلطان، ولم تكن الأغنية فردية, بل وقفت هدى سلطان تردد في شرفتها، وقد تجمع أبناء المدينة في جموع يطالبون، بالغناء، من جمال أن يؤمم قناة السويس ويناصرونه فيما فعله.. وفي أحد مشاهد الفيلم يردد أحد الخواجات الذين يعيشون في المدينة: عبدالناصر لازم يموت.. مما يعطي الإيحاء بأن العدوان الثلاثي على مصر لم يكن يهدف إلى استعادة قناة السويس للشركة الفرنسية - البريطانية، ولكن التخلص في المقام الأول من جمال عبدالناصر.

          وفيما بعد ارتفعت صورة جمال عبد الناصر في الأفلام، من خلال الصور الرسمية الموجودة في المصالح الحكومية والمؤسسات الرسمية، وتغيرت الصورة، من اليوزباشي، الذي يرتدي الزي العسكري إلى الصورة المعهودة للرئيس المبتسم. وفي الكثير من الأحيان، كان يتم مزج خطب عبد الناصر السياسية بمشاهد مؤثرة، خاصة في المشهد الختامي لفيلم «عمالقة البحار» عام 1961.

شيء من الخوف

          لن نتوقف عند الإشارات الرمزية التي قال أصحابها إنها رمزت إلى عبد الناصر مثلما حدث في فيلم «شيء من الخوف»، وإن عتريس هو صورة من الرئيس، فإن ذلك لا يدخل في دائرة حديثنا، فمن يود الإشارة إلى عبد الناصر كان عليه أن يفعل ذلك بشكل مباشر، لأن الرمز هنا لم ينسبه إليه صاحبه إلا بعد رحيل عبدالناصر.

          ولكننا سنتوقف في المقام الأول عند الأفلام التي ظهر فيها عبد الناصر بشكل مباشر جدا مثل الصورة التي حدثت في فيلم «العصفور» ليوسف شاهين 1974 م، حتى وإن تم ذلك بعد رحيل الزعيم. صحيح أن هناك بعض الإشارات إلى عبد الناصر، لكن لن يتم الأخذ بها، مثل إلصاق اسم «الناصر» باسم صلاح الدين الأيوبي في الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين.. لأن ما يهمنا شخص عبدالناصر كاسم وصورة، بما يدل على مكانته السياسية في الوطن، وفي أحداث الفيلم.

          ولعل يوسف شاهين كان أول من قدم صورة شبه متكاملة لما حدث ليلة 9 يونيو 1967م، حين أعاد على الشعب خطبة الرئيس وهو يتنحى، فأثار شجن الناس الذين كانوا يعيشون نفس اللحظات عما قريب.

الناس والنيل

          الغريب أن شاهين نفسه قد تجاهل تصوير عبدالناصر حين قام بضغط زر تحويل مجرى نهر النيل, في حضور الرئيس السوفييتي خروشوف عام 1964، وذلك في فيلم «الناس والنيل» عام 1970، وهو الفيلم الذي تم إنتاجه مرتين. فالفيلم تدور أحداثه حول حدث سياسي ووطني عظيم، دفع عبدالناصر الكثير من معاناته من أجل إنجازه، ابتداء من تأميم قناة السويس وافتتاح المشروع في يناير 1960، ثم تحويل مجرى النهر.

          والغريب أيضا أن عبدالناصر الذي كان يحب السينما، لم تتم الإشارة إلى دوره كرئيس في الأفلام التي صورت المشاريع الكبرى, خاصة السد العالي، واعتبر مشروعا قوميا، ولعل ذلك كان هدفا لجعل الناس يحسون بأنه مشروعهم، مثل تغليف المشروع بقصة حب فكاهية في فيلم «الحقيقة العارية» لعاطف سالم، مما أبعد الأحداث عن السياسة العامة للوطن، واعتبر مشروعا أقرب إلى الاجتماعي. وقد حدث ذلك أيضا في «الناس والنيل» الذي كتبه عبدالرحمن الشرقاوي، وتكلف الفيلم ربع مليون جنيه بأسعار تلك الآونة، وهو مبلغ ضخم، بالإضافة إلى الخدمات التقنية والفنية لشركة «موسى فيلم» السوفييتية لتمويل العمل.

