صحيفةُ السَّفرِ عنفُ الغربة ومتعةُ المعرفة
ينبغي أنْ ينفتحَ هذا العنوانُ الإجرائيّ (صحيفةُ السفر) على معنى عميق يتكدّس في عنوان موازٍ هو «تجربة السفر»، إذ تتجلّى الدلالة على أوسع فضاء ممكن أو محتمل، تتحرك فيه مفردة «تجربة» في سياق تفجير كلّ الطاقة المفهومية والحمولة السّيميائية التي تحتملها، فالتجربةُ مفهومٌ عريضٌ وطويلٌ يشتغل أفقياً وعمودياً بلا حدود تقريباً، والتجربة التي نقترحها مفهوماً وإجراءً لا تقترن بالقصدية اقتراناً يسبق الفعل، بل يترشح عن اللاقصدية أحياناً حين يتمكّن الفعل من بلوغ درجة المغامرة المنتجة في مرآة التحصيل، ويبدو أنّ مفهوم المغامرة ملاصقٌ على نحو ما لمفهوم التجربة، وكأنّ التجربة لا تستقيم مفهومياً من دون احتوائها على نطفة مغامرة في أيّ طبقة من طبقاتها، أو أيّ حلقة من حلقاتها.
حين تضاف مفردة «التجربة» إلى مفردة «السفر»، فإنّها تتوجّه بكليّتـــها إلى بيت السفر ومحتواه، ومفردة «السفر» مفردة هائلة في كثافتها وحيويتها واتساعها وتعددها وشموليتها، ليس لها حدود على صعيد الدّلالة، وليس لها سقوف في رؤية المعنى، السفر نقيض المكوث وضدّ الإقامة، حركة جوّابة في المكان والزمان والإنسان، في الواقع والخيال، في الرؤية والظنّ، حركة مفتوحة في مظهريّة الخارج وحركة عميـــقة فــي باطنيّة الداخل، تحوّلٌ متعمّدٌ في الثبات، وتوغّــلٌ طائلٌ في ظلمة كابسة، بحثاً عن أمل الضوء الكامن في مكان ما من سطح المحسوسات وطيف المهموسات، بكلّ ما يزخر به ذلك من تحصــــيل معرفــــة وتــجدّد روح وتغيير مصــير وفهم آخر للأشياء.
توازي «تجــربة الســــفر» في سياق رؤيويّ من سياقاتها «سيرة المسافر»، إذ هو يؤلّف سيرةً جديدةً له في باطـــن التجــــربة وعلى حدودها وفي ظلالها، يمتــــحنُ تجــــلّياتها ويختبر طاقاتها ويحضّها على مزيد من الثراء والتطلّع والكــسب، في السبيل نحو تكثيف سيرته السفريّة المسافرة، وهي تتشكّل من اللحظة والبرهة واللقطة والموقف والمشهد والرؤية والملاحظة، حين تدنو من الأشياء وحيـــن تبـــتعد، حين ترغب في الأشياء وحين ترغب عنها، لتمتزجَ التـــجربةُ بالــــسيرة امـــــتـــزاجَ معرفة ويقين وسلطة وحنين، ويتوازى السفر مع المســــافر موازاةَ دلالة ومعنى وقيمة وأفق.
تجارب إنسانية
الرحلات القديمة مع ما كانت تحفــــل به من صعوبات جمّة يتــــعلّق معظمــــها ببطء حركة وسائل السفر والمفاجآت غير السارّة التي قد تحصل في مساحة الزمن الطــــويلة المضنية، إلّا أنّ الرحّالة وهــــم يسطّرون تجاربهم الرحليّة في سيرهم يكشفون عن خصب خلّاب في صناعة تجارب إنسانية ثــــقافية لا يمــــكن أن تتكرّر، لا يحصل بالتأكيد مع السفر الحديث بوسائله الفائقة الرفاهـــية والراحة وسرعة بلوغ الهدف، فالزمن الذي كان يقطعه الرحّالة القدماء في أشهر طويلة لا يستغرق الآن بالطائرات الحديثة سوى ساعات، وهو ما غيّر مفهوم السفر والرحلة والتــــجربة تغـــييراً عميقاً ربما لا يدركه سوى من خَبرَ نمطاً من أنماط السفر القديم على نحو ما.
