صحيفةُ السَّفرِ عنفُ الغربة ومتعةُ المعرفة

صحيفةُ السَّفرِ عنفُ الغربة ومتعةُ المعرفة

ينبغي‭ ‬أنْ‭ ‬ينفتحَ‭ ‬هذا‭ ‬العنوانُ‭ ‬الإجرائيّ‭ (‬صحيفةُ‭ ‬السفر‭) ‬على‭ ‬معنى‭ ‬عميق‭ ‬يتكدّس‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬موازٍ‭ ‬هو‭ ‬‮«‬تجربة‭ ‬السفر‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬تتجلّى‭ ‬الدلالة‭ ‬على‭ ‬أوسع‭ ‬فضاء‭ ‬ممكن‭ ‬أو‭ ‬محتمل،‭ ‬تتحرك‭ ‬فيه‭ ‬مفردة‭ ‬‮«‬تجربة‮»‬‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تفجير‭ ‬كلّ‭ ‬الطاقة‭ ‬المفهومية‭ ‬والحمولة‭ ‬السّيميائية‭ ‬التي‭ ‬تحتملها،‭ ‬فالتجربةُ‭ ‬مفهومٌ‭ ‬عريضٌ‭ ‬وطويلٌ‭ ‬يشتغل‭ ‬أفقياً‭ ‬وعمودياً‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭ ‬تقريباً،‭ ‬والتجربة‭ ‬التي‭ ‬نقترحها‭ ‬مفهوماً‭ ‬وإجراءً‭ ‬لا‭ ‬تقترن‭ ‬بالقصدية‭ ‬اقتراناً‭ ‬يسبق‭ ‬الفعل،‭ ‬بل‭ ‬يترشح‭ ‬عن‭ ‬اللاقصدية‭ ‬أحياناً‭ ‬حين‭ ‬يتمكّن‭ ‬الفعل‭ ‬من‭ ‬بلوغ‭ ‬درجة‭ ‬المغامرة‭ ‬المنتجة‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬التحصيل،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنّ‭ ‬مفهوم‭ ‬المغامرة‭ ‬ملاصقٌ‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬لمفهوم‭ ‬التجربة،‭ ‬وكأنّ‭ ‬التجربة‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬مفهومياً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬احتوائها‭ ‬على‭ ‬نطفة‭ ‬مغامرة‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬طبقة‭ ‬من‭ ‬طبقاتها،‭ ‬أو‭ ‬أيّ‭ ‬حلقة‭ ‬من‭ ‬حلقاتها‭.‬

حين‭ ‬تضاف‭ ‬مفردة‭ ‬‮«‬التجربة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مفردة‭ ‬‮«‬السفر‮»‬،‭ ‬فإنّها‭ ‬تتوجّه‭ ‬بكليّتـــها‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬السفر‭ ‬ومحتواه،‭ ‬ومفردة‭ ‬‮«‬السفر‮»‬‭ ‬مفردة‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬كثافتها‭ ‬وحيويتها‭ ‬واتساعها‭ ‬وتعددها‭ ‬وشموليتها،‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬حدود‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الدّلالة،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬سقوف‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬المعنى،‭ ‬السفر‭ ‬نقيض‭ ‬المكوث‭ ‬وضدّ‭ ‬الإقامة،‭ ‬حركة‭ ‬جوّابة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬والإنسان،‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال،‭ ‬في‭ ‬الرؤية‭ ‬والظنّ،‭ ‬حركة‭ ‬مفتوحة‭ ‬في‭ ‬مظهريّة‭ ‬الخارج‭ ‬وحركة‭ ‬عميـــقة‭ ‬فــي‭ ‬باطنيّة‭ ‬الداخل،‭ ‬تحوّلٌ‭ ‬متعمّدٌ‭ ‬في‭ ‬الثبات،‭ ‬وتوغّــلٌ‭ ‬طائلٌ‭ ‬في‭ ‬ظلمة‭ ‬كابسة،‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬أمل‭ ‬الضوء‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬سطح‭ ‬المحسوسات‭ ‬وطيف‭ ‬المهموسات،‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬يزخر‭ ‬به‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تحصــــيل‭ ‬معرفــــة‭ ‬وتــجدّد‭ ‬روح‭ ‬وتغيير‭ ‬مصــير‭ ‬وفهم‭ ‬آخر‭ ‬للأشياء‭.‬