          ورغم كل هذا فإن الفيلم لم يشر إلى الجانب السياسي، ولعل الناقد مجدي فهمي يشاركنا الرأي نفسه في مقاله عن الفيلم، المنشور في مجلة الشبكة قائلا: «وتساءلت مع المشاهدين مع القلة المتبقية منهم أين اللحظات التاريخية؟».

          «وأين ناصر وخروشوف يوم اكتمال البناء، وتدفق المياه في الشريان الجديد؟».

          لكن يوسف شاهين الذي تجاهل إظهار عبد الناصر في فيلمه - ربما من أجل إبعاده سياسيا عن الفيلم - قدم عبد الناصر الحقيقي في صورة مليئة بالشجن، في نهاية أحداث فيلم «العصفور» حين جلست أسرة بهية تشاهد الزعيم، منكسرا، يتحدث إلى الشعب، في أقصر خطاب له على الإطلاق وأكثرها مأساوية، يعلن مسئوليته الكاملة عما أصاب الجيش المصري في سيناء.. وتخليه عن مكانه وعن مقاعد الحكم... وفي هذا المشهد غير المخرج تماما من منظوره للزعيم فقد بدا هنا واهنًا، حزينا، منكسرا، وقام بتفريغ الفيلم من مضمونه الحسي تجاه الرجل، فقد كانت الخطبة في الفيلم، كما في الواقع، هي المنبه أن هناك نكسة، وهزيمة نكراء، أما الواقع من حيث ما دار فعلا، فإن صدمة الناس في تنحي عبد الناصر، كانت أقوى من صدمتهم في حدوث النكسة، لذا خرجوا يهتفون في الشوارع باسم الزعيم المتنحي، وهم يحسون بهزيمة مضاعفة، هزيمة أن يتخلى عنهم الرئيس الذي يحبونه، ثم الهزيمة العسكرية، وأيضا التصور بأن المستقبل لا يمكن أن يأتي من دون الرئيس، وفي فيلم يوسف شاهين سمعنا الهتاف باسم الحرب: لا.. ح نحارب... ح نحارب... تلك الجمل التي رددتها بهية.

          وفي الفيلم مشهد صادق، يردد «الشيخ علي» الأزهري: «يادي المصيبة السوده.. دا احنا انهزمنا واحنا مش عارفين»... أما خطاب التنحي فإن المخرج صوره أيضا من خلال صور المساكن الشعبية، وكأنها خلت من سكانها، إنهم بداخلها واجمون صامتون، والنيل ساكن كأنما المياه ركدت، أما الشوارع فتبدو مقفرة، وهي التي سوف تشهد بعد قليل تفجرا من المواطنين المنادين باسم جمال عبد الناصر (في الواقع)، «ح نحارب» في السينما. وقد اهتمت السينما دومًا بتصوير خطاب التنحي، على مدى قرابة أربعين عامًا، مثلما حدث فى فيلم «باحب السيما»، عام 2004، إخراج أسامة فوزي.

          في السينما التي تم إنتاجها في السبعينيات، خاصة مجموعة أفلام «الكرنك» والهجوم على التعذيب السياسي، فإن الرئيس لم يظهر بشخصه، لكنه كان موجودا بصورة ما، فرئيس الاستخبارات خالد صفوان في فيلم «الكرنك» يتحدث إلى الرئيس مباشرة في الهاتف، ويبدو مرتبكا رغم ثقته بنفسه، وهو يشكر الرئيس. لا نعرف أنه الرئيس بل هو فقط «يا أفندم»، يزرع في قلبه الاطمئنان أن كل شيء على ما يرام، وان الأمور تسير على أفضل صورة.