السفرُ... استكشافٌ وغربةٌ
استثمر الرحالة والمستشرقون بطء حركة السفر وطول المسافة على الأرض والانتقال من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة كي يشتغلوا على أهدافهم الكولونيالية والثقافية في دراسة الشعوب، وغالباً ما يكون الشرق (والشرق العربيّ على نحو خاص) هو وجهتهم في ذلك، ومنه اكتسبوا الصفة الاصطلاحية الشهيرة (المستشرقون)، وقد ظلّتْ ملازمةً لهم في مدوّنة الفكر الحديث، بكلّ ما انطوت عليه استراتيجية التسمية من مزايا وسلبيات بحكم منهج الدراسة الذي طال نظرية الاستشراق وهويتها ومقصديتها.
الغربةُ مفصلٌ جوهريٌّ من مفاصل تجربة السفر بما تحتويه من عنف ومعاناة قاسية وخبرة وتعلّم، ولعلّ النكتةَ التي تُروى عن تجربة الغربة تفسّر على نحو فلسفيّ وثقافيّ عميق فداحةَ التجربة وعنفَها وقسوتَها، إذ التقى أحد المغتربين المزمنين مغترباً جديداً لم يمض على هجرته سوى أشهر قليلة، وقد بلغ به الحنين مبلغاً لا يمكن احتماله، فقال له بكلّ بساطة وبرود لا تحزن يا صديقي: «كلّها 25 سنة غربة ستمرّ عليك مثل البرق ثمّ تتعود».
السفرُ الاختياريّ سفرُ متعة وكشف واكتشاف وتعلّم وخبرة، والسفرُ الاضطراريّ سفرُ قهر وعذاب ومعاناة وقسوة، السفرُ القصيرُ سفرُ سرعة والتقاط واختزال واستغلال مطلق للزمن، والسفرُ الطويلُ سفرُ تأمّل ودُربة وتَحرّ ومعرفة ومعايشة واختبار للسلوك والرؤية والمخيّلة والنظر والأخلاق والثقافة والعلاقات، وبين الاختياريّ والاضطراريّ، وبين الطويل والقصير، يتقلّبُ المسافرُ ناظراً إلى السماء مرّةً، وإلى الأرض مرّةً ثانيةً، يمدّ بصرَهُ مبحراً في المدى فلا يجدُ منتهىً بوسعه أنْ يُطمئنَ الروحَ الملتاعةَ الباحثةَ عن مصير.
إذا كانت الإقامةُ لها معنى، والمكوثُ له معنى آخر، والمرورُ له معنى مختلف، فإنّ معنى السفر مغايرٌ، ولهذا المعنى سيرةٌ مغايرةٌ وفضاءٌ مغايرٌ وحكمةٌ مغايرةٌ، ففي جوف هذا المعنى يغيّر المسافرُ الفنادقَ والشققَ والمقاهيَ والمطاعمَ والأرصفةَ والمتاهات ويستقبل المصادفات حلوُها ومرّها، ويدخل في تجارب الحبّ متقلّباً في أشكاله وظروفه وملذّاته، ويتعرّف إلى النساء مثلما يتعرّف إلى المدن، ويتقبّل الغربة على نحو من أنحاء مزاجه بعد أن تتغيّر الكثيرُ من قناعاته في الأشياء وتكتسبُ أخلاقياته وعلاقاته ورؤياته بُعداً جديداً، يخوضُ غمارَ البحار ويخترقُ بياضَ الغيوم ويجتاز طبقات اليابسة، يفقد معنى ويكتسب معنى آخر، يخسر قناعة ويؤلّف أخرى، يهجر أصدقاء وأحبّاء ويتطلّع نحو آخرين في بهجة أخرى وحزن آخر.