توازي‭ ‬‮«‬تجــربة‭ ‬الســــفر‮»‬‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬رؤيويّ‭ ‬من‭ ‬سياقاتها‭ ‬‮«‬سيرة‭ ‬المسافر‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬هو‭ ‬يؤلّف‭ ‬سيرةً‭ ‬جديدةً‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬باطـــن‭ ‬التجــــربة‭ ‬وعلى‭ ‬حدودها‭ ‬وفي‭ ‬ظلالها،‭ ‬يمتــــحنُ‭ ‬تجــــلّياتها‭ ‬ويختبر‭ ‬طاقاتها‭ ‬ويحضّها‭ ‬على‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الثراء‭ ‬والتطلّع‭ ‬والكــسب،‭ ‬في‭ ‬السبيل‭ ‬نحو‭ ‬تكثيف‭ ‬سيرته‭ ‬السفريّة‭ ‬المسافرة،‭ ‬وهي‭ ‬تتشكّل‭ ‬من‭ ‬اللحظة‭ ‬والبرهة‭ ‬واللقطة‭ ‬والموقف‭ ‬والمشهد‭ ‬والرؤية‭ ‬والملاحظة،‭ ‬حين‭ ‬تدنو‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬وحيـــن‭ ‬تبـــتعد،‭ ‬حين‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬الأشياء‭ ‬وحين‭ ‬ترغب‭ ‬عنها،‭ ‬لتمتزجَ‭ ‬التـــجربةُ‭ ‬بالــــسيرة‭ ‬امـــــتـــزاجَ‭ ‬معرفة‭ ‬ويقين‭ ‬وسلطة‭ ‬وحنين،‭ ‬ويتوازى‭ ‬السفر‭ ‬مع‭ ‬المســــافر‭ ‬موازاةَ‭ ‬دلالة‭ ‬ومعنى‭ ‬وقيمة‭ ‬وأفق‭.‬

 

تجارب‭ ‬إنسانية

الرحلات‭ ‬القديمة‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تحفــــل‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬صعوبات‭ ‬جمّة‭ ‬يتــــعلّق‭ ‬معظمــــها‭ ‬ببطء‭ ‬حركة‭ ‬وسائل‭ ‬السفر‭ ‬والمفاجآت‭ ‬غير‭ ‬السارّة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تحصل‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬الزمن‭ ‬الطــــويلة‭ ‬المضنية،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬الرحّالة‭ ‬وهــــم‭ ‬يسطّرون‭ ‬تجاربهم‭ ‬الرحليّة‭ ‬في‭ ‬سيرهم‭ ‬يكشفون‭ ‬عن‭ ‬خصب‭ ‬خلّاب‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬تجارب‭ ‬إنسانية‭ ‬ثــــقافية‭ ‬لا‭ ‬يمــــكن‭ ‬أن‭ ‬تتكرّر،‭ ‬لا‭ ‬يحصل‭ ‬بالتأكيد‭ ‬مع‭ ‬السفر‭ ‬الحديث‭ ‬بوسائله‭ ‬الفائقة‭ ‬الرفاهـــية‭ ‬والراحة‭ ‬وسرعة‭ ‬بلوغ‭ ‬الهدف،‭ ‬فالزمن‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقطعه‭ ‬الرحّالة‭ ‬القدماء‭ ‬في‭ ‬أشهر‭ ‬طويلة‭ ‬لا‭ ‬يستغرق‭ ‬الآن‭ ‬بالطائرات‭ ‬الحديثة‭ ‬سوى‭ ‬ساعات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬غيّر‭ ‬مفهوم‭ ‬السفر‭ ‬والرحلة‭ ‬والتــــجربة‭ ‬تغـــييراً‭ ‬عميقاً‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يدركه‭ ‬سوى‭ ‬من‭ ‬خَبرَ‭ ‬نمطاً‭ ‬من‭ ‬أنماط‭ ‬السفر‭ ‬القديم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭.‬

 