          كما أن صورة عبد الناصر صارت رمزا للهجوم عليه في بعض الأفلام، فالكاتب السلبي الذي لا يجيد سوى الكلام، واستخدام الشعارات الجوفاء لعلاج مشكلات علي «الموظف» البسيط في فيلم «الحب فوق هضبة الهرم» لعاطف الطيب، يجلس على مقهى، ومن خلفه صورة جمال عبد الناصر، ويردد له «علي» بعد أن صدم فيه ما يعني «أنت بتستنفع من عهد عبدالناصر».

          وصورة الكاتب هنا هي لشخص سلبي تماما، ليست له أي أدوار إيجابية في المجتمع. صحيح أن عبد الناصر لم يظهر هنا، وأنه كان قد مات قبل 15 سنة من الأحداث، لكن وضع صورة خلف الكاتب يعني أن من ينتفعون من عهده قد أساءوا التصرف، والتلفع، كما أن هذه العبارات يمكن تفسيرها بالعديد من التفسيرات الأخرى.

ناصر 56

          لكن شخصية عبد الناصر لم يتم تجسيدها في السينما بشكل مباشر إلا من خلال فيلم «ناصر 56» لمحمد فاضل، والحقيقة أن النص المكتوب قد أعد أساسًا ليكون فيلما تلفزيونيا، لكن إنتاجه الضخم وأهمية الموضوع دفعت به إلى العرض السينمائي.

          وعندما عرض الفيلم على الناس، كان عبد الناصر قد رحل قبل ربع قرن، وأن الأحداث التي يدور حولها الفيلم قد مر عليها أربعون عاما كاملة، إذن لقد صار الشخص والحدث جزءا من التاريخ أكثر منه موضوعا سياسيا، باعتبار أن الفيلم السياسي يتعلق دوما بالحاضر، مهما كان حديثه عن الماضي، ورغم ذلك فقد أضاف الفيلم شجنا وطنيا, ووعيا سياسيا على جميع المستويات ولمختلف الأجيال، فأيقظ حلما متوقدا حول الانتماء للوطن، والشعور بأهمية الأرض، وإحياء مسألة العدو المتربص بمصر، وأنه يجب مواجهته، وأعاد الصغار إلى زمن مجيد، لم يدرسوا عنه بنفس الروح القومية في كتب التاريخ، وخففت حدة العداء في لغتنا. ويهمنا قبل أن نتوقف عند الفيلم، أن نقتبس بعضا مما كتب عنه في مجلة «الإكسبريس» الفرنسية، بما يعني إيقاظ الحس الوطني، والوعي السياسي لدى أجيال متعاقبة في مصر، بما يعكس نجاحه الجماهيري، حيث بدأ كاتب المقال في 10 أكتوبر 1996 سؤالا بالصياغة الآتية:

          - هل ستعود مصر نارية؟

          «فمنذ شهر، وفيلم ناصر 56، الذي يحكي تأميم قناة السويس، يضرب في مصر أرقام التوزيع من خلال عدد المشاهدين. فهناك مشهد، بشكل خاص، يلهب كل الصالات، ذلك الذي يقف فيه الرئيس جمال عبد الناصر في شرفة بورصة الإسكندرية، وهو يعلن تأميم  شركة قناة السويس في 26 يوليو 1956، فإن التنهدات تعلو وسط أحداث الفيلم، وترتفع صيحات الحماس وسط تصفيق هائل من المشاهدين.

          «طويل، تقليدي، وممل تقريبا، ومع ذلك فإن ناصر 56 يحقق نجاحا مدهشا. أكثر من مليون مصري شاهدوا هذا الدرس في التاريخ، أخرجه محمد فاضل، وأنقذه من المباشرة أحمد زكي الذي أدى دور عبد الناصر فكان أكثر طبيعية. ومن يوليو إلى أكتوبر 1956، ويحكي الفيلم رفض الغرب تمويل السد العالي، فكان التأميم، وطرد البعثة الفرنسية البريطانية».