أشكالُ المدن حين يمرّ المسافرُ بها حاوية،ٌ طاردةٌ، قاسيةٌ، لطيفةٌ، واضحةٌ، غامضةٌ، بسيطةٌ، ومعقدةٌ، رحبةٌ، مزدحمةٌ، هادئةٌ، كثيـرةُ الـضجيج، توقظها الطائراتُ والسياراتُ والقطاراتُ وحفيفُ أقدام المسافرين المسعورة كأنّها أفاعٍ، وتنامُ حين يدهمها النعاسُ على الرغم من يقظتها الدائمة الدائبة، ثمّة مدنٌ رحيمةٌ وأخرى قاسيةٌ لا ترحم، ثمّة مدنٌ جميلةٌ وأخرى قبيحةٌ، يراها المسافر دائماً بعين مزاجه وقوّته وجَلَده وانفعاله، يراها بعزيمته وهدفه، بروحه وجسده، يراها حين تكون تحته وحين تكون فوقه، يراها حين تنقذه اللغة أو تعجزه أو تحيّره أو تحجبه أو تمحوه، وكلّما كانت المدينةُ صغيرة شعر أنّ بوسعه التمكّن منها على نحو ما، وكلّما كانت كبيرة وواسعة أحسّ بالضياع والتيه وعنف الغربة، والمدنُ الكبيرةُ صغيرةٌ حين تصادقك، والمدنُ الصغيرةُ كبيرةٌ حين تُعاديك، ويا لحيرة المسافر المغترب الغريب حين يلفّه الليلُ ويبحثُ عن ملاذ يتوافر على لحظة طمأنينة فلا يجدُ، فتصعدُ الغربةُ إلى سقف رأسه مثل ينبوع ألم جارف، وتخرجُ من أنفه مثل زفير كثيف يحرق جبهةَ الهواء، لتدورَ الدنيا به وتسودّ مثل ظلمة رعناء لا قرار لها.
السفرُ... سيرةٌ ورحلةٌ
الرحلاتُ الطويلةُ لها طقوسها ومشكلاتها ومُتَعُها مثلما الرحلاتُ القصيرة لها طقوسها ومشكلاتها ومُتَعُها، الرحلاتُ الطويلةُ تحتاجُ إلى نَفَس طويل في التعامل مع الزمن والتفاعل مع المكان، مثلّما تحتاجُ الرحلاتُ القصيرةُ إلى تحرّك سريع في الزمن واستطلاع خاطف في المكان، وفي هذه وتلك تتشكّلُ الرؤيةُ وتأخذُ وتضيفُ وتلتقطُ وتخصّبُ وترتفعُ في سلّم التجربة، حيث يكبر حجمُ العقل، وتتسّعُ حدقةُ العين، ويثخنُ سُمكُ اليد، وتكتسبُ القدَمُ همّةً أكبر لمواصلة السير في دروب أخرى، تحت سماء أخرى، وطبيعة أخرى، بانتظار مفاجآت جديدة مخبأة في مكان ما يضاعف من الرغبة والمتعة والمعرفة والأمل.
السفرُ سيرةٌ نموذجيةٌ لتكوين الصداقات المرتجلة، إذ تفرضها الحاجةُ والمصادفةُ وضرورةُ التواصل مع آخرين بحكم المعايشة المفروضة قسراً، ولعلّ الحاجة إلى مثل هذه الصداقات من شأنها أنْ تسوّرَ تجربة السفر بحكايات ورؤيات جديدة لا تُتاح في ظرف إنسانيّ آخر، وهو ما يضيف إلى فكرة السفر معرفة جديدة.