السفرُ‭... ‬استكشافٌ‭ ‬وغربةٌ

استثمر‭ ‬الرحالة‭ ‬والمستشرقون‭ ‬بطء‭ ‬حركة‭ ‬السفر‭ ‬وطول‭ ‬المسافة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬والانتقال‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬إلى‭ ‬بلد‭ ‬ومن‭ ‬مدينة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬كي‭ ‬يشتغلوا‭ ‬على‭ ‬أهدافهم‭ ‬الكولونيالية‭ ‬والثقافية‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الشعوب،‭ ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬الشرق‭ (‬والشرق‭ ‬العربيّ‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭) ‬هو‭ ‬وجهتهم‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬ومنه‭ ‬اكتسبوا‭ ‬الصفة‭ ‬الاصطلاحية‭ ‬الشهيرة‭ (‬المستشرقون‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬ظلّتْ‭ ‬ملازمةً‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬مدوّنة‭ ‬الفكر‭ ‬الحديث،‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬انطوت‭ ‬عليه‭ ‬استراتيجية‭ ‬التسمية‭ ‬من‭ ‬مزايا‭ ‬وسلبيات‭ ‬بحكم‭ ‬منهج‭ ‬الدراسة‭ ‬الذي‭ ‬طال‭ ‬نظرية‭ ‬الاستشراق‭ ‬وهويتها‭ ‬ومقصديتها‭.‬

الغربةُ‭ ‬مفصلٌ‭ ‬جوهريٌّ‭ ‬من‭ ‬مفاصل‭ ‬تجربة‭ ‬السفر‭ ‬بما‭ ‬تحتويه‭ ‬من‭ ‬عنف‭ ‬ومعاناة‭ ‬قاسية‭ ‬وخبرة‭ ‬وتعلّم،‭ ‬ولعلّ‭ ‬النكتةَ‭ ‬التي‭ ‬تُروى‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬الغربة‭ ‬تفسّر‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬فلسفيّ‭ ‬وثقافيّ‭ ‬عميق‭ ‬فداحةَ‭ ‬التجربة‭ ‬وعنفَها‭ ‬وقسوتَها،‭ ‬إذ‭ ‬التقى‭ ‬أحد‭ ‬المغتربين‭ ‬المزمنين‭ ‬مغترباً‭ ‬جديداً‭ ‬لم‭ ‬يمض‭ ‬على‭ ‬هجرته‭ ‬سوى‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة،‭ ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬به‭ ‬الحنين‭ ‬مبلغاً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬احتماله،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬بكلّ‭ ‬بساطة‭ ‬وبرود‭ ‬لا‭ ‬تحزن‭ ‬يا‭ ‬صديقي‭: ‬‮«‬كلّها‭ ‬25‭ ‬سنة‭ ‬غربة‭ ‬ستمرّ‭ ‬عليك‭ ‬مثل‭ ‬البرق‭ ‬ثمّ‭ ‬تتعود‮»‬‭.‬

السفرُ‭ ‬الاختياريّ‭ ‬سفرُ‭ ‬متعة‭ ‬وكشف‭ ‬واكتشاف‭ ‬وتعلّم‭ ‬وخبرة،‭ ‬والسفرُ‭ ‬الاضطراريّ‭ ‬سفرُ‭ ‬قهر‭ ‬وعذاب‭ ‬ومعاناة‭ ‬وقسوة،‭ ‬السفرُ‭ ‬القصيرُ‭ ‬سفرُ‭ ‬سرعة‭ ‬والتقاط‭ ‬واختزال‭ ‬واستغلال‭ ‬مطلق‭ ‬للزمن،‭ ‬والسفرُ‭ ‬الطويلُ‭ ‬سفرُ‭ ‬تأمّل‭ ‬ودُربة‭ ‬وتَحرّ‭ ‬ومعرفة‭ ‬ومعايشة‭ ‬واختبار‭ ‬للسلوك‭ ‬والرؤية‭ ‬والمخيّلة‭ ‬والنظر‭ ‬والأخلاق‭ ‬والثقافة‭ ‬والعلاقات،‭ ‬وبين‭ ‬الاختياريّ‭ ‬والاضطراريّ،‭ ‬وبين‭ ‬الطويل‭ ‬والقصير،‭ ‬يتقلّبُ‭ ‬المسافرُ‭ ‬ناظراً‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬مرّةً،‭ ‬وإلى‭ ‬الأرض‭ ‬مرّةً‭ ‬ثانيةً،‭ ‬يمدّ‭ ‬بصرَهُ‭ ‬مبحراً‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬فلا‭ ‬يجدُ‭ ‬منتهىً‭ ‬بوسعه‭ ‬أنْ‭ ‬يُطمئنَ‭ ‬الروحَ‭ ‬الملتاعةَ‭ ‬الباحثةَ‭ ‬عن‭ ‬مصير‭.‬