          ويقول المقال في مكان آخر إن الكثير من المصريين لديهم الإحساس الآن بأن السياسة الخارجية للقاهرة موالية لواشنطن. فإن ناصر 56 يذكرهم أنه منذ أربعين عاما كان هناك من جرؤ أن يقول: لا «للإمبريالية».. وحسني مبارك الرئيس المصري السابق كان يود أن يقيس معيار هذه  «لا» التي صارت شعبية: وكان قراره ألا يشارك بالقمة الإسرائيلية - العربية التي عقدت بواشنطن والتي اقترحها بيل كلينتون، قد لاقى قبولا شعبيا كبيرا».

          إذن، الفيلم لم يكن حدثا تاريخيا، بل هو موقف، مدخل سياسي، وقد تواءم مع الحدث السياسي الحالي لموقف مصر من قمة عربية - إسرائيلية، مع موقف عبد الناصر من الإمبريالية الغربية.. ولا شك في أن هذا الموقف قد شهد حالة غير منتظرة من الحماس الوطني، ليس فقط في صالات السينما التي يصفق المشاهدون فيها، بل أيضا عن المستوى العام في الكتابة الصحفية، والنقد، فقد قام الكثير من الكتاب، بإسقاطات خاصة حسب رواية كل منهم للحدث، وعلى سبيل المثال فإن وليد الحسيني، الناصري فكرا، كتب في مقدمة مجلة فن العدد 9 / 9 / 1996 أنه، في ظل هذا الفرح الشعبي داخل مصر، يعيش الشعب العربي قلقا، سببه أن حقوق هذا الفيلم خارج مصر قد اشترتها السعودية.

          ويقول الكاتب: لاشيء يوحي بأن عرض الفيلم مطروح على أصحاب دور العرض العربية. ولا نعتقد أنه سيطرح، لقد اشتروه  كي لا يشاهده أحد.. فتأميم مصر لقناة السويس، هو دعوة لتأميم السعودية لنفطها.

          «ليس هناك أقوى من السينما على التحريض ولا أقدر من السينما على المقارنة. وهذا يكفي للخوف من فيلم ناصر 56».

          ولا شك في أن شخصية الزعيم التي اتصف بها عبدالناصر في الواقع، وأيضا في خطاباته التي شاهدها الناس في التلفزيون، قد هيمنت على روح الفيلم، وقد قامت المجلة نفسها بعمل تحقيق كتبه مجدي الطيب عما تركه الفيلم من أثر نفسي لدى المشاهدين في كل مكان، حيث يقول: لم تكن الإيرادات الضخمة وحدها هي الفيصل في حسم الأمور لمصلحة «ناصر 56»، بل كانت هناك قيمة أكبر تمثلت في إقبال جيل الشباب، الذي ولد في أعقاب حرب يونيو 1967، وفي أعقاب رحيل عبد الناصر في سبتمبر 1970. وهي ظاهرة استدعت الغبطة والتجارب من الجيل الذي عايش حكم عبد الناصر أو الذي انحاز لتوجيهاته.. لكن ما حدث قلب كل الموازين تماما بعدما حصل الإقبال والتجاوب من جيل الشباب بدرجة أكبر. يتساوى في هذا شباب الجامعة والحرفيون والموظفون، بما يعني أن الجيل الذي تعرض لعملية غسيل مخ متعمدة ومتواصلة لم يعلن الاستسلام، ولم يتم استقطابه بالصورة التي رسخت في الأذهان.