تتطلّبُ حساسيةُ السفر جرأةَ الكشف والاكتشاف والسرعة في اتخاذ القرارات أحياناً على نحو يسهم في حلّ مشكلة، أو تسيير موقف، أو إيضاح رؤية، أو حسم رأي، على الرغم ممّا تنطوي عليه سيرة السفر من خوف متواصل من المجهول يمكن أن يكمنَ في أيّ زمان ومكان، ولا مجال لتفادي مشكلات وعوائق محتملة تجعل الذات المسافرة في حالة يقظة دائمة واستعداد تامّ لاتخاذ قرارات سريعة أحياناً قد لا تكون مناسبة أو صحيحة، لا بدّ من توقّع الخطأ والتعامل معه على أنّه حقيقةٌ ماثلة في سيرة السفر يستحيل تجاهلها، ومثلما يسهم صواب التصرّف بإزاء مشكلة ما في رصيد معرفة السفر، فإنّ خطأ التصرّف في السياق نفسه لا يقلّ أهمية عن رصيد الصواب، بل ربّما يكون في مناسبات معيّنة أكثرَ أهمية وخطورة في بناء التجربة.
تمثّل إشكالية التواصل مع الوطن والانقطاع عنه، والصراع الانفعاليّ بين الكآبة والحنين، والتذّكر والطموح، والإقدام والإحجام، والتروّي والمغامرة، زاداً أصيلاً للمعرفة التي تتشكّل في حاضنة تجربة السفر، ويظهرُ الكتابُ بوصفه رفيقَ سفر مثاليّاً لا يمكن الاستغناء عنه في أحلك الظروف، وقــــد يكـــون هو الحلّ للكثير من المشكلات النفسية والانفعالية حين تظهر فجأة وتضعُ المسافرَ في وضع مربك، يكونُ اللجوءُ فيه إلى الكتاب واحةً خضراءً تخترقُ فضاءَ الكآبة لتبلّله بما تيسّر من ماء متعة القراءة.
السفر حقيبة
يمكن تعريف السفر في صورة معيّنة من صوره بوصفه حقيبةً، والحقائبُ تتنوّعُ في ألوانها وأحجامها وأشكالها، وتختلف في ما تحويه من مستلزمات، في خفّتها وثقلها، في طريقة حملها وعلاقتها بحاملها، يجرّها وراءه، يحملها بيده، على كتفه، حيث يتشكّلُ نوعٌ من العلاقة الجسدية بين الجسد الحامل والحقيبة المحمولة.
السفرُ اختراقُ الزمن واكتشافُ المكان وتشكيلُ الرؤية وتحصيلُ المعرفة وتهذيبُ الروح، وإعادةُ إنتاج الذات المسافرة حين تتخلّى عن أخلاقيات وتضيفُ أخرى, تهجرُ قناعات وتضيفُ أخرى، تمحو ملامحَ وتضيفُ أخرى، تُميتُ وجوهاً وتُحيي أخرى.
السفر منتجٌ أصيلٌ للغربة على بساط الرؤية وعلى بساط المكان وعلى بساط العاطفة، المسافرُ الشخصُ يتماهى مع السفر الحالة ليكونا شيئاً واحداً، سيرةً واحدةً، وكلّما طالَ أمدُ السفر التحما أكثر، وهو التحامٌ مصيريٌّ يستحيلُ فكّ التباسه وذلك لفرط تداخله فكرياً ووجدانياً.
من هنا بوسعنا إدراك قيمة المعادلة الشكلية المتوازية (تجربةُ السفر... سيرةُ المسافر)، وما تعكسه من معادلة عاطفية ومعرفية تتوازى فيها صورتان متضافرتان ومتضادّتان في آن (عنفُ الغربة ومتعةُ المعرفة)، وعلى أساس هاتين المعادلتين المتفاعلتين والمتضاهيتين يُمكن بناءُ فهم بانوراميّ لفلسفة السفر سلوكاً وتجربةً وحياة .