إذا‭ ‬كانت‭ ‬الإقامةُ‭ ‬لها‭ ‬معنى،‭ ‬والمكوثُ‭ ‬له‭ ‬معنى‭ ‬آخر،‭ ‬والمرورُ‭ ‬له‭ ‬معنى‭ ‬مختلف،‭ ‬فإنّ‭ ‬معنى‭ ‬السفر‭ ‬مغايرٌ،‭ ‬ولهذا‭ ‬المعنى‭ ‬سيرةٌ‭ ‬مغايرةٌ‭ ‬وفضاءٌ‭ ‬مغايرٌ‭ ‬وحكمةٌ‭ ‬مغايرةٌ،‭ ‬ففي‭ ‬جوف‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬يغيّر‭ ‬المسافرُ‭ ‬الفنادقَ‭ ‬والشققَ‭ ‬والمقاهيَ‭ ‬والمطاعمَ‭ ‬والأرصفةَ‭ ‬والمتاهات‭ ‬ويستقبل‭ ‬المصادفات‭ ‬حلوُها‭ ‬ومرّها،‭ ‬ويدخل‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬الحبّ‭ ‬متقلّباً‭ ‬في‭ ‬أشكاله‭ ‬وظروفه‭ ‬وملذّاته،‭ ‬ويتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬النساء‭ ‬مثلما‭ ‬يتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬المدن،‭ ‬ويتقبّل‭ ‬الغربة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬من‭ ‬أنحاء‭ ‬مزاجه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تتغيّر‭ ‬الكثيرُ‭ ‬من‭ ‬قناعاته‭ ‬في‭ ‬الأشياء‭ ‬وتكتسبُ‭ ‬أخلاقياته‭ ‬وعلاقاته‭ ‬ورؤياته‭ ‬بُعداً‭ ‬جديداً،‭ ‬يخوضُ‭ ‬غمارَ‭ ‬البحار‭ ‬ويخترقُ‭ ‬بياضَ‭ ‬الغيوم‭ ‬ويجتاز‭ ‬طبقات‭ ‬اليابسة،‭ ‬يفقد‭ ‬معنى‭ ‬ويكتسب‭ ‬معنى‭ ‬آخر،‭ ‬يخسر‭ ‬قناعة‭ ‬ويؤلّف‭ ‬أخرى،‭ ‬يهجر‭ ‬أصدقاء‭ ‬وأحبّاء‭ ‬ويتطلّع‭ ‬نحو‭ ‬آخرين‭ ‬في‭ ‬بهجة‭ ‬أخرى‭ ‬وحزن‭ ‬آخر‭. ‬