مائة يوم

          والفيلم كما هو واضح عن عبد الناصر إبان أزمة سياسية، قدم الفيلم عن مائة يوم منها، بدأت قبل إعلان التأميم، والمرور بملابسات عديدة، ووقوف زملائه من مجلس قيادة الثورة إلى جانبه، واعتراض البعض، والحياة الأسرية للرئيس، وبعض الصعوبات التي  مر بها، وأشخاص عديدون أحاطوا بالرئيس في هذه الأزمة، منهم الكاتب فتحي رضوان، والمهندس محمود يونس الذي تولى رئاسة هيئة قناة السويس، ثم بعض المواقف الإنسانية التي عاشها عبد الناصر، خاصة مقابلته لأم فقدت ابنها وجاءت له ببعض متعلقات ابنها تناشده المضي قدما في المسيرة.

          والفيلم عن شخص عبد الناصر قبل أن يكون عن أزمة سياسية والتي توقف الفيلم في نهايتها حين قوبل الرئيس بحفاوة شديدة عقب خطابه في الأزهر الشريف، وقد أثر ذلك على أحمد زكي حين تحدث حول تشخيصه الفني للشخصية: «لم تتوقف المسافة عند تجسيد الأزمة، ولكنها تتعلق بشخص عبد الناصر ذاته. فالمشكلة عند الذين شاهدوه خلال الستينيات.. من المؤكد أنهم ينتظرون رؤيته من خلال أدائي الدرامي لأن الناس عايزين يشوفوا عبد الناصر، لكن كانت المعارك صعبة للغاية لأن عبد الناصر شخصية تاريخية ومعاصرة، شخصية درامية يمكن تقليدها أو تجسيدها أو تخيلها. ومن هذا المنطلق بدأت معايشة الشخصية، بعد تشخيصها واستحضارها من خلال الصوت والصورة».

          في الفيلم يمتزج الخاص بالعام، فعبد الناصر شخصية تاريخية عامة. وما يمارسه يرتبط بالوطن، وقد اختار الفيلم لحظات مجد حساسة في حياة الشخص باعتبار أنه مهما كان الأمر فإنه انتهى بانتصار عبد الناصر، عكس ما حدث في عام 1967, حيث كانت البداية الحقيقية نهاية الزعيم, سواء على المستوى الصحي أو الوطن.

ناصر قوادري

          قبل أن نتحدث عن فيلم «جمال عبد الناصر» للمخرج السوري أنور قوادري، من المهم أن نقتبس فقرة كتبها أحمد حمروش الذي مارس النقد السينمائي بشكل مكثف في نهاية الخمسينيات، حيث كتب تحت عنوان «عبد الناصر والسينما» بعد حضور عرض خاص للفيلم المذكور حضره رئيس الرقابة، ومجموعة من المؤرخين والكتاب للتعرف على آرائهم قبل إصدار تصريح لعرض الفيلم، ونشر في مجلة روزاليوسف - 13 يوليو 1998 إن «السينما كانت واحدة من هوايات جمال عبد الناصر.. كان يتردد عليها كثيرا حتى السنوات الأولى من الثورة، ثم أصبح متابعا لها في داره، يشاهد معظم الأفلام العربية والأجنبية، وفي عهده كان رئيس مؤسسة السينما هو صلاح أبو سيف ثم نجيب محفوظ.. وفي هذه الفترة كانت السينما فنا وصناعة مزدهرة، لها سوق عريض في الدول العربية وغيرها».

          أما الفيلم فقد تعرض لمساحة زمنية أطول من حياة عبد الناصر، منذ عام 1935، حين قدم أوراقه للالتحاق بالكلية الحربية، أي وهو في السابعة عشرة من العمر، وحتى وفاته عام 1970 م، أي خمسة وثلاثين عاما كاملة.