أشكالُ‭ ‬المدن‭ ‬حين‭ ‬يمرّ‭ ‬المسافرُ‭ ‬بها‭ ‬حاوية،ٌ‭ ‬طاردةٌ،‭ ‬قاسيةٌ،‭ ‬لطيفةٌ،‭ ‬واضحةٌ،‭ ‬غامضةٌ،‭ ‬بسيطةٌ،‭ ‬ومعقدةٌ،‭ ‬رحبةٌ،‭ ‬مزدحمةٌ،‭ ‬هادئةٌ،‭ ‬كثيـرةُ‭ ‬الـضجيج،‭ ‬توقظها‭ ‬الطائراتُ‭ ‬والسياراتُ‭ ‬والقطاراتُ‭ ‬وحفيفُ‭ ‬أقدام‭ ‬المسافرين‭ ‬المسعورة‭ ‬كأنّها‭ ‬أفاعٍ،‭ ‬وتنامُ‭ ‬حين‭ ‬يدهمها‭ ‬النعاسُ‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬يقظتها‭ ‬الدائمة‭ ‬الدائبة،‭ ‬ثمّة‭ ‬مدنٌ‭ ‬رحيمةٌ‭ ‬وأخرى‭ ‬قاسيةٌ‭ ‬لا‭ ‬ترحم،‭ ‬ثمّة‭ ‬مدنٌ‭ ‬جميلةٌ‭ ‬وأخرى‭ ‬قبيحةٌ،‭ ‬يراها‭ ‬المسافر‭ ‬دائماً‭ ‬بعين‭ ‬مزاجه‭ ‬وقوّته‭ ‬وجَلَده‭ ‬وانفعاله،‭ ‬يراها‭ ‬بعزيمته‭ ‬وهدفه،‭ ‬بروحه‭ ‬وجسده،‭ ‬يراها‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬تحته‭ ‬وحين‭ ‬تكون‭ ‬فوقه،‭ ‬يراها‭ ‬حين‭ ‬تنقذه‭ ‬اللغة‭ ‬أو‭ ‬تعجزه‭ ‬أو‭ ‬تحيّره‭ ‬أو‭ ‬تحجبه‭ ‬أو‭ ‬تمحوه،‭ ‬وكلّما‭ ‬كانت‭ ‬المدينةُ‭ ‬صغيرة‭ ‬شعر‭ ‬أنّ‭ ‬بوسعه‭ ‬التمكّن‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما،‭ ‬وكلّما‭ ‬كانت‭ ‬كبيرة‭ ‬وواسعة‭ ‬أحسّ‭ ‬بالضياع‭ ‬والتيه‭ ‬وعنف‭ ‬الغربة،‭ ‬والمدنُ‭ ‬الكبيرةُ‭ ‬صغيرةٌ‭ ‬حين‭ ‬تصادقك،‭ ‬والمدنُ‭ ‬الصغيرةُ‭ ‬كبيرةٌ‭ ‬حين‭ ‬تُعاديك،‭ ‬ويا‭ ‬لحيرة‭ ‬المسافر‭ ‬المغترب‭ ‬الغريب‭ ‬حين‭ ‬يلفّه‭ ‬الليلُ‭ ‬ويبحثُ‭ ‬عن‭ ‬ملاذ‭ ‬يتوافر‭ ‬على‭ ‬لحظة‭ ‬طمأنينة‭ ‬فلا‭ ‬يجدُ،‭ ‬فتصعدُ‭ ‬الغربةُ‭ ‬إلى‭ ‬سقف‭ ‬رأسه‭ ‬مثل‭ ‬ينبوع‭ ‬ألم‭ ‬جارف،‭ ‬وتخرجُ‭ ‬من‭ ‬أنفه‭ ‬مثل‭ ‬زفير‭ ‬كثيف‭ ‬يحرق‭ ‬جبهةَ‭ ‬الهواء،‭ ‬لتدورَ‭ ‬الدنيا‭ ‬به‭ ‬وتسودّ‭ ‬مثل‭ ‬ظلمة‭ ‬رعناء‭ ‬لا‭ ‬قرار‭ ‬لها‭.‬

 

السفرُ‭... ‬سيرةٌ‭ ‬ورحلةٌ

  ‬الرحلاتُ‭ ‬الطويلةُ‭ ‬لها‭ ‬طقوسها‭ ‬ومشكلاتها‭ ‬ومُتَعُها‭ ‬مثلما‭ ‬الرحلاتُ‭ ‬القصيرة‭ ‬لها‭ ‬طقوسها‭ ‬ومشكلاتها‭ ‬ومُتَعُها،‭ ‬الرحلاتُ‭ ‬الطويلةُ‭ ‬تحتاجُ‭ ‬إلى‭ ‬نَفَس‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬والتفاعل‭ ‬مع‭ ‬المكان،‭ ‬مثلّما‭ ‬تحتاجُ‭ ‬الرحلاتُ‭ ‬القصيرةُ‭ ‬إلى‭ ‬تحرّك‭ ‬سريع‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬واستطلاع‭ ‬خاطف‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬وتلك‭ ‬تتشكّلُ‭ ‬الرؤيةُ‭ ‬وتأخذُ‭ ‬وتضيفُ‭ ‬وتلتقطُ‭ ‬وتخصّبُ‭ ‬وترتفعُ‭ ‬في‭ ‬سلّم‭ ‬التجربة،‭ ‬حيث‭ ‬يكبر‭ ‬حجمُ‭ ‬العقل،‭ ‬وتتسّعُ‭ ‬حدقةُ‭ ‬العين،‭ ‬ويثخنُ‭ ‬سُمكُ‭ ‬اليد،‭ ‬وتكتسبُ‭ ‬القدَمُ‭ ‬همّةً‭ ‬أكبر‭ ‬لمواصلة‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬دروب‭ ‬أخرى،‭ ‬تحت‭ ‬سماء‭ ‬أخرى،‭ ‬وطبيعة‭ ‬أخرى،‭ ‬بانتظار‭ ‬مفاجآت‭ ‬جديدة‭ ‬مخبأة‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬يضاعف‭ ‬من‭ ‬الرغبة‭ ‬والمتعة‭ ‬والمعرفة‭ ‬والأمل‭.‬

السفرُ‭ ‬سيرةٌ‭ ‬نموذجيةٌ‭ ‬لتكوين‭ ‬الصداقات‭ ‬المرتجلة،‭ ‬إذ‭ ‬تفرضها‭ ‬الحاجةُ‭ ‬والمصادفةُ‭ ‬وضرورةُ‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬بحكم‭ ‬المعايشة‭ ‬المفروضة‭ ‬قسراً،‭ ‬ولعلّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الصداقات‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أنْ‭ ‬تسوّرَ‭ ‬تجربة‭ ‬السفر‭ ‬بحكايات‭ ‬ورؤيات‭ ‬جديدة‭ ‬لا‭ ‬تُتاح‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬إنسانيّ‭ ‬آخر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬السفر‭ ‬معرفة‭ ‬جديدة‭.‬

‭ ‬تتطلّبُ‭ ‬حساسيةُ‭ ‬السفر‭ ‬جرأةَ‭ ‬الكشف‭ ‬والاكتشاف‭ ‬والسرعة‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬أحياناً‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬حلّ‭ ‬مشكلة،‭ ‬أو‭ ‬تسيير‭ ‬موقف،‭ ‬أو‭ ‬إيضاح‭ ‬رؤية،‭ ‬أو‭ ‬حسم‭ ‬رأي،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬ممّا‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬سيرة‭ ‬السفر‭ ‬من‭ ‬خوف‭ ‬متواصل‭ ‬من‭ ‬المجهول‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكمنَ‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬ولا‭ ‬مجال‭ ‬لتفادي‭ ‬مشكلات‭ ‬وعوائق‭ ‬محتملة‭ ‬تجعل‭ ‬الذات‭ ‬المسافرة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬يقظة‭ ‬دائمة‭ ‬واستعداد‭ ‬تامّ‭ ‬لاتخاذ‭ ‬قرارات‭ ‬سريعة‭ ‬أحياناً‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬مناسبة‭ ‬أو‭ ‬صحيحة،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬توقّع‭ ‬الخطأ‭ ‬والتعامل‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬حقيقةٌ‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬السفر‭ ‬يستحيل‭ ‬تجاهلها،‭ ‬ومثلما‭ ‬يسهم‭ ‬صواب‭ ‬التصرّف‭ ‬بإزاء‭ ‬مشكلة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬رصيد‭ ‬معرفة‭ ‬السفر،‭ ‬فإنّ‭ ‬خطأ‭ ‬التصرّف‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬يقلّ‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬رصيد‭ ‬الصواب،‭ ‬بل‭ ‬ربّما‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬مناسبات‭ ‬معيّنة‭ ‬أكثرَ‭ ‬أهمية‭ ‬وخطورة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬التجربة‭.‬

تمثّل‭ ‬إشكالية‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الوطن‭ ‬والانقطاع‭ ‬عنه،‭ ‬والصراع‭ ‬الانفعاليّ‭ ‬بين‭ ‬الكآبة‭ ‬والحنين،‭ ‬والتذّكر‭ ‬والطموح،‭ ‬والإقدام‭ ‬والإحجام،‭ ‬والتروّي‭ ‬والمغامرة،‭ ‬زاداً‭ ‬أصيلاً‭ ‬للمعرفة‭ ‬التي‭ ‬تتشكّل‭ ‬في‭ ‬حاضنة‭ ‬تجربة‭ ‬السفر،‭ ‬ويظهرُ‭ ‬الكتابُ‭ ‬بوصفه‭ ‬رفيقَ‭ ‬سفر‭ ‬مثاليّاً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬أحلك‭ ‬الظروف،‭ ‬وقــــد‭ ‬يكـــون‭ ‬هو‭ ‬الحلّ‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬المشكلات‭ ‬النفسية‭ ‬والانفعالية‭ ‬حين‭ ‬تظهر‭ ‬فجأة‭ ‬وتضعُ‭ ‬المسافرَ‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬مربك،‭ ‬يكونُ‭ ‬اللجوءُ‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬الكتاب‭ ‬واحةً‭ ‬خضراءً‭ ‬تخترقُ‭ ‬فضاءَ‭ ‬الكآبة‭ ‬لتبلّله‭ ‬بما‭ ‬تيسّر‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬متعة‭ ‬القراءة‭.‬