          وهذا يعني أن المخرج عليه أن يمر على لحظات مهمة في تاريخ الرئيس، والغريب أنه قدم هذه الرحلة كأنه يكتب صفحات حماسية في كتاب مدرسي للتربية الوطنية، ونحن لن نقوِّم الفيلم فنيا، ولكن سنتناول الشكل السياسي الذي ظهر به عبد الناصر، فهو رجل مرتبط بالسياسة والوطن منذ اللحظة الأولى، وحين يتقدم للكلية الحربية، كان ينظر بغضب شديد إلى الإنجليز وبشكل فيه مبادلة، كأنه يعبر للمشاهدين عن كراهيته لهم، بما يعني أنه ينتظر لحظة للمواجهة معهم. وذلك بعد أن ألقى أحد الإنجليز السيجارة في وجه الشاب.

          والفيلم بمنزلة محطات، ففي الكلية يتعرف على مجموعة الدراسة التي تكون منها تنظيم الضباط الأحرار فيما بعد. وحصار الفالوجا أثناء حرب فلسطين ثم قيام ثورة يوليو، وما حدث ليلة الثورة والصراع مع الغرب ورفض سياسة الأحلاف، على رأسها حلف بغداد ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر، التي تظهر مرة للظهور في السينما، وتأميم قناة السويس، ثم العدوان الثلاثي، والمؤامرة بين أنتوني ايدن (بريطانيا)، وبن جوريون (إسرائيل)، وجيه موليه (فرنسا). والنصر السياسي لعبد الناصر وخروجه بطلا قوميا وعربيا وعالميا من حرب السويس ثم الوحدة مع سورية، وأزمة الكويت والعراق عام 1960، وفشل الوحدة بالانفصال. مما أحدث شرخا كبيرا في المشروع القومي لناصر، ثم عدوان 1967 والصراع السياسي بين ناصر وعامر الذي انتهى بانتحار عامر، ثم حرب الاستنزاف التي أعاد فيها استجماع قوى القوات المسلحة التي تمزقت في يونيو 1967م. ومرضه الذي أنهكه حتى مؤتمر القمة العربي في 28 سبتمبر 1970.

          إذن فنحن أمام رحلة من نوع خاص.. هي محطات وطنية سياسية، كان عمودها الرئيسي هو ناصر، سواء في حياته العامة أو الخاصة، علاقاته بزملائه ورفاق السلاح وأيضا أسرته. وقد واجه الفيلم المزيد من المتاعب قبل تصويره من قبل أشخاص لهم علاقة بأبطال الفيلم، ومنهم برلنتي عبد الحميد أرملة عبد الحكيم عامر التي أظهرها الفيلم كفتاة دست له ليتزوجها. وأيضا أسرة جمال عبد الناصر، خاصة ابنته هدى.

          والمهم أن عبدالناصر قد صار شخصية سينمائية سياسية، فكما كتبت نهاد إبراهيم في مجلة الكواكب «فإن النتيجة أننا شاهدنا فيلما ليس عن ناصر، ولكن بعيني ناصر، مما أدى للمصادرة على حكم المتلقي تماما من خلال عملية تلقين مدروسة ملخصها أن ناصر هو النموذج للمثالية».

المشاهد الإنسانية

          أما أحمد حمروش فقد كتب في المقال المذكور من قبل: إن أعظم المشاهد التي وصلت إلى القمة كانت المشاهد الإنسانية التي جمعت بين جمال عبد الناصر وزوجته، وهي تطلب منه أن يخفف من أعباء عمله بعد أن رأت الجهد يرهقه والمرض يزحف عليه... والمشهد العائلي الذي يجمع بينه وبين أولاده يلعبون الكرة في لحظة نادرة.. والمشهد الإنساني الرائع الذي جمع بينه وبين رفيقة عمره لحظة وفاته وهي تحتضن ذراعه وتطلب من الحاضرين أن يغادروا الغرفة حتى تتوافر لها فرصة الجلوس معه وحده.. وهو الذي شغل حياته كلها بمسئوليات وطنه وشعبه.

          وقد قام المؤرخ والكاتب العسكري جمال حماد بمراجعة العلاقة بين الفيلم والواقع في مقال نشره في مجلة «آخر ساعة» قال فيه: «أن يتعرض الفيلم لفترة زمنية مقدارها حوالي 35 عاما من عمر عبد الناصر لعرض أحداثها العديدة على الشاشة في فترة زمنية مدتها 130 دقيقة، وهذا اضطره أن يعالج الأحداث التي يشملها الفيلم معالجة سطحية للغاية دون أي تعمق أو تطرق إلى لب القضايا المعروضة، أو التعرض لتفاصيلها أو إظهار رؤيته للشخصية لها، كما أجبره في الوقت نفسه على التقليل من إظهار المشاهد الإنسانية وإبراز المشاعر العاطفية التي تتعلق بأبطال الفيلم، وهي الأمور التي تجلب التأثر، وتثير التشويق لدى المتفرجين».

          وفى هذين الفيلمين كان عبدالناصر هو الشخصية الرئيسية، أما من حوله فبمنزلة شخصيات ثانوية، خاصة رفاقه فى مجلس قيادة الثورة، إلا عندما قدم محمد خان فيلمه «السادات»، كان لابد من ظهور عبدالناصر كشخصية ثانوية، باعتبار أن الفيلم قد حاول أن يؤرخ أهم محطات السادات، مثلما حدث مع فيلم أنور القوادري، وأيضًا مع المسلسل التلفزيوني الذي سيخرجه باسل الخطيب.

مسلسل ناصر

          تعمدنا أن يكون حديثنا عن عبدالناصر في السينما المصرية، حيث إن هذا الموضوع وحده بالغ الاتساع، ولا شك في أن متابعة مسلسل أذيع في إحدى وثلاثين حلقة، مثل مسلسل «ناصر» إخراج الفلسطيني الأصل باسل الخطيب، أمر يحتاج إلى المزيد من الصفحات، لكن من المهم الإشارة إلى أن الدراما التلفزيونية  بساعات بثها الطويلة، يمكنها أن ترصد حياة الشخصية بالمزيد من التفاصيل، وقد جاء إنتاج هذا المسلسل عام 2008، في حقبة زمنية تهافت فيها المنتجون لإنتاج أعمال درامية طويلة الحلقات حول شخصيات سياسية وفنية بارزة في الحياة العربية الحديثة، خاصة مسلسل  الملك فاروق الذي أثار جدلًا، وقدم للناس صورة مغايرة لحاكم عربي، دأبت كتب التاريخ المدرسية، والأفلام التي تم إنتاجها على مدى عقود طويلة على تقديم صورة نمطية له، ومن هنا جاءت المشاهد الكثيفة والجدل الدائم حول هذه الشخصية، ومن هنا جاءت ضرورة أن يتم تقديم مسلسل يقدم وجهة نظر خاصة لمسيرة حياة جمال عبدالناصر منذ عام 1936 حتى رحيله، فيما هو أقرب إلى فيلم «جمال عبدالناصر» لأنور قوادري، سواء من حيث التركيز على كافة حياته، وأيضًا باعتبار أن الزعيم إنسان مثالي، نموذجي لا يعرف الخطأ، وقد أثار هذا المسلسل الكثير من الجدل حول موضوعية كتابة هذا النوع من الدراما، خاصة أن الدكتورة هدى عبدالناصر قد أشرفت بنفسها على أن يخرج المسلسل الذي كتبه يسري الجندي بهذه الصورة، فوضع نقاط ضوء على مراحل مشرقة فى حياة عبدالناصر، ابتداء من حصار الفالوجا على تخوم فلسطين، وتوقف المسلسل عند الثورة، وعلاقة ناصر برجال الثورة، وإن كان قد تعامل مع لحظات هزيمة الرجل، بالمرور عليها مرور الكرام، مثلما حدث في التعامل مع حرب يونيو، وحتى وفاة الزعيم في سبتمبر عام 1970.
----------------------------------
* صحفي من مصر.

 

محمود قاسم*