 

السفر‭ ‬حقيبة

يمكن‭ ‬تعريف‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬معيّنة‭ ‬من‭ ‬صوره‭ ‬بوصفه‭ ‬حقيبةً،‭ ‬والحقائبُ‭ ‬تتنوّعُ‭ ‬في‭ ‬ألوانها‭ ‬وأحجامها‭ ‬وأشكالها،‭ ‬وتختلف‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تحويه‭ ‬من‭ ‬مستلزمات،‭ ‬في‭ ‬خفّتها‭ ‬وثقلها،‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬حملها‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بحاملها،‭ ‬يجرّها‭ ‬وراءه،‭ ‬يحملها‭ ‬بيده،‭ ‬على‭ ‬كتفه،‭ ‬حيث‭ ‬يتشكّلُ‭ ‬نوعٌ‭ ‬من‭ ‬العلاقة‭ ‬الجسدية‭ ‬بين‭ ‬الجسد‭ ‬الحامل‭ ‬والحقيبة‭ ‬المحمولة‭. ‬

السفرُ‭ ‬اختراقُ‭ ‬الزمن‭ ‬واكتشافُ‭ ‬المكان‭ ‬وتشكيلُ‭ ‬الرؤية‭ ‬وتحصيلُ‭ ‬المعرفة‭ ‬وتهذيبُ‭ ‬الروح،‭ ‬وإعادةُ‭ ‬إنتاج‭ ‬الذات‭ ‬المسافرة‭ ‬حين‭ ‬تتخلّى‭ ‬عن‭ ‬أخلاقيات‭ ‬وتضيفُ‭ ‬أخرى‭, ‬تهجرُ‭ ‬قناعات‭ ‬وتضيفُ‭ ‬أخرى،‭ ‬تمحو‭ ‬ملامحَ‭ ‬وتضيفُ‭ ‬أخرى،‭ ‬تُميتُ‭ ‬وجوهاً‭ ‬وتُحيي‭ ‬أخرى‭.‬

السفر‭ ‬منتجٌ‭ ‬أصيلٌ‭ ‬للغربة‭ ‬على‭ ‬بساط‭ ‬الرؤية‭ ‬وعلى‭ ‬بساط‭ ‬المكان‭ ‬وعلى‭ ‬بساط‭ ‬العاطفة،‭ ‬المسافرُ‭ ‬الشخصُ‭ ‬يتماهى‭ ‬مع‭ ‬السفر‭ ‬الحالة‭ ‬ليكونا‭ ‬شيئاً‭ ‬واحداً،‭ ‬سيرةً‭ ‬واحدةً،‭ ‬وكلّما‭ ‬طالَ‭ ‬أمدُ‭ ‬السفر‭ ‬التحما‭ ‬أكثر،‭ ‬وهو‭ ‬التحامٌ‭ ‬مصيريٌّ‭ ‬يستحيلُ‭ ‬فكّ‭ ‬التباسه‭ ‬وذلك‭ ‬لفرط‭ ‬تداخله‭ ‬فكرياً‭ ‬ووجدانياً‭. ‬

من‭ ‬هنا‭ ‬بوسعنا‭ ‬إدراك‭ ‬قيمة‭ ‬المعادلة‭ ‬الشكلية‭ ‬المتوازية‭ (‬تجربةُ‭ ‬السفر‭... ‬سيرةُ‭ ‬المسافر‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬تعكسه‭ ‬من‭ ‬معادلة‭ ‬عاطفية‭ ‬ومعرفية‭ ‬تتوازى‭ ‬فيها‭ ‬صورتان‭ ‬متضافرتان‭ ‬ومتضادّتان‭ ‬في‭ ‬آن‭ (‬عنفُ‭ ‬الغربة‭ ‬ومتعةُ‭ ‬المعرفة‭)‬،‭ ‬وعلى‭ ‬أساس‭ ‬هاتين‭ ‬المعادلتين‭ ‬المتفاعلتين‭ ‬والمتضاهيتين‭ ‬يُمكن‭ ‬بناءُ‭ ‬فهم‭ ‬بانوراميّ‭ ‬لفلسفة‭ ‬السفر‭ ‬سلوكاً‭ ‬وتجربةً‭ ‬وحياة‭ .